الملحون “ديوان المغاربة” الذي يعكس غنى رؤاهم وتوجهاتهم ومعيشهم وتجاربهم، ويختزل كل هذا في قصائد شفهية ومكتوبة بدارجة رفيعة مقفاة تمدح الرسول، أو تعظ الناس وتشاركهم الحكم، أو تنبههم إلى الأخلاق المذمومة، كما تتغزل أو تتغنى بالجمال أو بما تشتهيه الأنفس.
لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية جمعت في سلسلة “التراث” أبرز دواوين الملحون المغربيّ وأعدتها، فوضعت “موسوعةُ الملحون” على الرفوف، قبل ثلاث سنوات، جزأها الحادي عشر الذي نظمه الفقيد الحاج أحمد سهوم، ليجاور دواوين: عبد العزيز المغراوي، والجيلالي امتيرد، ومحمد بن علي ولد ارزين، وعبد القادر العلمي، والتهامي المدغري، وأحمد الڭندوز، وأحمد الغرابلي، وإدريس بن علي السناني، والمولى عبد الحفيظ، ومحمد بن علي المسفيوي الدمناتي.
تروم سلسلة هسبريس هذه تقديم بعض من قصائد الملحون المغربية، وناظميها، وبيان عمق مضامينها، وما تحمله من غنى، انطلاقا من العمل التوثيقي المعنون بـ”موسوعة الملحون” الذي أشرف عليه عضو أكاديمية المملكة المغربية عباس الجراري وعدد من الخبراء والمتخصصين.
أمين الخرازة وعميد الشعراء
كان الشيخ أحمد الڭندوز أمينا لمحترفي مهنة الخرازة وعميدا للشعراء بفاس، بعدما انتقل إليها من الرباط التي ولد بها، وعاصر السلطان المولى عبد الرحمن وابنه السلطان محمدا الرابع، في القرن التاسع عشر.
ووفق مقدمة عميد الأدب المغربي عباس الجراري لديوان شيخ الملحون، فإن مما يدل على طول باعه في هذا الفن “ما كان بينه وبين شعراء فاس من معارضات”.
واشتهر الڭندوز في مجالات ثلاثة من “الكْلام”، أولها، حسب المصدر نفسه، “التلزيم أو التضمين؛ وهو المعروف في الشعر العربي بـ”لزوم ما لا يلزم”. وفيه يلتزم الشاعر بما هو غير ملزم به في نظم قصيدته، مما هو خارج عن المألوف المعتاد، كأن يجعل مع حرف الروي حرفا آخر. وهو المقصود في الملحون بـ”التلزيم”. ويطلق عليه كذلك “التضمين”. وهي تسمية تعني أن الشاعر يضمن قافيته أكثر من حرف”.
أما ثاني ما اشتهر به شاعر الملحون هذا فـ”التجنيس أو الجناس، وهو ما يطلق عليه كذلك التجانس والمجانسة، وأعلاه في علم البديع ما يكون في الملحون من النوع اللفظي التام الذي هو أكمل الأنواع، إذ يتحقق الاتفاق بين اللفظين في طبيعة الحروف وعددها وترتيبها وضبطها مع الاختلاف في المعنى”.
واستشهد الجراري بما ارتبط به اسم أحمد الڭندوز: “رايس التضمين والتجنيس”، ثم أمّن على صحة هذا الوصف؛ فـ”لو تتبعنا سائر قصائد الڭندوز لوجدنا أنه برع في استخدام هذين الفنين: التضمين والتجنيس (…) وهو يستعملهما بعفوية وتلقائية، وفي غير تكلف؛ مع إغناء للمعنى، وليس لمجرد تكرار بعض الكلمات أو الحروف”.
وثالث المجالات التي اشتهر هذا الشاعر بالقول فيها ذكر “احمادشة”، وهي طائفة مريدة لسيدي علي ابن حمدوش، دفين جبل زرهون. وهي قصائد يطلق عليها اسم “الدراع”.
وقدم الجراري مثالا بطريقة كتابة إحدى “حمدوشيّات” الڭندوز، كاتبا: “هي تسير على نظام المبيت المثنى، مع وحدة في القافية (…) مع تكرار بعض العبارات كالبسملة أو التصلية على النبي ﷺ، أو ذكر اسم ابن حمدوش؛ مما يثير إيقاعا يساعد على تواجد المريدين أثناء طوافهم بالشوارع، وكذا في حلقات الجذب التي غالبا ما يكون الإنشاد فيها مصحوبا ببعض آلات الصدم والنفخ كالهرازي والطبل والنفير والمزمار”.
