قالت الباحثة والمترجمة المغربية بشرى حكيم إن “فعل الترجمة جميل، يجعلنا نلبس ثوب الآخر ونرى ذواتنا من خلاله، والآخر ما هو في حقيقة الأمر إلا انعكاس للأنا، وفي رحلتي للبحث عن الذات وعن الأنا في الآخر وجدت ‘أصوات مراكش’، مدونات دونها الأديب الألماني إيلياس كانيتي بعد رحلته إلى المغرب سنة 1954”.
وفي ترجمتها لـ”أصوات مراكش”، أشارت بشرى حكيم، في مقال لها، إلى أن “أصوات مراكش تُرجمت إلى العربية ثلاث مرات من طرف حسونة المصباحي سنة 1988 عن الفرنسية، وكامل يوسف حسين عن الإنجليزية سنة 1996، ثم من طرف صلاح هلال عن الألمانية سنة 2020، لكن كل ترجمة جديدة هي ميلاد لنص جديد، وبالتالي قراءة جديدة للنص الأصلي، وكلما تعددت القراءات إلا ودل ذلك على مرونة النص واختلاف مستويات فهمه حسب كل مترجم وكل قارئ”.
وتطرقت بشرى حكيم إلى مجموعة من التيمات، من بينها “الحيوانات”، و”المرأة”، و”الملاح”، و”متسولو مراكش”، قبل أن تختم مقالها بالإشارة إلى أن “كانيتي تواصل مع الأشخاص والحيوانات والأماكن والمواضيع… بروحه، دون أن يبتلع ‘الأنا’ ‘الآخر’، فكان النص عبارة عن مشترك إنساني محض يلتقي فيه الطرفان ويعزفان سيمفونية متناغمة ترقى بالذوق الإنساني عامة”.
هذا نص المقال:
جميل هو فعل الترجمة، يجعلنا نلبس ثوب الآخر ونرى ذواتنا من خلاله، والآخر ما هو في حقيقة الأمر إلا انعكاس للأنا، وفي رحلتي للبحث عن الذات وعن الأنا في الآخر وجدت “أصوات مراكش”، مدونات دونها إيلياس كانيتي بعد رحلته إلى المغرب سنة 1954.
صحيح أن “أصوات مراكش” قد ترجمت إلى العربية ثلاث مرات من طرف حسونة المصباحي سنة 1988 عن الفرنسية، وكامل يوسف حسين عن الإنجليزية سنة 1996، ثم من طرف صلاح هلال عن الألمانية سنة 2020. لكن كل ترجمة جديدة هي ميلاد لنص جديد، وبالتالي قراءة جديدة للنص الأصلي وكلما تعددت القراءات إلا ودل ذلك على مرونة النص واختلاف مستويات فهمه حسب كل مترجم وكل قارئ عموما.
إن أكثر شيء جعلني أقدم على ترجمة هذا النص هو افتقار المكتبة المغربية لترجمة مغربية له، بالإضافة إلى سلاسة لغته القريبة إلى الروح التي تجعل القارئ يغوص في أعماق ذاته من خلال روح إلياس كانيتي ويتقمص شخصية الكاتب فيرى كل الصور على اختلافها وتنوعها ويشتم كل الروائح المنبعثة من التوابل وبضائع الجلد… ويلتقط كل الأصوات التي نقلها إلينا الكاتب وهو يتنقل بين أحياء وأزقة مراكش وبين أسواقها، ليعيش القارئ بالتالي إحساس الكاتب نفسه وينفض الغبار ربما عن ركن مهمل في ذاكرته، ولتضغضغ لغة إلياس كانيتي ذكريات الأمكنة والروائح والصور المنسية ليجعلها حية من جديد لأنها جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية ومن الهوية المغربية.
