مقدمة في “قواعد اللعب” التاريخية، من أجل “دراسة تكاملية” للتاريخ، حضرت بأكاديمية المملكة المغربية في أولى محاضرات الباحثة سارة سترومسة، التي من المرتقب أن تؤطر سلسلة حول الموحدين وتأثيرهم الفكري والديني.
وقبل الحديث عن التاريخ الفكري الموحدي، جعلت الأكاديمية أولى حصصها بالأكاديمية، الاثنين 4 يوليوز الجاري، مقدمة تقدم قواعد المنهج الواجب احترامها في قراءة وتفسير النصوص التي قرئت وفسرت قبلنا، مع تنبيهها إلى “بعض الفخاخ التي ينبغي الانتباه إليها عند التعامل مع مثل هذه النصوص التاريخية”.
ينظم هذا النشاط، الذي تستمر حلقاته الأسبوع الجاري، ضمن برنامج “دكاترة الأكاديمية”، الذي تجمع في إطاره أكاديمية المملكة طلبة دكاترة من عدد من الجامعات المغربية مع جامعيين من مؤسسات عليا دولية.
قواعد اللعب الواجب احترامها عند التعامل مع النصوص التاريخية، وفق الأكاديمية، هي: الانتباه إلى الأحكام المسبقة في المصادر الأولية، وموثوقية معلومة مستقاة من رواية آحاد (مصدر واحد تفرد بذكرها)، والرقابة والرقابة الذاتية، والطبيعة الأدبية للنص المدروس، والمقاربة التكاملية للتاريخ الفكري للموحدين.
كما ذكرت المتحدثة، انطلاقا من مثال الأندلس، بأن العالم الإسلامي خلال القرون الوسطى كانت فيه العربية اللغة المشتركة المستعملة من طرف المثقفين اليهود والمسيحيين فضلا عن المسلمين؛ فـ”كانت الأفكار تنتقل بسهولة من طائفة إلى أخرى”، بل و”كانت لهم مكتبة فلسفية مشتركة بالعربية”.
يستوجب هذا، بالنسبة للباحث، “قراءة المكتبة المشتركة أيا كانت الطائفة التي أنتجتها”، علما أن “الأفكار في التاريخ الفكري لا تتبع مسارا خَطيا، بل تكون حركتها لولبية؛ وعندما تسقط فيها قطرة تغير لون الزوبعة كلها بما في ذلك لون القطرة نفسها”.
وتابعت المحاضرة: “كل دراسة تهتم مثلا بالفكر في المشرق دون استحضار الكتابات المسيحية تقدم لوحة غير مكتملة وخاطئة، فيتعلق الأمر بدراسة عمياء (…) ولا يمكن دراسة الفلسفة في الغرب الإسلامي مع إهمال اليهود، ودون قراءة نصوصهم بالعربية والعبرية، وإلا سيفقد الباحث قطعا أساسية من المشهد، ويقدم لوحة غير مكتملة وخاطئة، ودراسة عمياء”.
هكذا، يقتضي مقصد إعداد “دراسة فكرية تكاملية” أن “نخرج من مجالات راحتنا، مع تعلم لغات متعددة، والبحث عن الألفة في عدة تقاليد ثقافية”؛ فـ”هذا أساسي لتصحيح الأخطاء في النظر إلى التاريخ، من أجل كتابة تاريخ متعدد الأوجه”.
وذكرت الباحثة أنه منذ القرن التاسع عشر الميلادي جذب تاريخ الموحدين اهتمام الباحثين الغربيين، خاصة في العقود الأخيرة بفضل نشر دراسات معمقة متعددة تتناول جوانب السياسة والتنظيم الاجتماعي والثقافة والدين. ثم أضافت: “قبل قراءة النصوص القديمة، توجد أسئلة منهجية لا بد من التطرق إليها. وبوصفنا طلبة للماضي، نضع نظاما للعدَد الهائل من الأسماء والأحداث والتواريخ والعقائد، والمعلومات الأخرى التي نلتقي بها عند البحث، ونبحث لنربط أحداثا معزولة، من أجل صياغة سرد شامل متفهم، ينظم الشهادات والدلائل التي حفظتها لنا الصدفة، والتي تبقى دائما مجزأة، وفي أحسن الحالات تبقى نقطا غير متصلة، هي بقايا لوحة غنية ومركبة ومعقدة”.
يستدعي هذا “ربطا لا يوجد في النصوص؛ جهدا فكريا، وتكهنا، لكنه ليس تكهنا اعتباطيا، بل يستند على دلائل مختلفة، مثل نصوص أخرى أو قطع نقود أو تفصيل في صورة أو بشكل عام ما نعرفه حول السياق التاريخي… وإذا استعملنا هذه المعطيات في المسار السليم، يمكن أن تساعدنا على تفسير المجموع”.
