منذ عقود، وإقليم الناظور كطائر جريح يحلّق بجناح مكسور.. لا هو قادر على مواصلة التحليق نحو ذاك الأفق “الحلم”، ولا هو مستكين للسقوط في وهدة النسيان.
يجثم الإقليم داخل غرفة الإنعاش، في غيبوبة طويلة تمتد كليل بلا فجر؛ تارة ينبض قلبه ببصيص أمل، كشمعة تهتزّ في وجه الريح، وتارة يخبو النبض، فتتضاءل الأحلام وتتآكل الآمال.. كلما تحرّكت أطرافه قليلاً، وتلمّح ساكنوه إشارات الحياة، تمسّكوا بخيط من الأمل الرفيع، وهمسوا لأنفسهم: “ربما.. ربما هي البدايات الأولى لنهوضه”، لكن سرعان ما تعبث أيادٍ خفية بخطواته الأولى، تعيده إلى سباته العميق، وكأن لعنات القدر تأبى أن تمنحه فرصة ليقف على قدميه كإقليم حيّ نابض بالحياة، له مكانته بين أقاليم الوطن.
حتى باتت أحلام أهله كزهور تذبل على عتبات الانتظار، تمنّوا أن يتحوّل هذا الركن المنسي إلى إقليم مكتمل الأركان؛ اجتماعيًا، اقتصاديًا، ثقافيًا، ورياضيًا.. لكنهم في لحظة يأس همسوا: “ربما موتٌ رحيم أفضل من هذه المعاناة المتجددة”.
الأزمة التي تطوّق الناظور اليوم ليست وليدة الأمس، لكنها دعوة صريحة لإعادة النظر، لإعادة التشخيص. فربما، فقط ربما، يكون هناك من يملك المفتاح لخلاصه.. معجزة واحدة، تُولد من إرادة حقيقية، قادرة على انتشاله من هاوية النسيان، بعيدًا عن الشعارات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
وبالكاد تتنفس ساكنة الناظور الصعداء، وتستبشر بما بُرْمِج لمنطقتها وإقليمها من أوراش ومشاريع “على الورق”، حتى تجد نفسها رهينة، بل حبيسة قرارات تجعلها تفقد الثقة فيما هو قادم، على الرغم من كم الوعود التي ما فتئت تتلقاها من عديد الجهات والمسؤولين، استخسر فيها هؤلاء على الناظور إنجاز ولو ربع تلك المشاريع، وكأنهم يجودون على هذا الناظور من مالهم الخاص، أو وكأن هذه الرقعة من المملكة لا تستحق ما بُرْمِج لها وما طالبه قاطنوها من مطالب عادلة ومشروعة.
مؤشرات الأزمة التي تعرفها الناظور على جميع المستويات لم تظهر اليوم ولا أمس، بل هي أزمة هيكلية لم تقدم لها الحكومات المتعاقبة ما يكفي من حلول بديلة، وتركت مواطني هذا الإقليم والمناطق المجاورة واقفين على “باب الله”، وهو ما ظهر جليا وبالملموس مباشرة بعد إغلاق المعابر المؤدية من وإلى مليلية المحتلة.. هذا الثغر الصغير الخاضع للإدارة الإسبانية كان يعيل ما يزيد عن 30 ألف شخص يتنقلون صباح مساء للعمل أو التجارة في السلع والبضائع المهربة، فيجنون منها الأموال التي تعينهم وتعيل أسرهم، في غياب استراتيجية واضحة تجاه هؤلاء الرعايا المغاربة، عبر تكوين شبابهم وشاباتهم وإدماجهم في السوق الشغل بشكل يحفظ كرامتهم وقوت يومهم ويمنع عنهم فكرة ركوب الأمواج عبر قوارب الموت بحثا عن حياة كريمة وعفيفة.
ورغم الاستفاقة “المتأخرة” للحكومات وقطاعاتها الوزارية، بإحداث مشاريع “ورقية” في المنطقة الصناعية، الا أن ذلك لم يكن له التأثير الذي يعيد لأبناء هذا الإقليم الأمل في البحث عن بديل آخر يؤمنون من خلاله مستقبلهم، في ظل التقلبات الاقتصادية وارتفاع الأسعار وتزايد نسب التضخم، وانخفاض القدرة الشرائية بل وتدهورها بشكل مخيف جدا، ما دفع عديد الأسر هنا وهناك الى بيع أثاث منازلهم لتوفير قوت عيشهم، أو دفعها كمبالغ لتجار البشر من أجل مساعدتهم على امتطاء “الفانطوم” أملا في تجاوز الأمواج العاتية والحيتان الجائعة، والوصول الى الضفة الأخرى.
