يبني دعاة منع تزويج القاصرات في المغرب مرافعاتهم على الأضرار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تلحق الفتيات اللواتي يتم تزويجهن قبل بلوغ سن الرشد، وحرمانهن من حقوقهن، من قبيل الحق في التمدرس، لكن البروفيسور خالد فتحي، أستاذ أمراض النساء والولادة بكلية الطب بالرباط، ينبّه إلى أن المنع الشامل لزواج القاصرات قد يُفرز أضرارا سيتأثر بها المجتمع المغربي مستقبلا.
يؤكد البروفيسور فتحي، في ورقة حول موضوع زواج الفتيات القاصرات، أن هذا الموضوع ينبغي أن تتم مناقشته وفق مقاربة شمولية؛ إذ لا تتداخل فيه الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والقانونية فقط، بل هو موضوع متشعب يضم أيضا الجوانب الثقافية والشرعية والقانونية والطبية، رافضا تغليب المواثيق الدولية على الخصوصية الثقافية للمجتمع المغربي.
ويتساءل فتحي: “هل نناقش الأسرة بنَفس سياسي وحقوقي باستحضار مبدأ كونية الحقوق، وبالتالي ضرورة الامتثال للنموذج الأسري الذي يراد له أن يكون كونيا؟ هل نعتمد مقاربة اقتصادية على اعتبار أن المرأة الآن تنافس الرجل في كل مجالات العمل وأنها أصبحت معيلا للأسرة؟ هل نناقشها على أساس إيديولوجي؟”.
ويجيب على هذه الأسئلة بالقول: “الحقيقة التي لا ننتبه إليها للأسف هي أن الأسرة في عمقها هي مؤسسة إنسانية قبل كل شيء، وبالتالي فالمقاربة يجب أن تكون إنسانية. الأسرة ليست حزبا سياسيا ولا جمعية ولا مؤسسة منتخبة ليتم إسقاط مفاهيم الديمقراطية عليها، وهي ليست شركة ولا مؤسسة اقتصادية ليتم إسقاط مفاهيم الربح والخسارة والتعاقد عليها”.
ويرى أستاذ أمراض النساء والولادة بكلية الطب بالرباط أن الانقسام الناتج عن التقاطب الحاد بين “تيار علماني حداثي و”تيار ديني محافظ” حول زواج القاصرات، يجعل النقاش المجتمعي حول هذا الموضوع “متوترا، وأحيانا مستحيلا”، معتبرا أن تجاوز هذا التشنج يقتضي الركون إلى “منهجية مجمعة ومحايدة لا يستطيع أي من الفريقين التنصل منها، وهي المقاربة العلمية الإحصائية”.
في هذا الإطار، قدم فتحي جملة من المعطيات العلمية المثيرة المتعلقة بالتحول الفيزيولوجي للفتيات خلال القرن الأخير، منها أن معدل سن البلوغ عند الفتيات تقدم في القرون الثلاثة الأخيرة بسنة كل قرن، أي إنه في القرن 18 كان متأخرا عنه في القرن 19، وفي القرن العشرين يتم مبكرا عن القرن 19، بفضل تحسن التغذية ومستوى الصحة العامة.
وانتقد إسقاط التحول الفيزيولوجي للفتيات من الحسابات المتعلقة بزواج القاصرات، قائلا: “غالبا عندما نتحدث عن ضرورة مواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية بقوانين جديدة، إذ المرأة تساهم في إعالة الأسرة الآن، ويتاح لها التعليم والشغل كالرجل، ولكننا نسقط من حساباتنا هذا التحول الفيزيولوجي الذي يجب أيضا مواكبته؛ فإذا كانت الفتاة تصل مبكرا إلى مرحلة البلوغ، فيمكن أن يُسمح لها في بعض الحالات وفي بعض السياقات بالزواج مبكرا”.
وفي الوقت الذي يعلل فيه المدافعون عن منع زواج الفتيات قبل بلوغ سن الثامنة عشر موقفهم هذا بكون الفتاة قبل سن بلوغ الرشد ليست مؤهلة لتدبير شؤون الأسرة، علاوة على ضرورة ضمان حقها في التمدرس، اعتبر فتحي أن “رُشد الفتاة لا يحل ليلة عيد ميلادها الثامن عشر، بل هو عملية مستمرة في الزمن، وقد تحدث واقعيا أقل بقليل من سن 18 أو بعد هذه السن، وهذا مرتبط بالخصوص بذكائها الاجتماعي، وهذا ما يفسر منح الأطباء شهادة تسمح بزواج بعض القاصرات”.
خطر انخفاض الخصوبة
من بين العوامل الأخرى التي يرى البروفيسور فتحي أنها تستدعي التأمل والنقاش في موضوع زواج القاصرات، لما لها من تداعيات سلبية مستقبلا على توازن المجتمع، انخفاض الخصوبة الذي صار يحلّ مبكرا لدى المرأة، بسبب عوامل متداخلة.
ويصل عدد البويضات عند الفتاة عندما تكون جنينا إلى 7 ملايين بويضة، يتبقى منها مليون بويضة فقط عند ولادتها، وعند البلوغ يتبقى لديها 400 ألف بويضة فقط، و35 ألفا عندما تبلغ 40 سنة، لينخفض العدد إلى ألف بويضة فقط عندما تذهب العادة الشهرية عن المرأة.
ويوضح البروفيسور فتحي أن انخفاض عدد البويضات بهذا الشكل له علاقة بتلوث البيئة والنمط الغذائي، والقلق الذي يسم الحياة العصرية، مشيرا إلى أنه بسبب التأخر في الزواج، أصبح الكثير من النساء يطلبن المساعدة على الإنجاب في سن مبكرة، 34 سنة أو أقل.