فكيف قدم إلياس كانيتي الهوية المغربية من خلال “أصوات مراكش”؟ وكيف تفاعل هو نفسه مع هذه الهوية؟
للإجابة عن هذين السؤالين أرى من الضرورة التطرق إلى أهم التيمات التي تناولها إلياس كانيتي في “أصوات مراكش”، والتي قسمها بدوره إلى فصول معنونة ومتنوعة، لكنني لن أتطرق هاهنا إلى فصول الرواية (أفضل أن أعتبر نص إلياس كانيتي “أصوات مراكش” نصا رحليا في قالب روائي) كما أدرجها إلياس كانيتي وإنما سأكتفي بجرد بعض التيمات المحورية في روايته وإبراز كيفية تناوله لها وعلاقته بها.
– الحيوانات:
خصص إلياس كانيتي فصلين من كتابه للحديث عن حيوانات مراكش، وهما: “لقاءات مع الجمال” و “رغبة الحمار” حيث أبرز مدى بؤس هذه الحيوانات وتعاستها، وقد استهل روايته بالحديث عن الجمال، هذه الحيوانات الجميلة التي ذكرته، وهي تتناول وجبتها في هدوء، بالعجائز الإنجليزيات وهن يحتسين الشاي: “كنا ننظر إليها ونحن نسير ولاحظت أن لها أوجها. كانوا متشابهين ومختلفين جدا في الآن ذاته، لقد ذكروني بالعجائز الإنجليزيات وهن يحتسين الشاي مع بعضهن في وقار وعلى ما يبدو في ملل كذلك” (ص 9).
إن مصير الجمال المأساوي الذي غالبا ما ينتهي بذبحها جعل كانيتي يتوقف عن محاولة البحث أو حتى الحديث عنها: “لم نتكلم نهائيا بعد عن الجمال طوال مدة إقامتنا المتبقية في المدينة الحمراء” (ص 17).
لا يختلف مصير حمير مراكش كثيرا عن مصير جمالها، فبينما تتعرض هذه الأخيرة لأشد أنواع القسوة لتساق في الأخير للذبح، تكون الحمير عرضة لأبشع أنواع الاستغلال، ويضرب لنا كانيتي مثالا بحمار يقوم بعرض في ساحة لفنا: “كان الحمار أتعس حمار بين كل حمير المدينة التعساء. لقد كانت عظامه بارزة من شدة سوء التغذية ووبره منزوعا. بالتأكيد لم يكن قادرا على حمل أخف ثقل. تساءلت كيف يمكنه الاستمرار في الوقوف مستقيما على قوائمه” (ص 99 – 100).
وحدها طيور السنونو من يستثنيها كانيتي من الأذى الذي يلحق بحيوانات مراكش، فهي تحتل الأسطح وتحلق بحرية فوقها:
“تنتقل فوق الأسطح ساكنة من السنونو، إنها كمدينة ثانية غير أن حياة الناس في الأزقة بطيئة. طيور السنونو هذه لا ترتاح أبدا، أتساءل إذا ما كانت تنام مرة، ينقصها الكسل والقياس والكرامة. إنها تنهب في طيرانها الأسطح الفارغة، التي تبدو لها بالتأكيد كأرض مستعمرة” (ص 34).
– المرأة:
للمرأة في رواية “أصوات مراكش” حضور قوي، فقد خصص لها الكاتب مساحة مهمة من النص، كما تعاطف معها أكثر من مرة وشعر بميول تجاهها، مع أنه يعترف على أن المرء في مراكش مضطر للتخلي عن النساء: “الأمر مشابه بالنسبة للنساء، إنهن يواصلن الحركة في الأزقة كأكياس لا شكل لها، ينظر المرء إليهن ولا يخطر بباله شيء، فقد سئم من بذل مجهود للحصول على صورة بخصوصهن. يتخلى المرء عن النساء، لكنه لا يفعل ذلك بمحض إرادته…” (ص 37 – 38).