أما مشاريع مارتشيكا، التي كلما خرجت وكالتها من أزمة ودخلت في أخرى.. فلم تقدم ما كان منتظرا منها، من تنمية اقتصادية واجتماعية ورياضية وبيئية.. بل تعثرت جل مشاريعها ولم ترى الأخرى النور؛ فلا الست مدن السياحية أنجزت، ولا مشروع النادي البحري افتتح بعد انقضاء الأشغال به، ولا المكتبة العمومية، التي وعدوا بها سابقا، ظهر لها أثر.. ولا شارع الريف الكبير انتهت أشغاله، بل لا أثر لمشاريع من قبيل “ترامواي” والمركز التجاري “المول” وغيرها.. وهي مشاريع من بين أخرى روّجت وسوّقَت لها وكالة مارتشيكا منذ سنين، ولم تظهر للحين.
style=”display:block”
data-ad-client=”ca-pub-2034286937928332″
data-ad-slot=”1086926944″
data-ad-format=”auto”
data-full-width-responsive=”true”>
نمر الى المركب الرياضي، هذا الملف الذي بحت الأصوات من أجله ورددت الشعارات لتحقيقه وركب الساسة والمنتخبون موجته، وتبادل المسؤولون الحكوميون اتهامات التقصير في تنفيذه.. كان الى وقت قريب مشروعا حلما، حتى أصبح “كابوسا” يقض مضاجع فرق الإقليم وأنديته، رغم ما يُتَردد من شعارات عن توفر الناظور على موقع استراتيجي، وبأنه “باب أوروبا” وبقربه من مليلية المحتلة، وغيرها من الأوصاف المدغدغة للمشاعر، الا أن الحكومة والجهات الوصية على تطوير وتنمية الرياضة وكرة القدم بالمملكة، تغض الطرف عن بناء ذاك المركب الرياضي، الذي أصبح موضوع مادة انتخابية وسياسوية دسمة تتقاذفها ألسن الساسة والمنتخبين.
ويبدو أن منسوب الصبر والثقة قد نفذ لدى الناظوريين، بعد أن تقرر تأجيل مشروع بناء المركب الثقافي الجديد بحي المطار بمدينة الناظور، تحت ذريعة عدم توفر مجلس جهة الشرق على دراسة تقنية شاملة لهذا المشروع.. في مشهد ساخر ومثير للغضب والحنق، تساءل فيه سكان المدينة عن جدوى تذرع هذا المجلس الجهوي بذريعة غياب دراسة تقنية لمشروع تبلغ قيمة إنجازه أزيد من 5,5 مليار سنتيم، ولماذا هذا المجلس الذي خصص العشرات من الملايير لتنفيذ مجموعة من المشاريع التنموية والمهيكلة بمدينة وجدة، استخسر على سكان مدينة الناظور بناء مركب ثقافي، سيخلق لا محالة متنفسا ثقافيا، وفضاء لمواهب المنطقة لصقل مواهبهم، بدل الاكتفاء بالمركب الثقافي الحالي، الذي تهالكت جدرانه ومرافقه ومعداته؟
ويبقى ميناء الناظور غرب المتوسط نقطة الضوء الوحيدة في هذا الظلام الحالك الذي يحيط بالإقليم من كل الاتجاهات، وكلنا أمل أن يرفع هذا الورش من سقف طموحاتنا، بالنظر لأهميته الاقتصادية وتأثيره الكبير على تنمية الناظور وباقي أقاليم الريف والمناطق المجاورة، ويدفع بعجلة التنمية الاجتماعية والبنيوية نحو الأمام، عبر توفير فرص الشغل للشباب والشابات الذين استشعروا أهمية هذا المشروع من خلال انخراطهم في التكوين والتأطير ضمن الشعب والتخصصات المرتبطة بهذا الميناء الطاقي والتجاري.
إن ما يعيشه إقليم الناظور من تعثر لمجموعة من المشاريع في مختلف المجالات والقطاعات، وتراكم هذه الإخفاقات في إتمامها وإنجازها، حَصْرًا بالناظور، سيفاقم، لا محالة، من حالة اليأس والتذمر والغضب لدى ساكنة هذه المنطقة، التي تشتكي من غياب فرص تنمية واضحة المعالم، ومن افتقار الحكومة لخطة لا تشوبها شائبة، تجعل من إقليم الناظور بالفعل وعن جدارة قاطرة للتنمية الاقتصادية ليس على مستوى جهة الشرق فقط، بل على المستوى الوطني.