يرى الإعلامي خالد وديرو، المختص في قضايا الهجرة واللجوء، أن التعديلات التي عرفتها اتفاقية دبلن هي تحصيل حاصل للمشهد السياسي، ورد الفعل المجتمعي الأوروبي عموما والسويدي خصوصا، الذي ينحو تجاه رفض السياسة السخية تجاه اللاجئين، عقب تسجيل تحفظات عديدة أمام فشل اندماج فئة عريضة منهم داخل المجتمع المستقبل.
وأضاف الكاتب، في مقال معنون بـ”أزمة الهجرة والاندماج بالسويد… وتحولات المشهد السياسي”، أن المجتمع السويدي مسالم ومنفتح.. لكن هذا السخاء الذي جسد في سياسة الأحزاب المشكلة للحكومات السابقة بدأ يأفل تدريجيا، لأن المجتمع السويدي بدأ يسجل قلقا واضحا بخصوصه في ما يخص قدوم اللاجئين واندماجهم.
وهذا نص المقال:
أزمة الهجرة والاندماج بالسويد… وتحولات المشهد السياسي
في مقال سابق تحدثنا عن تراجعات مرتقبة في ما يخص اتفاقية “دبلن” كخريطة طريق للهجرة واللجوء في أوروبا عموما، وانعكاسها خصوصا على المشهد السياسي والحزبي بالسويد؛ وفعلا تم ذلك بفعل ما أشرنا إليه سابقا نتيجة تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا من جهة، وما يطبع النقاش العمومي في القارة العجوز من مساءلة لسياسات الهجرة الأوروبية ونتائجها، خصوصا في ما يتعلق بمسألة الاندماج داخل البيئة الجديدة.
اتفاقية دبلن عرفت أساسا بنودا وتعديلات جديدة تشدد الخناق على طلبات اللجوء داخل الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاقية؛ كإلغاء طلب لجوء الأشخاص الذين يرفضون الترحيل إلى دولة البصمة الأولى..أو أيضا رفض تقديم طلب لجوء في دولة ثانية بعد الحصول على الرفض في الدولة الأولى التي تم فيها التقدم بطلب اللجوء، والتنسيق بين الدول المعنية لمعرفة ذلك.
هذه التعديلات أو بالأحرى “التراجعات” هي في الحقيقة عبارة عن تحصيل حاصل للمشهد السياسي ورد الفعل المجتمعي الأوروبي عموما والسويدي خصوصا، الذي ينحو تجاه رفض هذه السياسة السخية تجاه اللاجئين، بعد تسجيل تحفظات عديدة أمام فشل اندماج فئة عريضة منهم داخل المجتمع المستقبل.
فما أسباب هذه التراجعات؟ وما انعكاساتها على المشهد السياسي السويدي؟ وكيف ساهم القادمون الجدد -بطريقة ما- في إنتاج هذا الوضع؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار دفوعات اليمين المتطرف SD موضوعية ومقنعة؟ وهل تحولت الهجرة واللجوء في السويد إلى أزمة اجتماعية فعلا؟.
لفهم المشهد السياسي السويدي المؤثث للانتخابات التشريعية المقبلة، وما ستؤول إليه من نتائج، يجب أولا أن ننطلق من نتائج انتخابات سنة 2018، وما أفرزته من نتائج غير تقليدية عكست تحولات جذرية للرأي العام والشارع السويدي، تتمثل أساسا في الصعود السريع لحزب SD المناهض لسياسات الحكومة في الهجرة واللجوء بالبلد، ومنافسته للحزب الاشتراكي الديمقراطي المساند التاريخي لسياسة الهجرة واللجوء، بشكل كبير أفرز أزمة تشكيل حكومة أغلبية تقليدية أجلت الحسم فيها لشهور، ما يبين تصاعد اليمين بشكل عام وقوة تأثيره على القرار السياسي السويدي.
المجتمع السويدي مجتمع ديمقراطي ويحترم القوانين المتعاقد عليها بشكل كبير، إن لم نقل “مقدس”، وهذا يعني أن الصوت السياسي للأحزاب هو مجرد صدى صريح لما تعبر عنه التوجهات العامة للشارع السويدي، وتغير أحكامه من “ما كان” و”ما ينبغي أن يكون”.
