بذل المرابطون بعد تأسيس مدينة مراكش جهودا كبيرة لتغيير بيئتها من مفازة قليلة الماء إلى جنات غناء. واستمرت هذه المجهودات خلال العصر الموحدي، حتى قال صاحب “الاستبصار”، الذي زار المدينة في الربع الأول من القرن السادس الهجري، “ومدينة مراكش أكثر بلاد المغرب جنات وبساتين وأعنابا وفواكه وجميع الثمرات (…) وأكثر شجرها الزيتون ففي مراكش اليوم من الزيتون والزيت ما تستغني به عن غيرها من البلاد”.
وعن جنة مراكش، قال الحسن بن محمد الوزان الفاسي في كتابه “وصف إفريقيا”: “كثرت البساتين والجنات، واتصلت بذلك عمارات مراكش، وحسن قطرها ومنظرها”، فأين هذه المدينة من هذا الإرث البيئي الذي يضفي رونقا على جماليتها الساحرة؟ وما نصيب منطقة المحاميد التي تضم أكبر تجمع سكني من الفضاءات الخضراء؟ وكيف يمكن أن يستقيم الحديث عن إحداث مناطق خضراء في ظل قلة التساقطات المطرية؟ وبأي معنى يمكن القول بأولوية الحدائق على شربة الماء والعكس صحيح؟ تلكم مجموعة علامات استفهام وجهت خلال هذا الربورتاج إلى بعض السكان والمتخصصين والمسؤولين.
أكبر تجمع سكاني
يعتبر حي المحاميد التابع لمقاطعة المنارة مراكش من أكبر الأحياء بمراكش، من حيث المساحة وكذا على المستوى الديموغرافي، فالمجال الترابي لهذه المنطقة يتجاوز المساحة الجغرافية لمدينة الصويرة أو أسفي، ورغم ذلك فإن الزحف العمراني الإسمنتي أتى على الأخضر واليابس، لأنه التهم مساحات خضراء فلاحية سقوية على شكل “ضيعات” و”عراصي”، لتوفير عرض سكني مكثف لفائدة المواطنين بدون رؤية متكاملة، وفق تصريح عادل آيت بوعزة، أحد سكان هذا التجمع السكني المهووس بالترافع عن الشأن المحلي.
وقال آيت بوعزة لهسبريس: “قامت الشركات العقارية بالاستيلاء على كل الأراضي دون حسيب ولا رقيب، ودون أن تكلف نفسها توفير مساحات خضراء قادرة على أن تشكل رئة لهذه المنطقة، ومتنفسا للقاطنين خلال ليالي صيف مراكش، الذين يبحثون عن أماكن تمكنهم من الاستمتاع برطوبة الطقس، خاصة الأطفال وكبار السن، الذين ينتظرون غروب الشمس للتوجه إلى المساحات الخضراء، أمام ارتفاع درجات الحرارة التي تتجاوز أحيانا 45 درجة”.
ووفق إفادة هذا الفاعل الجمعوي، “فإن المجالس المتعاقبة حاولت الانتباه إلى هذا الخصاص عبر تخصيص ميزانيات مهمة لإنشاء حدائق متنوعة بالمنطقة كحديقة النهضة وشارع النخيل، وتوفير بعض المساحات الخضراء بفضاء المواطن في إطار الحاضرة المتجددة، غير أن ضعف مراقبة هذه المرافق والتقصير في إصلاحها يجعلانها لا ترقى إلى مستوى التطلعات على قلتها، على الرغم من أن الجماعة توفر ميزانية ضخمة لهذه الغاية”.
ويضيف آيت بوعزة أن “شارع النخيل وحديقة النهضة، التي تعتبر كبرى المساحات الخضراء بمنطقة المحاميد، يشكوان من ضعف الإنارة، وهذا الوضع هو الذي يقف وراء تزايد تخوفات المواطنين من الجلوس بهذا الشارع، حيث تنتشر العديد من الدراجات النارية، التي تشكل خطرا محدقا بسلامة الأطفال واليافعين، وتزعج من يخرج للاستمتاع بنسيم يكسر حرارة الصيف، وما تعرفه جدران المنازل بسبب لهيبها”.