توقفت الأكاديمية هنا عند “المعنى الجيد” أو “المعنى المشترك”، قائلة إنه “صعب التعريف” حيث “يبقى حدسيا، لكنه يؤسس عاملا هاما يقود جهودنا من أجل تفسير مؤسس جيدا للنصوص (…) علما أن اختلاف التأويلات يمكن أن يصل حد التضاد”.
هذا الواقع دفع المحاضرة إلى الحديث عن الحاجة إلى إعادة النظر في المواقف التقليدية للبحث المعاصر، في موضوع الموحدين، قبل أن تسترسل شارحة: “لا أعني بهذا المستعرِبين الأوروبيين في القرن التاسع عشر فقط والنصف الأول من القرن العشرين، بل أيضا المراجعات الحديثة أكثَر، التي نرى فيها تكرارا للمواقف المكرسة، أو المقترحة قبل سنين، وهي مواقف يجب إعادة مراجعتها، باعتبار أسئلة منهجية سنسلط الضوء عليها (…) وقبل كل شيء نحتاج هنا الوعي بالمعايير التي قُيمت بها المراجع التي نتوفر عليها، والمواقف النقدية التي قيمت بها المعلومات التي توفرها هذه المصادر، والتدابير المتخذة للتحقق من هذه المعلومة أو تصحيحها أو تتميمها”.
ومن بين الملاحظات المنهجية التي أتت على ذكرها الباحثة ضرورة الانتباه إلى دس المؤرخين “آراءهم الخاصة” ومحوهم كلام السلالة الحاكمة السابقة مع إيراد الكلام الخاص للكاتب حول الأحداث. وتطرقت أيضا إلى “المصادر الآحاد” التي هي “بشكل عام إشكالية”، واستحضرت في هذا السياق “القاعدة الأساسية في التقليد الإسلامي الذي يبحث عن المتواتر عبر سلسلة سند متصل، ويتعامل بريبة أو حتى برفض مع خبر الآحاد”، ثم زادت معلقة: “هذه القاعدة صالحة أيضا للمؤرخين اليوم”.
وواصلت المتدخلة: “من جهة يكون توجه لتقدير معلومة متفردة، بوصفها شهادة ثمينة، في ظل نسيان وضياع (…) لكن يجب فحصها بنفس نقدي، واعتبار أن المصدر قد يحذف معلومة أو يخترع أخرى بناء على توجهه وبناء على تخندقه (الانتماء الديني، والانتماء الوطني)”، إضافة إلى معطيات مثل اختلاف الرؤى حول قيمة الحدث، التي تجعل مصادر تصمت عنه.
من الأمور الواجب الانتباه إليها أيضا عند قراءة النصوص التاريخية “ضرورة اعتبار الرقابة والرقابة الذاتية”، ونوع الكتابة التي قد تكون حكاية رمزية، أو كتابة مزدوجة المعنى، اعتبارا لتربص السلطة وجهل العامة مثلا، وقدمت في هذا الإطار أمثلة بابن رشد وابن طفيل وابن ميمون.
ومن الأفكار التي محصت النظرَ فيها الباحثةُ رقابة المرينيين على التاريخ الذي يتناول الموحدين، في سعي إلى نزع التأثير الموحدي، قائلة إن “فرضية الصمت المنظم” حول الحقبة الموحدية في العصر اللاحق ممكنة؛ “لكن هذا لا يكفي لتفسير السكوت عن أحداث، أو تفسير وقائع تاريخية بتأويلات قسرية”، بل ينبغي “تحليل كل حالةٍ حالَة على حدة”.
ومن الأمور التي دعت الباحثة “طلبة الأكاديمية” إلى اعتبارها كون النصوص المكتوبة “نادرا ما تخبرنا عن الصوت والنبرة التي قيلت بها الأمور، والحركات المعبرة عن المشاعر الإنسانية، من غضب وخوف وسخرية وتهكم ومزاح”، مما يفتح باب التخيل والتأويل.
تجدر الإشارة إلى أن الأكاديمي عبده الفيلالي الأنصاري، منسق البرنامج، قد قال، في تقديم اللقاء، إن هذه السلسلة “تبحث في التراث الإسلامي، ليس الثيولوجي فقط بالمعنى التبريري؛ بل تبحث في التراث الإسلامي بمعناه الواسع، أي مجموع الإبداعات والأشكال السياسية ومجموع الأسئلة التي طرحها المثقفون عبر العصور سواء كانوا مسلمين أم لا وأعطوا لهذه الحضارة الفريدة طابعا خاصا بها يجب علينا الآن أن نعرفه بأفضل شكل ممكن”.