وبناء عليه يمكن فهم لماذا صرحت بشكل واضح رئيسة الوزراء “مجدلينا اندرشن” -زعيمة حزب الديمقراطي-الاشتراكي بوصفه المدافع التاريخي عن المهاجرين واللاجئين- بأن “الاندماج كان سيئا جدا في السويد”، مضيفة أنه “يجب أن يغادر السويد كل من ليس لديه أسباب لجوء”، في إشارة واضحة إلى أن مسألة الاندماج واحترام قيم المجتمع السويدي لا جدال حولها، وتتطلب مجهودا فعليا من القادمين الجدد، وتحقيق نتائج ملموسة في هذا الصدد لمواجهة الخطاب الشعبوي لليمين الذي يتغذى على التحريض تجاه الفئات التي يعتبرها مهددة للشعب وللثقافة السويدية.
كما أن تصريح وزير “الاندماج والهجرة”، السيد “أندش إيغمان”، في مؤتمر صحافي الشهر الفارط، بأن الكثير من القادمين إلى السويد لا يتعلمون اللغة ومن الصعب عليهم أن يكونوا جزءا من المجتمع السويدي، الأمر الذي يخلق أرضا خطبة للمجتمعات الموازية أو ما تسمى “مجتمعات الظل”، ما يفسح المجال لتنامي العنف والجريمة من جهة.. وهو ما دفع الحكومة إلى “فرض” شرطين جديدين هما “اللغة” و”القدرة على الإعالة” للحصول على الإقامة الدائمة، فيما الحصول على الجنسية السويدية سيفرض بالضرورة شروطا أكثر صرامة. كل هذه التصريحات تفيد ببلوغ سياسة الهجرة واللجوء السويدية مستوى “القلق” والانتقال من سياسة السخاء في “كوطا” اللجوء إلى المضي قدما في أجراة قرارات ترحيل المرفوضة طلبات لجوئهم؛ فهل هذا التحول مجرد هوى سياسي أم تعبير عن صوت المجتمع؟.
تغير الواقع المجتمعي:
المجتمع السويدي بطبيعته شعب مسالم ومنفتح.. لكن هذا السخاء الذي جسد في سياسة الأحزاب المشكلة للحكومات السابقة بدأ يأفل تدريجيا، لأن المجتمع السويدي بدأ يسجل قلقا واضحا بخصوص هذا السخاء في ما يخص قدوم اللاجئين واندماجهم؛ فآخر استطلاعات الرأي تشير إلى أن “الأمن” أصبح على رأس اهتمامات الشارع السويدي، ما يدق ناقوس الخطر ويبين أن كثيرا من المياه جرت تحت تبن الأحزاب السياسية التي اضطرت أخيرا إلى الاعتراف بفشل سياسة الهجرة واندماج الأجانب داخل المجتمع السويدي، خصوصا بعد موجة اللجوء الكبيرة لسنة 2015، وتنضاف إليها أرقام وإحصائيات رسمية مقلقة استثمرها حزب SD بشكل كبير للدفاع عن أطروحته السياسة القاضية بالحد من سياسة السخاء واللين في التعامل من السويديين الجدد أو القادمين الجدد؛ فرقم كـ700 ألف من السويديين المولودين خارج السويد يعيشون من أموال دافعي الضرائب أو ما يسمى “السوسيال” رقم مهول بالمقارنة مع ما توفره الدولة السويدية من إمكانيات مالية ولوجيستيكية لتعلم اللغة والاندماج المجتمعي والمهني والترجمة وتوفير ضروريات العيش الكريم، ما يثير حنق السويديين الأصليين الذين يلاحظون مجتمعيا واقتصاديا أنهم يكدون ويشتغلون لتذهب أموالهم إلى جيوب من لا يستحق.. فما مسؤولية السويديين من أصول أجنبية أو المهاجرين في الوصول إلى هذا الوضع؟.
من “فلسفة السوسيال” إلى “ريع السوسيال”:
عموما لا يختلف نظام “السوسيال” السويدي عن نظيره بالدول الأوروبية، فهو عبارة عن مجموعة قوانين وقواعد تؤطر نظام الخدمات الاجتماعية للدولة، خصوصا في ما يخص الأطفال وتعويضات البطالة والفئات الهشة، كاللاجئين، لضمان توازن اجتماعي من خلال تقديم إعانات وفق منطق الاستحقاق لتفادي خلق مجتمعات الهامش.