يخص هذا الوصف، الذي يستثني منه امرأة الشباك المجنونة السافرة التي جذبته بنعومة صوتها، كل النساء المسلمات: “… وامرأة تظهر في النافذة وتتحدث إلى أحدهم وتميل رأسها قليلا ولا تغادر أبدا، وكأنها تنتظر أحدا للأبد هنا، والتي تستمر في الكلام حتى وإن أدار ظهره وغادر على مهل، وتستمر في الكلام إن كان شخص هنا أو لم يكن ودائما ستتحدث إلى أحد وإلى الكل، امرأة كهذه معجزة، إنها مظهر يميل المرء لأن يعتبره أهم من كل شيء آخر يمكن أن يوجد في هذه المدينة ليُرى”. (ص 38).
في حين يختلف وضع المرأة اليهودية والمرأة الغربية بكثير عن المرأة المسلمة، فللمرأة اليهودية كامل الحرية في مقابلة الرجال والحديث إليهم بارتياح والتجول في أزقة المدينة دون حجاب، ويقدم كانيتي مجموعة من النماذج على ذلك. أما المرأة الغربية فلها كذلك الحرية المطلقة في ممارسة حياتها في مراكش كما لو أنها في مدينة غربية بحيث نرى أن سيدة Maignon مثلا تملك حانة غير بعيد عن ساحة الفنا ينتمي روادها، من نساء ورجال إلى جنسيات عدة، ومن ضمن رواد الحانة يستفيض كانيتي في الحديث عن Ginette فتاة من أب إنجليزي وأم إيطالية تعيش ظروفا صعبة وتطمع في مغادرة المغرب.
– الملاح:
يعتبر الملاح، الحي اليهودي، من أهم وأبرز المواضيع التي تطرق إليها العديد من الرحالة في نصوصهم الرحلية، غير أن إلياس كانيتي قد تطرق إليه بأسلوب خاص فيه الكثير من الإبداع والحب كذلك. لقد وصفه وكأنه جزء من ماضيه، وكأنه جزء من روحه بجماليته وبشاعته كذلك، فنراه يصف حياة الملاح بدقة ويتفاعل مع بعض الأمكنة أكثر من أخرى. يقول كانيتي بعد وصفه لساحة صغيرة بالملاح: “انتابني إحساس وكأني وصلت أخيرا إلى هدف رحلتي. لم أرغب في مغادرة هذا المكان، لقد كنت هنا منذ مئات السنين، لكني نسيت وأسترجع الآن كل شيء. لقد وجدت هنا كثافة ودفء الحياة التي أشعر بحضورها بداخلي. لقد كنت هذا المكان عندما كنت أقف هناك. أعتقد أني لا أزال دائما ذاك المكان. صعُب عليّ فراقه لدرجة أنني كنت أعود إليه كل خمس أو عشر دقائق. أي مكان كنت أذهب إليه من بعد، وأي شيء كنت أكتشفه في الملاح كنت أتركه لأعود إلى الساحة الصغيرة، لأعبرها من هذا الاتجاه أو ذاك، لأتأكد أنها لا تزال هناك” (ص 48 – 49).
لا يمكن أن أقرأ هذا المقطع دون أن أعيد قراءته مرات ومرات، وفي كل مرة أتساءل: ما الذي جعل إلياس كانيتي يرتبط بهذه الساحة الصغيرة ويشعر بانتمائه إليها وبأنها جزء من هويته مع أنه في حقيقة الأمر أول مرة يزور فيها مراكش؟ ربطت الأمر بشكل أو بآخر بحياة إلياس كانيتي نفسه، بحيث لم يكن له وطن قار يشعر فيه بالانتماء الكلي، فقد كان يغير الأمكنة كثيرا وفي كل مرة ينتقل من بلد إلى بلد، وهو حال الكثيرين من يهود أوروبا في فترات زمنية معينة، ويعترف إلياس كانيتي بنفسه ضمنيا بهذا الأمر حين يقول في زيارة له لعائلة يهودية: “سألني الرجل الشاب من أي بلد أتيت.
أجبته: “من إنجلترا، من لندن. “لقد اعتدت أن أقدم هذه الإجابة المبسطة كي لا أربك الناس. انتابني شيء من الإحباط تجاه إجابتي، لكني لم أكن أعلم بعد ما الذي كان يفضل سماعه” (ص 63).