محنة ورقابة
لم تخل حياة الشيخ أحمد الڭندوز من صعوبات وعقبات؛ من بينها ما تذكره مقدمة ديوانه حول “سبب انتقاله إلى فاس” مرجّحة أن يكون السبب “الأوضاع التي كانت عليها الرباط وسلا، على إثر الهجوم الفرنسي عليهما عام 1268 هـ، الموافق لـ 1851 م، وكان عام مسغبة، بعد أن نهب السكان ما كان بمركبين فرنسيين من الزرع”.
ويتابع عباس الجراري: “حثّت هذه الواقعة بعض شعراء الملحون للقول (…) ويبدو أن الشاعر الڭندوز نظم شعرا هجائيا بالمناسبة لم يكن ليرضى عنه السكان، مما اضطره إلى ذلك الانتقال”.
ويستشهد الجراري بـ”معلمة الملحون” لمحمد الفاسي، الذي ذكر أنه “لما وقعت قضية القمح مع الفرنسيين بسلا، طلب أغنياء سلا من بعض أهل الرباط أن يتوسطوا لهم في كف رمي القنابل من السفن الفرنسية على سلا، ففعلوا وأعطوا لرسول أهل سلا أعلاما لتجعل فوق دار أولئك الأغنياء ليلا تضرب، فتعرض للرسول صعاليك أهل سلا المعروفون بالرماة (الزمنطوط) وأخذوا منه تلك الأعلام ومزقوها وتغوطوا عليها. ولما تمت الهدنة نظم الڭندوز قصيدة ذكر فيها طلب أهل سلا التوسط من الرباطيين وهجا فيها أهل سلا”.
هذه القصيدة، التي لا أثر لها اليوم رغم بحث “لجنة الملحون” عنها، أغاظت السلويين “ومزقت القصيدة، وأعدمت، وصار شبان أهل سلا يأتون إلى الرباط ويمرون على دكانه بالسوق (زنقة القناصل) ويقولون “اشكون هذا، قال الڭندوز، يقولون (أوطا ودوز)” فضيق به هذا الأمر، وخاف على نفسه ما لا تحمد عقباه بين أهل العدوتين، فغادر الرباط وذهب إلى فاس”.
لكن الحال بالعاصمة السابقة لم يختلف كثيرا من حيث القَبول، فخلال “مدة إقامته بفاس زورت عليه قصائد في ذم المخزن. وهكذا لم يلاق حظا بفاس”.
ديوان الڭندوز
يوثق ديوان الشيخ أحمد الڭندوز الذي جمعته وأعدّته لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، وصدر ضمن موسوعة الملحون، سبعين قصيدة “يغلب عليها غرض الغزل والمديح النبوي” وجلها موقعة، وحتى حين لا يذكر فيها اسمه فإن “النفس الذي يعلوها يدعو إلى اعتبارها له”، وهو ما أضافت إليه اللجنة “قصيدتين اثنتين لم نتأكد منهما، فأدرجناهما منسوبتين إليه”.
ومن بين الأغراض التي كتب فيها الڭندوز “المدائح”؛ ومن بينها: “يا سعد من اوْطى مراسم طيبة”، و”الإدريسية”، و”لا إله إلا الله سلطانة الأقوال”، و”صليوْا على صاحب اللوا”، و”في مدح الكعبة”.
كما كتب “تأملات” في قصائد “الّايم”، و”لوح يا راسي كل اشْقا”، و”ما في الزّين ارفيق”، و”الشيب”. وكتب “الرثاء” في السلطان عبد الرحمان، و”الهجاء” في قصيدة “فتّك في الجحيد يا حفاظي”، وكتب “خمريات” مثل “الخمرية” و”الساقي”.
ويورد الديوان خمس “حمدوشيات” للشيخ أحمد الڭندوز؛ من بينها: “خلق الإنسان”، و”الورشان الصغير”، و”الدراع”.