فلسفة “السوسيال” جاءت نتيجة سيرورية اجتماعية عكست مستوى النضج الديمقراطي للمجتمع السويدي، إذ يتعاقد أفراه بكامل إرادتهم على تخصيص مساهمة من رواتبهم بشكل تضامني لصالح صندوق مخصص لذلك، نظام قوامه الإيمان بروح القوانين وأخلاق التضامن التي يجب أن تسود بين مختلف فئات المجتمع، بشكل يضمن عدم اضطرار أي فرد داخله ليعيش دون المستوى المطلوب؛ وبالتالي هو نظام يعمل على حفظ كرامة هذه الفئات الهشة وتجسيد لروح القانون وللوعي الأخلاقي الإنساني الراقي لأفراده..
لكن فئة عريضة من المهاجرين واللاجئين، بل وحتى المجنسين داخل السويد، حولوا هذا النظام من نظام أخلاقي وتضامني صرف إلى “نظام ريع”، وسيلة للعيش المجاني الاتكالي وتفادي الاندماج داخل المجتمع، والتهرب الدائم من الشغل مقابل الحصول على تعويضات مختلفة تهم السكن والبطالة وتعويضات الأطفال؛ أي تحول إلى ثقافة ريعية اكسب عشاقها دراية واسعة في التحايل المستمر على القوانين والبحث عن الثغرات للاستمرار في الاستفادة من هذا النظام الاجتماعي السخي، تحت مبررات غالبا ما تكون مختلقة، “كالأزمات النفسية” مثلا.
الشغل داخل المجتمعات الأوروبية مقدس، وهو ما يعطي قيمة للشخص ويجسد به مواطنته وانتماءه الحقيقي إلى المجتمع المستقبل، الذي استقبل واحتضن ووفر كل شروط الاندماج والعيش الكريم.. بالتالي فهذا الوضع يضع المواطنين السويديين أمام تناقض كبير؛ فهم من جهة يعملون بجد ويؤدون الضرائب للدولة، ومن جهة أخرى يلاحظون أن أموالهم يستفيد منها أفراد “قد يكونون جيرانهم مثلا”، لا يريدون العمل رغم قدرتهم على إعالة أنفسهم؛ فبدأ التحفظ المجتمعي على هذا النظام من جهة طرق تسييره واستفادة البعض منه. فكيف يمكن مثلا -انطلاقا مما لاحظته شخصيا داخل المجتمع السويدي- قبول أن يقيم لاجئ لأكثر من ست سنوات، ويظل يطلب كل مرة مترجما عند طلبه خدمة اجتماعية، علما أن فاتورة عمله كمترجم يؤديها دافعو الضرائب.
هكذا يبدو أن المسألة مسألة عقليات تعودت على الاتكالية والريع، وقررت البقاء على الهامش، مشتكية في الوقت نفسه من عنصرية المجتمع تجاهها.
أخيرا، نشير إلى أن نقاشات الأحزاب السياسية عرفت مؤخرا في أسبوع “الميدالين”، حيث “حركت جميع أحجار السويد”، في إشارة إلى أوجاع البلاد المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأهمها الجريمة والأمن كأولوية للمجتمع السويدي، حسب آخر استطلاعات الرأي، وأيضا فشل الاندماج.. بحيث كان هناك شبه إجماع على ضرورة ترحيل المرفوضة طلبات لجوئهم، وبناء مراكز الترحيل قرب المطارات، في إشارة قوية إلى نهاية الكرم السويدي مع المهاجرين وطالبي اللجوء، ما يؤكد مضي الحكومة القادمة قدما في نهج سياسة تصحيحية في ما يخص الهجرة، بغض النظر عن طبيعة التحالف الحكومي المرتقب، في ظل تعالي صوت أحزاب اليمين؛ فإذا كان طلب اللجوء حقا قانونيا فرفض هذا الطلب قانوني، والترحيل أيضا قانوني.
لهذا وجب على المعنيين بالأمر أخذ العبرة وبذل مجهود أكبر واستلهام تجارب المهاجرين واللاجئين الناجحة والمندمجة داخل المجتمع السويدي الديمقراطي.