– متسولو مراكش:
خصص إلياس كانيتي فصلين للحديث عن المتسولين العميان في مدينة مراكش وعنون الفصلين على التوالي بـ: “نداءات العميان” و”بصاق البوهالي”. حيث لفت انتباهه النداء الجماعي والمتكرر للعميان، ومع أنه لم يرغب في تعلم أي لغة من لغات البلاد ليلتقط الأصوات كما هي على طبيعتها إلا أن كلمة “الله”، المتكررة في نداءات العميان، كان لها وقع خاص بالنسبة إليه: “لم أشأ أن أفقد شيئا من قوة النداء الغريب. أردت أن أكون مذهولا بالأصوات كما هي عليه دون أن تضعف من خلال معرفة غير مرضية ومصطنعة. (…) لكن كلمة “الله” ظلت عالقة بي ولم أتنصل منها أبدا” (ص 23- 24).
لقد أعجب إلياس كانيتي بأسلوب التكرار الكامن في الحياة البسيطة وفي نداءات العميان لدرجة أنه حاول تكرار كلمة “الله” لعدة مرات حتى يستشعر حلاوة هذا التكرار: “جلست عندما عدت من المغرب في غرفتي بعينين مغمضتين ورجلين على بعضهما البعض لنصف ساعة محاولا ترديد كلمة ‘الله، الله، الله’ بالسرعة والقوة اللازمتين. حاولت أن أتصور أنني أواصل تكرار ذلك ليوم بأكمله وجزء من الليل، وأنني أستهل به اليوم بعد نوم قصير، وأنني أردده لأيام وأسابيع وأشهر، وأنني أعيش على هذا النحو وأنا أصير أكبر سنا فأكبر. وأنا أتشبث بهذه الحياة بصلابة، وأنني أصير حانقا إذا أزعجني شيء ما في هذه الحياة، وأنني لا أريد أي شيء آخر وأن أظل على هذا النحو إلى الأبد” (ص 26).
أثار دهشة إلياس كانيتي أيضا رجل يتسول بأسلوب لم يسبق له وأن شاهده. كان الرجل يمضغ القطع النقدية التي تقدم إليه. شعر كانيتي بغرابة هذا الأمر وفسره على أنه أمر مقدس، كونه صادر عن رجل زاهد “بوهالي” (كما ترجمتها)، وصفه إلياس كانيتي بالقداسة: “قلت لنفسي إن البوهالي رجل مقدس، وكل شيء في هذا الرجل مقدس أيضا حتى لعابه، فهو حين يجعل هذا اللعاب يلامس نقود المتصدق يمنحه بذلك بركة خاصة ويرفع من الاستحقاق الذي يحصلون عليه في السماء من خلال التبرع”. (ص 30- 31).
خاتمة:
يقدم إلياس كانيتي الهوية المغربية من خلال مجموعة من الصور والأصوات والروائح… على شكل فسيفساء متعددة الألوان، كلها انصهرت في انسجام في “أصوات مراكش” فكانت لوحة جميلة تجذب قارئها وتجعله يعيش غرابتها وجماليتها، حتى وإن كان هذا القارئ جزءا من هذه اللوحة. إن أكثر شيء منح هذه اللوحة غرابتها وجماليتها هو “ذاتية” إلياس كانيتي، إنها ذاتية إنسانية بامتياز، تنأى عن الذاتية التي عهدناها في النصوص الرحلية التي تقوم بتقييم “الآخر” وإطلاق الأحكام السلبية عليه وتعميمها انطلاقا من تبجيل “الأنا”.
لقد تواصل كانيتي مع الأشخاص، والحيوانات، والأماكن، والمواضيع… بروحه دون أن يبتلع “الأنا” “الآخر” فكان النص عبارة عن مشترك إنساني محض يلتقي فيه الطرفان ويعزفان سيمفونية متناغمة ترقى بالذوق الإنساني عامة.