2
حاول الباحث المغربي محمد نورالدين أفاية، في مقال له بعنوان “حين تعبّر الصور عن خراب الروح”، تسليط الضوء على لقطات من فيلم “لو كان يطيحو لحيوط” لحكيم بلعباس، مشيرا إلى أن حكايات هذا الفيلم ملْغزة في طريقة عرضها والاشتغال عليها سينمائيا؛ وتصوير هذه الحكايات وبناؤها وتوليفها وعرضها يتجاوز مجرد الحنين إلى ماض أو استحضار ذكريات، بمقدار ما يرصد العمل الفيلمي المنجز وقائع لشخوص ووجوه لها وجود واقعي في الحاضر.
هذا نص المقال:
حكايات فيلم “لو كان يطيحو لحيوط” لحكيم بلعباس ملْغزة في طريقة عرضها والاشتغال عليها سينمائيا. ولو أن مخرجه يعلن، منذ الجينيريك، أن الأمر يتعلق بـ”حكايات من ذكريات طفولة في مدينة صغيرة” فإن الحصيلة الإخراجية لهذه الحكايات تتجاوز الإطار المعلن عن “ذكريات طفولة”، لأن تصوير هذه الحكايات وبناءها وتوليفها وعرضها يتجاوز مجرد الحنين إلى ماض أو استحضار ذكريات، بمقدار ما يرصد العمل الفيلمي المنجز وقائع لشخوص ووجوه لها وجود واقعي في الحاضر، منها من تشرئب عيونه نحو أفق ممكن، حتى ولو انطلق من نظرة قدرية واضحة. ولذلك، لا يمكن استعراض وقائع هذه الحكايات أو تلخيص موضوعاتها بشكل جامع، اللهم إلا إذا اختار المرء التركيز على إحدى هذه الحكايات وعمل على التفاعل مع الأسلوب الفيلمي الذي نهجه المخرج لنسج هذه الحكايات العديدة.
يدشن حكيم بلعباس حكاياته (أو أفلامه الكثيفة داخل فيلمه) بتأطير أيادي امرأة عجوز عمياء تقرشل الصوف وتغزله بإيقاع بطيء؛ ينقلنا، بعد ذلك، إلى لقطة خارجية للمرأة نفسها وكأنها تتأمل بركة ماء صافية، تصاحبها أصوات عصافير ومؤثرات سمعية أخرى؛ ثم يصور مجرى مائيا يشي باستمرار الحياة والتغير، إلى أن يزج بنا في قاعة سينمائية مهجورة يواكبها شريط صوتي لأغان هندية ومصرية، وموسيقى أفلام عالمية، ليركز على العجوز العمياء نفسها، في لقطة مكبرة، وكأنها جالسة على عرش داخل فضاء هجرته الأضواء والحياة.
بعد ذلك تتحول الحكاية لعرض قصة أخرى تصور شابا صموتا يتحرك ببطء، يراقب – كما تراقبه في الآن نفسه قطة فوق السور المقابل- حركات امرأة وهي تسقي نباتاتها، وتعد فطور أبنائها، وتحضر ابنتها للذهاب إلى المدرسة؛ ثم يقدم المرأة نفسها تحضر الأرغفة في إحدى المقاهي وهي في حالة سهو وشبه غياب، مع علامات شقاء دفين يشع من عينيها. وزاد المخرج من هذا الإحساس بإطلاق أغنية “فكروني” لأم كلثوم، إذ تحكي عن نار الشوق الذي “في قلبي، وف عيوني. رجعو لي الماضي بنعيمه، وغلاوته، وبحلاوته وبعذابه وقساوته…”. ومباشرة يركز المخرج على الطفلة وهي تناجي القمر والسماء لكي يعود أبوها. وبطريقة انزياحية يصور، بشكل مواز، رجلا يغسل حصانه، وابن المرأة – الذي تبدو عليه علامات إعاقة- وهو يغتسل؛ لكي يركز على صاحب الحصان وهو يصرخ وكأنه في لعبة تبوريدة؛ وبطريقة “هستيرية” يشكي آلامه التي ينسبها إلى “ثقل الأيام”.
لا يبدو أن حكيم بلعباس يعرض لحكايات تمخضت عن ذكريات في مدينة صغيرة، كما يقول، وإنما يقدم، منذ الحكاية الأولى، نساء ورجالا يعانون من خراب داخلي لافت، ومن شقاء وجودي دائم. كل نساء حكايات الفيلم محطمات. وجل الرجال يعانون من تمزق ما – باستثناء الحكاية الثالثة التي يصور فيها خياطا شغوفا بالعصافير، وينهيها بصور رجل وامرأة عجوزين يمسك كل واحد منهما يد الآخر في هيئة تساند وتعاطف، ومصحوبين بشريط أغنية “الأطلال” لأم كلثوم – مرة أخرى – التي تنتهي بالدعوة إلى التسليم: “لا تقلْ شئْنا، فإن الحظ شاء”.