الحدائق من جودة الحياة
شف عضو “المجلس الوطني للائتلاف المغربي من أجل المناخ والتنمية المستدامة”، بوجمعة بلهند، “حاجة منطقة المحاميد التي تجاوزت بأحيائها وتجزئاتها الثلاثين، والتي تشكل أحد تجليات الزحف العمراني والإسمنتي الذي تعرفه مراكش على حساب المساحات الخضراء (100000 نسمة حسب آخر إحصاء سكاني)، إلى مناطق خضراء، في الوقت الذي تعرضت فيه العديد من الحدائق وآلاف الأشجار للتدمير، وتم تعويضها ببنايات من الإسمنت والحديد دون احترام مبادئ التهيئة العمرانية المستدامة، التي تستحضر أهمية الأدوار التي تلعبها الأشجار والمساحات الخضراء باعتبارها الرئة والمتنفس لساكنة هذه الأحياء”.
وأضاف بلهند، في تصريح لهسبريس، أن “الفضاءات الخضراء تحقق الراحة النفسية والوقاية من تلوث الهواء والإصابة بالأمراض والأوبئة، بالإضافة إلى كونها تشكل مكانا للتنزه والترويح عن النفس من ضوضاء المدينة، لكن حي المحاميد من المناطق الحضرية التي تفتقر بشكل كبير إلى هذه الفضاءات، فالكثافة السكانية التي لا تتجاوز مترين مربعين لكل فرد، تنعكس على نسبة المساحات الخضراء التي لا تتعدى 0,01 متر مربع للفرد، وهذا له عواقب وآثار سلبية على صحة وجودة الحياة بالنسبة لساكنة هذه المنطقة الكبيرة داخل الجماعة الترابية لمدينة مراكش”.
ومن بين الانعكاسات الصحية لغياب المناطق الخضراء بالمحاميد، وفق المتحدث نفسه، تدهور جودة الهواء نظرا للدور الذي تلعبه النباتات في تزويده بالأوكسجين، وتنقية الجو من البكتيريا والجراثيم، وانتشار الغبار في الهواء لكون المساحات الخضراء تعمل على تثبيت التربة، وارتفاع درجة الحرارة خاصة في فصل الصيف لكون المساحات الخضراء تعمل على ترطيب الجو عن طريق تقليل وهج أشعة الشمس عبر امتصاص الإشعاعات الشمسية والقيام بعملية النتح.
الصبر والدعاء
“جفت الآبار وقلت التساقطات وليس لنا سوى الصبر والدعاء بالغيث في المقبل من الشهور”، يقول عبد الله الفجالي، النائب الثاني لرئيسة جماعة مراكش، المفوض له تدبير المساحات الخضراء والتنشيط الرياضي”، قبل أن يضيف “لذا علينا تدبير ما نتوفر عليه من المياه بعقلانية وحكمة، وأن نحافظ في الآن نفسه على المناطق الخضراء، وهذا أكبر تحدٍّ نعيشه خوفا من أن تتعرض هذه الفضاءات للضياع”.
وخلال حديثه مع هسبريس، أوضح المسؤول الجماعي أن منطقة المحاميد خصص لها مشروع الغابة الرياضية، على مساحة 30 هكتارا، وهو عبارة عن مناطق خضراء وملاعب للقرب، مضيفا “نشتغل على الدراسة الخاصة بهذا الملف، لكن الظرفية المناخية غير مناسبة في ظل قلة التساقطات، وصعوبة الاعتماد على المياه العادمة، لأن هذه الشبكة لم تجهز بعد، ونشتغل حاليا على تطوير استغلالها لتشمل كل المناطق”.
ودعا الفجالي إلى المحافظة على الفضاءات الخضراء، لكونها تعد جزءا من جمالية مراكش، من خلال التحسيس بنبذ السلوكيات المضرة بالنباتات والمحيط الإيكولوجي، مشيرا إلى أن “هذا هو أكبر تحدٍّ نعيشه في ظل غياب التساقطات، وهو ما يرفع درجة التحدي والصعوبات التي يواجهها المشرفون على هذه المنتزهات، خاصة بسبب تصرفات وخروقات تكون غالبا سلبية وتضر بمكونات هذه المجالات”.