ويضم الديوان أزيد من أربعين قصيدة ملحون في الغزل “عشاقيات”؛ من ضمنها: “الغالب”، و”رواف أعز احبابي”، “وسودة الاهداب”، و”محجوبة”، و”الياقوت”، و”خدّوج”، و”المرسم”، و”الجافي”، و”جود عليّ بوصال”.
من ملحون الشيخ
قال الشاعر في قصيدة “الغالب” العشقية: “قَصَّرْ في التّيه يا السّالب / عقلِي بشمايل البها يكفى من العتابْ // قُول لي صدُودَكْ آشْ كانْ سَبَّة // عَيْبْ المَحْبُوبْ يا غزالِي يَسْخى بحْبِيبُه // حَسْنَك للعْقُولْ جالَبْ / وغرامَكْ جارْ ما اعْفى عن قَتْلي غَلَّابْ // خالفْ من الله أناكَر المْحَبّة / جَرْحِي بجْفاكْ طالْ ما صَبْتْ للكُلْ اطْبِيبُه”، وحربتها (لازمتها): “سَلْتَك لله يا الغالَب / بحْكامْ الجُورْ لا اتْزيدْ لقلْبِي تَعْدابْ // مالَكْ هاجَرْ رَسْمي من غِيرْ سَبَّة / لا تَجْفِي من اهْوى اجْمالَكْ لا بُد اْتْصِيبُه”.
وفي قصيدة “الفجر” كتب: “يَقَّدْ جَفْنَكْ شُوفْ يا السّاهي مُلْكْ الرّحْمانْ // كيف افْرَقْ بين الضَيا وبين الدّاجْ في الكحالْ // ما يَشْبَه هذا لدى حازُه عزّ وتَفْضيلْ // اللّيل احْكيتُه اهْمامْ جا من أرْضْ السّودانْ // وعلى رَأْسُه تاجْ بالضْيا يَضوي كلّ امْيالْ”، كما يقول فيها: “سالْ اصْحابْ الزَّهْوْ عن اطْلُوع الفَجْرْ إيْبانْ // عنهم في ابْساطْ الرّضى وكل عشِيق شَمْلالْ // العْوانَسْ يَسْبِيوْا كُلْ عَدْرَة تَعْدَل واتْميلْ // إيْدَرْجوا بين الاشْجارْ كنّ اجلايَبْ غَزْلانْ // إيْتِهُوا ويتِيهُوا العاشَق بالبْهى وكمالْ”.
إلى أن يقول في القصيدة نفسها: “إلا جَلْسوا لساعة الرضى لرْشيفْ الكيسانْ // السّاقِي يَهْدِي افْناجَلْ الخْمَرْ على الاشْكالْ // ما يَغْفل عن كل من احْضر والمَسْطارْ اهْطيلْ // بالألَة والجنْكْ والربابْ وطَرّ وعيدانْ // والنّاشَدْ في اغْرِيبْة الحْسينْ مع الاستهلالْ // والقصايد في طرز أڭباحْ وانْغايم رَصدْ الدِّيلْ”.
وقال في مطلع قْصيدة “الإدريسية”: “أمولايا سبحان من انْشاك وودَّك نَعْمْ الجْليلْ // بالحَلم والفْضَل والرّافة وَدَّك / بالسْرور اتْرَقّى مَجدَكْ // للسْبيلْ الصّافي رَشْدَكْ // لمن إيْقَصْدَك / اتْجُود لُه بوَدَّك // يظفر بمناه من اسْرار العالِي / لن بحر جودك مالِي // اتْغيرْ واتْغيتْ واتحامِي من اعْلِيك عَيَّط // وتعالَج عَلَّة الهْريس”، وحربتها: “يا بحر الجُود والمْقامْ العالي / يا اهْمام فاسْ البالي // يا السُّلطان ابْن السُّلْطان يا الوالي مولاي ادْريسْ بن ادْريس”.
وفي حربة إحدى “حمدوشياته” كتب “ڭبل شهر الميلود يا الوالي للزورة احتال / نوصل بن حمدوش هيبتي الهمام البودالي”.