وفي الحكاية الثانية، يروي حكيم بلعباس قصة امرأة يموت زوجها غير آسفة عليه، بسبب ما أذاقها من محن ومن اضطهاد، يلتقط لوجهها الباكي صورا مكبرة تضج بالشقاء والحزن.
وفي الحكاية الرابعة ميلودراما حقيقية عن عقم شابة متزوجة تبحث، بكل الطرق الممكنة، بما فيها زيارة الأضرحة وتلقي الدعوات، لكي تسْعد بسماع “كلمة ماما” من مولود تتشوق إلى إنجابه. وهي تسعى إلى ذلك بإشهار ألمها الشديد، ومعترفة بالنار المشتعلة في قلبها، متطلعة إلى ربها لكي “يحن عليها” ويخرجها من هذا العذاب.
أما في الحكاية الخامسة، وبغض النظر عما يقدمه حكيم بلعباس من تشخيص حذق لوضعية منظومتي التعليم والصحة، فإنه في تركيزه على وجوه وأجساد المرضى الذين ينتظرون دورهم لرؤية الطبيب، الذي يأتي أو لا يأتي، يعرض لحالات إنسانية في منتهى الهشاشة والشقاء.
وفي الحكاية السادسة تظهر فيها امرأة بلباس ثياب الحداد بجانب بناية مطعم وفندق مهجور، يغمرها حنين إلى زمن مضى من خلال التحرك وسط فضاء المطعم وما بقي من متلاشيات وقنينات؛ لتنتهي بمناجاة وبكاء تطلب من الله أن يفرج عليها كربها وعذابها.
وتشكل الحكاية السابعة أكثر الحكايات قوة ودلالة وعمقا، حيث برع المخرج في تقديم صور بالغة الكثافة والجمال والرمزية، وقدم قصة شبه سوريالية لصباغ يصبغ كل شيء بما فيها نفسه، يجر سطوله ورجليه وحركاته بصعوبة، ويقف لحظة لكي يعبر عن معاناته، على طريقة مسرحية تراجيدية، حيث يجهر بألمه، معترفا أنه إنسان نذل، بغير أفراح، أمه ماتت يوم مولده، وعاش وحيدا.
نفس مشاعر الألم والمكابدة تعبر عنها الأم التي انتظرت صديق ابنها المتوفى، في الحكاية الثانية عشرة، حين تقر بفقدان عقلها منذ وفاة ابنها، وعن حرقتها ووحدانيتها. ويقوم المخرج بتقديم لقطة مكبرة لوجه المرأة الباكي في الوقت نفسه الذي يصعد فيه صوت الأذان، وهي تنطق بما يفيد الإذعان لمشيئة الله وقدرته. أما حكاية العريس والعرس، (وهي أطول حكايات الفيلم)، فهي الفصل الوحيد الذي يصور فيها حكيم بلعباس شخصيات تظهر عليها علامات الفرح، والابتهاج وتحتفل، حقا، بمناسبة زواج بالرقص والزغاريد؛ غير أن موت الجدة في لحظة إقامة العرس سوف يحول هذا العرس إلى مأتم شخصي لأم العروس التي توزعت بين كتمان سر موت أمها وبين رغبتها العارمة، كأي أم، في أن يتم عرس ابنتها بسلام. وهكذا، وبالرغم من الموت المفجع لأمها، تستجمع قوتها لكي تنخرط، وهي باكية، في جذبة راقصة مع من يرقصن ويولولن. وفي هذه المتوالية، تمكن حكيم بلعباس من إنجاز عملية تركيب بارعة بين إيقاع الاحتفال الجماعي، ورقصة الأم المكلومة، وبين الشريط الصوتي الذي أحضر فيه ولولات وزغاريد النسوة تبدو وكأنها تصرخ، وإيقاع آلات “التْعارج” والبنادير الذي منح للمشهد تصعيدا دراميا منشطا.
تتفاوت قصص وحكايات فيلم “ولو كانوا يطيحو لحيوط” من حيث الموضوع والشخوص، وتختلف مصائرها؛ ولكن غالبيتها تلتقي في تجسيد مظاهر التمزق والشقاء والمعاناة والفقدان والحزن، إلا في بعض الاستثناءات النادرة. وكأن الفيلم جماع أفلام قصيرة تعْبرها سمفونية ميلودرامية تتشكل من شخوص محطمة، وكائنات تمشي في الأرض وكيانها مشدود إلى جروح ومآس وصدمات، وتبحث عن عزاء لها في الغيب وفي المناجاة اللامتوقفة.