ونبّه إلى أن تقلص سنوات الخصوبة لدى المرأة بسبب “الطبيعة القاسية”، لا تتوفر حلول لمواجهته، وإذا تم اتخاذ قرار تحديد سن الزواج في 18 سنة فما فوق، دون السماح للفتيات أقل من هذه السن بالزواج “ألن يؤدي هذا القرار إلى تفاقم تقليص سنوات الخصوبة؟”.
وفي خضم تزايد مطالب الجمعيات الحقوقية بمنع زواج القاصرات، لفت فتحي إلى أن العالم يشهد “تراجعا مذهلا للخصوبة”، مشيرا إلى أن هناك “توقعات مرعبة بشأن تناقص عدد سكان 23 دولة، من الجنسين، إلى النصف بحلول سنة 2100، بسبب التلوث وتناول المنشطات والمنغّصات الهرمونية التي تدخل في تركيب عدد من الأغذية”.
“إيجابيات” وسلبيات الزواج المبكر
إذا كان دعاة منع زواج القاصرات يستندون إلى حجج من قبيل مخاطره على صحة الفتاة القاصر، فإن البروفيسور فتحي يُورد معلومات “إيجابية” لهذا الزواج، ذلك أن إنجاب فتاة قاصر، سنها 16 سنة، لطفل منغولي يعاني من التثلث الصبغي، لا يتعدى 1/3000، ويرتفع الاحتمال إلى 1/1600 في 25 سنة، و1/1000 في 30 سنة، ويكبر الاحتمال عند بلوغها 35 سنة ليصل إلى مستوى 1/365، وإلى 1/19 بعد 45 سنة.
ويضيف أن الحسابات المذكورة تنطبق أيضا على الاختلالات الوراثية والصبغية الأخرى، مشيرا إلى أنه في السن المبكرة تكون البويضات أجود واحتمال التلقيح ضعيفا جدا، “وبالتالي، فإن الزواج المبكر يمنحنا نسلا قويا وصحيحا من الناحية الوراثية”، على حد تعبيره.
ومقابل هذه الإيجابيات، ينبه فتحي إلى أن مواليد القاصرات معرّضون أكثر لخطر الوزن الناقص، وسوء النمو داخل الرحم، والولادة قبل الأوان وما يترتب عنها من إعاقة ومضاعفات خطيرة.
كما أشار إلى أن القاصر لا تتوفر عموما على الأهلية النفسية والوجدانية للاعتناء بالرضيع وبالطفل، “كونها أيضا لا تزال مراهقة وتحتاج إلى المرافقة، وبالتالي تفتقر إلى النضج الذي يؤهلها لممارسة مهام التربية، خصوصا إذا أنجبت في سنوات الزواج الأولى”.
ونبّه كذلك إلى أن الحامل الصغيرة تتعرض لمخاطر الحمل والولادة بشكل أكبر، ذلك أن القاصرات، يردف المتحدث، يتعرضن بنسبة أكبر لارتفاع الضغط والارتجاج، والخضوع للولادة القيصرية، وتعفن الرحم خلال مرحلة النفاس، على غرار الفئة التي يتراوح عمرها ما بين 20 و25 سنة، إضافة إلى أن الممارسة الجنسية في سن مبكرة تعد سببا من أسباب سرطان عنق الرحم.
من بين المشاكل التي تعاني منها القاصرات المتزوجات أيضا، صعوبة الانتظام على موانع الحمل والحصول على المعلومات الخاصة بطرق تنظيم النسل، مما ينجم عنه تقارب الحمل والولادات، وبالتالي التأثير على صحتهن المستقبلية وفرص ارتقائهن الاجتماعي، كما أن الحمل، يردف فتحي، يكون سببا في الهدر المدرسي وعدم ولوج سوق الشغل بالنسبة للقاصرات.
تقنين زواج القاصرات
لا يوافق البروفيسور فتحي على الإلغاء الكلي لزواج القاصرات في المغرب، غير أنه يؤكد أنه يجب أن يبقى استثناء، وأن يخضع للسلطة التقديرية للقاضي، “الذي هو ملزم بأن يبرهن أن زواج هذه القاصر في صالحها”، معتبرا أن هذا الزواج “لن نقضي عليه بتشريع وإنما بتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للأسر، وآنذاك سنكتشف أنه قد اختفى من تلقاء نفسه”.
وفي المقابل، ينتقد فتحي الجهات التي تسعى إلى منع زواج القاصرات بعلة تفعيل المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، معتبرا أن “الأسبقية تعطى للخصوصية الثقافية عندما تتعارض مع المواثيق الدولية، لأن الخصوصية حق أصيل من حقوق الإنسان والشعوب، ولكل أمة تجربتها التاريخية المختلفة”.
ويضيف: “نلاحظ أن الدول الغربية ترافع لأجل منع زواج القاصرات حتى بعد 16 سنة، لكنها تعتمد ما تسميه سن الرشد الجنسي الذي يمكن معه إقامة علاقة جنسية مع قاصر برضاها دون متابعة جنائية”، مشيرا إلى أن فرنسا تسمح للفتيات اللواتي لا يزيد عمرهن على 13 سنة بممارسة الجنس، وتحدد دول أخرى، مثل إيطاليا وألمانيا والبرتغال والنمسا، السن المسوح بها لممارسة الجنس في 14 سنة، “ومع ذلك لا نعتبرهم منتهكين لحقوق الطفل أو المواثيق الدولية”، يورد فتحي.