ومن بين ما قال في هذه القْصيدة المعنونة بـ”الدراع”: “آشْ را من لا شاف يوم تخرج الركاب على الكمال // بعلوم على كل لون من بهجة فاس البالي // عقياني در اللؤلؤ و لغاهم يهيج الابطال // واصحاب الحضرة مخمرين ولا فيهم تالي // وشياك من ليوث و شبان مثل الاشبال // من رام حماهم كينال قصده و يولي سالي // الشاتم فيهم راح يترشك بسنون النبال // وسلطان يغير عن صاحبه يا من يصغى لي // من لا شهد يوم سابع عيد فعمره وعمره ولا صال // ما شاهد سر الهمام المخنتر ضي انْجالي // ما شاهد حضرة كن رعد تزكلم بين الجبال // ما شاهدتي ياك كن دراغم في الحرب تشالي // ما شاهدت عدرات كيرقصوا في الحضرة دون حال // ما شاهد صبيان في الرضاعة في حضرة الوالي // ما شاهد نخلة في ساعة الحضرة ما بين الاحوال // كتعدل وتميل هازها الهوى كيف اجرى لي”.
وفي قصيدة “الشيب” قال الڭندوز: “ءاه عليّ انْظَرْت في اخْيالِي الخيالْ / وخيالي يا تْراه لُو شاف اخْيالُه // ينظر اشْعر الخداع بْيَّضْ بعد اكْحالْ / وشعُور الثّغر بياضُوا بعد اكْحالوا // وهمامْ الشِّيب دڭّ في العرف وعوّال / يترك شعر العدارْ بالجْمعْ ابْحالُه // هو الرّقّاص قال لِّي عَوّل واحْتالْ / من جِيتْ لعندهم بالجميع انْسالوا // انَطقْتْ أنا وقلت لُه شلّا يُحْمالْ / من يعرفْ تقلهم نفضد مادى لُه”.
ويواصل حواره في القصيدة قائلا: “على دَنْبي ايْحَق لِي نَرْتي وانْسالْ / وعلى دَنْبي ايْحَقْ من شُفت انْسالُه // وعلى دَنْبِي أنُّوحْ عسّى كانْ أنّالْ / عسى وعلى أنّالْ زَي اللِّي نالو // انْطَقْ هو وقال لي لاشْ التّهْوالْ / مُولانا قالْ للرّسُولْ مع ءالُه // من شاب في ذا الاسلامْ شبّة اسعد ونالْ / وظفَر بسوايَعْ الرّضى وسعَد فالُه // ونا رقّاصْ جيتْ لك عَوَّل تنشالْ / تسكُن رَوْضْ النعيم وتدوقْ امْصالُه // بفْضايَل شافَع الوْرى خاتَمْ الارسالْ / مَدّاحُه ما يخافْ ما دامْ اجا لُه // انطَقت أنا وقلت لُه حُبُّه في البال / دُونْ مَدْحُهْ خاطْري ما يزْهى لُه // مَدْحُه هو ادْخيرتِي هو راسْ المالْ / هو رَبْحِي واشْ من رَبْحْ ابحالُه // عن مَدْحُه ما انْزُولْ في قصايَد واسجالْ / مَدْحُه هو بدأ اسْرورِي وكمالُه // في صلاتُه صَبْتْ راحْتي دُون التَّعطالْ / وصلاتُه ساكْنَة الحْشى كتَزْهى لُه”.
ويتابع: “صلّى الله عليه ما شالَت الاحْمالْ / وما احْدَى كل حادِي لحمالُه // صلّى الله عليه ما لَمْحَت الانْجالْ / وما ازْڭى كلّ كايَنْ بانْجالُه // صلْى الله عليه قَدّ انْسا ورجالْ / واعْدادْ اللّي امْضاوْا واللِّي ما زالُوا // صلّى الله عليه قَدّ انْفاس امْئالْ / واعْدادْ الْفاظْ كلّ قايَلْ واقْوالُه // صلّى الله عليه قدّ انْمَل وانْحالْ / واعدادْ اجْرادْ والاطْيارْ وما جالُوا // صلّى الله عليه قدّ احْصى وارمالْ / واعدادْ اعْشوبْ وانباتْ وما حالُوا // صلّى الله عليه قَدّ اوْحوشْ الفالْ / واعْدادْ ما اسْكَن البحَرْ بكْمالُه // صلّى الله عليه قدّ ابْيَض وكحالْ / واعْدادْ ما في علم من يَعْلَمْ حالُه // وعطاهْ العزّ والشمايَلْ والتَّفْضالْ / ما كانْ واللِّي ايْكونُ في الكُون امْثالُه”.