يعلن حكيم بلعباس أن ما يعرضه في الفيلم من حكايات هي ترجمة لعمليات تذكر مرت عليه خلال طفولته، وأن الشخوص الرئيسية وكأنها تنتمي إلى عالم اندثر؛ والحال أن الصور المعروضة في أكثر حكايات هذا الفيلم تنتمي إلى الحاضر أكثر من ارتباطها بزمن مضى؛ فصور السينما المهجورة لا تحيل إلى مرحلة مرت، وإنما على واقع ممتد في الحاضر. قد تكون مجازا عن شعور مشفوع بحنين إلى سينما أسست لمشاعر وذكريات؛ لكن متلاشيات وغبار ما يبدو قد مضى هي علامات على حاضر، حتى وإن قدمناه بطريقة استنكارية.
للمخرج اختياراته الفلسفية والمذهبية الخاصة به، وله الحرية التامة في أن يعبر عن قناعاته القدرية وتسليمه بقوى سحرية. وقد استعمل العدة السينمائية التي يحسن التعبير بواسطتها عن هذه الاختيارات والقناعات التي توفق، بشكل كبير، في ترجمتها سينمائيا في العديد من حكايات الفيلم؛ غير أن القصص الغالبة التي عرض فيها لشخوصه المحطمة وحالات الخراب النفسي المعبر عنه من طرف النساء بالأساس، وبعض الرجال، فإن المشاهد يشعر بنوع من المغالاة، وأحيانا من الضجر في الإصرار على تكرار الصور البكائية والنحيب والتشكي المأساوي من شراسة الحياة، وانكسارات الوجود الإنساني.
ومع ذلك، لقد تمكن حكيم بلعباس، مرة أخرى، من عرض منجز فيلمي بالغ العمق والدلالات والجمالية. قد لا يتفق المرء مع القدرية المهيمنة للرجل التي تسكن حكايات الفيلم كلها، أو مع “مذهبه” في النظر إلى العالم والوجود والمصير؛ لكن أكثر حكايات هذا الفيلم تنتزع المشاهد من عوالمه لتدمجه أو تشركه في إيقاعات لقطاتها ومتوالياتها؛ ويتقصد ترك منسوب الغموض في العديد من القصص، وأحيانا ينتقل من متوالية إلى أخرى بدون مبرر مقنع، لكنه في جميع الأحوال يدعوك إلى الانتباه أو إلى طرح الأسئلة على الصور وعلى الشخوص.
ولعل مجموعة من الحكايات القوية في هذا الفيلم تشكل لحظات إبداع سينمائي من أعمق ما قام بتصويره حكيم بلعباس، فقصة الخياط المولوع بالعصافير، والتركيب السوريالي لحكاية الصباغ والفران، وتخيلات الشاب الذي يروي ما حصل له مع السيارة التي طارت به مع أبيه، وقصة الشيخ الذي أصر على تحدي الأطفال في سباق أراد به تجاوز كل حدود الجهد لينتهي بوضع حد لحياته، وحكاية العرس التي استطاع من خلالها تكثيف مشاعر مفارقة بين ضرورة كتمان فجيعة الفقدان والرغبة في إنجاح الاحتفال بالعرس يبدو لي البناء السينمائي لهذه القصص والحكايات من أكثرها توفيقا على صعد استدعاء التخيل والهاجس الوجودي والمزج الحدق بين الصورة والصوت وانسيابية السرد والصياغة الجمالية.
كما أن المخرج احتفل بعرض بعض مظاهر الطبيعة من سماء وقمر وأشجار تتمايل وخرير مياه وغيرها من العناصر بطرق جاذبة وبالغة الكثافة الجمالية. ومنذ الحكاية الأولى، بدا هذا الميل الظاهر إلى الاشتغال على الأبعاد التعبيرية للطبيعة، سواء في صورة القمر غير المكتمل الذي كانت الطفلة تناجيه بحرارة مؤثرة أو في حكاية الشيخ الذي يريد تجاوز عجزه حيث قدم حكيم بلعباس صورة شجرة تتعرض لريح عاتية بطريقة تحيل، بشكل من الأشكال، إلى الطريقة التي يدمج فيها المخرج الأشوري الأمريكي تيرانس ماليك عناصر الطبيعة في كل أفلامه، ويحولها إلى عناصر سردية يمنح بها لخطابه أبعادا وجودية ظاهرة.
لقد حرص حكيم بلعباس، في هذه الحكايات، على الارتفاع باللغة السينمائية إلى مدارج عالية لما تحرر من صرامة السرد الخطي، وعبأ كل ما يملك من مهارة تقنية للغوص في أعماق الحالة النفسية للشخوص؛ من خلال استثمار الشريط الصوتي متنوع المصادر، وخصوصا في حالات التصعيد الدرامي باستعمال آلة التشيلو الحزينة، وغيرها، وجعل من الصوت والكلام عناصر نشطة لتقوية العمق الدلالي والتشكيلي للصورة؛ وهو ما أكسبها سلطة ناطقة بكثافتها ومأساويتها، غالبا، في سياق مكاني ورمزي يوحي بتجذر ثقافي منح للصورة بعضا من أبعادها الروحية.