اهتمام مستمر برفض التلهيج في التدريس، والدفاع عن اللغات الوطنية، يحضر في كتاب جديد للأكاديمي والسيميائي المغربي سعيد بنكراد، الذي يجدد التمسك بخلاصة أن “الغاية من الدعوة إلى استعمال الدارجة في التدريس ليست مجرد استبدال لغة بأخرى، بل هو ما يمهد الطريق نحو التخلص من العربية لصالح لغاتٍ أجنبية”.
جاء هذا في أحدث كتب بنكراد “مدارات اللغة بين الفصيح والعامي” الصادر عن المركز الثقافي للكتاب، الذي قال فيه إن التخلص من العربية مقصده جعل لغاتٍ أجنبية “أداةَ التبادل التجاري والمالي بين مركز “متخم” بالحضارة وبين محيط يكتفي باستيراد نماذج جاهزة لم تنتج إلى حد الآن حداثة حقيقية، وإنما عوضتها بـ”تحديث” براني “أفرز كائنات استهلاكية” ظلت دائما مشدودة إلى القيم التقليدية في تدبير كل شيء في حياتها”.
واتقاء لهذا المصير، نبه الأكاديمي إلى حاجة وضع العربية في “احتكاك دائم مع الوقائع المادية والقيمية التي تتسرب إلى محيطها”؛ لأن “اللغة كيان حي في الناطقين بها”.
من هذا المنطلق، ذكر بنكراد أن على اللغة استيعاب “روح ما تُسَمي وتصف، فمردودها يتحقق في قدرتها على قراءة ما يفرزه محيطها”، وهكذا “يجب أن تتعلم لغتنا كيف “تفكر” في لغات أخرى، كما يتحقق ذلك في الترجمة، وكما يتحقق أيضا في استنبات العلوم الحديثة داخلها عبر نحن مفاتيح هي من صلبها ومن صلب التأمل الفكري فيها”؛ لأن “اللغات لا تصف وتسمي فحسب، إنها تفكر في نفسها وفي موضوعها في المقام الأول”.
الثمن الذي تؤديه العربية اليوم بسبب “رقادها الطويل” ولو “استيقظت بدافع حب أبنائها”، وفق تشخيص المؤرخ عبد الله العروي، يحتم على الناطقين بها، حسب السيميائي سعيد بنكراد، “إنتاج الفكر داخلها وفق ممكناتها ووفق المتاح الحضاري الإنساني؛ فالعربية لن تتطور بفصلها عن اللغات العالمية”.
وشبه بنكراد “سلوك الداعين إلى الدارجة” بـ”سلوك التاجر” الذي لا يستثمر على المدى البعيد في الإنسان؛ بل “لا يقوم سوى بمبادلة المال بالمال، أي مقايضة بضاعة جاهزة بمقابل مالي مباشر لا تأثير له في الذات ولا في محيطها: يكفي استيراد لغة جاهزة من الخارج لنحدث ثورة في الاقتصاد والصناعة”، في حين “تبنت نيجيريا الإنجليزية لغة وطنية لها، ولكنها ظلت مع ذلك تجمعا لقبائل لا رابط بينها”.
وشدد الكاتب على أن نداء التدريس بالدارجة لا يقف وراءه “اختيار يروم استنبات نموذج حضاري جديد تبنيه لغة (عالمية)”، بل “هو في أصله بحث عن “ربح اقتصادي سريع” بذهنيات استهلاكية مطواعة”.
وتابع شارحا: “فقد تكون اللغة الإنجليزية هي لغة العلم، بل وهي لغة الحضارة المعاصرة، ولكن هذا لا يدعو الناس إلى التخلي عن لغاتهم الوطنية، فاللغات لا تُستورد كما تستورد البضائع، والازدواجية هي إغناء للذات لا استلابها داخل ما نما وترعرع خارج ثقافتها”؛ فـ”امتلاك العلم لا يُحتم علينا أَمْرَكَةَ محيطنا وأذهاننا، إنه يساعد على التعرف على الآخر في لغته، وهو وسيلتنا أيضا لعرض الذات الخاصة في لغة الآخر”.
واستحضر بنكراد كون وظيفة المدرس ليس تلقيننا معارفَ بكرا، أو تعليمنا الكتابة والقراءة فحسب؛ بل “هي في الأساس طريقة مهذبة لتقديم العالم إلى ناشئ يستهويه، في مراحل عمره الأولى، حس الأشياء، أكثر مما تستقر ذاكرته على مفهوم يدل عليها”، وهنا تبرز أهمية اللغة: “فإما أن نقدم إلى المتعلم عالما غنيا متعددا واسعا يساعد الذهن على التفتح واستيعاب تعددية الوجود في الطبيعة والأفكار والمعتقدات، وإما أن يظل هذا العالم عنده وثيق الصلة بما يمكن أن يمليه العيش الحافي وحده”.
لماذا للغة كل هذه الأهمية؟ لأنها ليست “مجرد أداة خارجية تأتي إلى الذات بعد الولادة” ولا تختصر وظيفتها في “توجيه الكائن البشري إلى التعرف على عالم موجود في ذاته”؛ فالإنسان لا يستحضر هذا العالم من خلال أصوات تضع الأشياء أمام الحوار؛ بل “ندرك سرها بواسطة كلمات لا تستوعب وجودا جاهزا فحسب، بل تُضمن التعيين والتسمية موقفا ورؤية وتصنيفا أيضا”.
وواصل بنكراد شارحا: “الإنسان ذاته ليس سوى التمثلات التي تستوطن اللغة وتعشش في كل مستوياتها. لذلك كان الوجود هو اللغة ذاتها، فالأشياء والكائنات التي تستوطن اللغة لا تموت أبدا، وتلك أيضا حالات انفعالات الناس”، وهنا يبرز تميز كل لغة، لا فقط “بتركيبها ونظامها الصوتي والدلالي” وإنما أيضا بـ”نوعية مفرداتها وقدرتها على إعادة بناء الواقع داخلها وفق قوانينها هي لا وفق مظاهر الأشياء الموصوفة”.
وسجل الكاتب أن “الاحتفال” باللغة العربية وحده لن يحميها “مما تعرض له يوميا من إقصاء” كما أن “تهميشها والنيل منها لن يقود، كما يتوهم البعض، إلى صرف الناس نظرهم عنها وسعيهم إلى تعلم لغات جديدة تكون هي نافذتهم على العلم والحداثة والتحديث”، بل إن الإقصاء قد يقود إلى “المزيد من إفقار العالم وإفقار الذات وعرضها على محيطها بدون حماية “مفهومية” متطورة تمكنها من وعيه بطريقة فضلى”.
هنا، ربط السيميائي الفقر المتزايد في لغة الشباب المغربي بـ”تنامي ظاهرة العنف في الشوارع”.
وجدد بنكراد في هذا الكتاب الجديد التأكيد على حاجة العربية إلى “قرار سياسي يعيدها إلى فضائها الحيوي الذي فقدته، أو فرضوا عليها التخلي عنه”.
وأضاف: “اللغة تحيا بدينامية “الوسط” الذي يحتضنها وتكون هي واجهة من واجهاته الرئيسة (…) فلا يمكن للغة أن تستمر في الوجود إذا كانت غريبة عن محيطها”، وهكذا تبرز مسؤولية تأهيل الناطقين بالعربية لغتهم بفتحها على محيطها وعلى علوم العصر بتنشيط ذاكرتها، فنحن لا نعرف إلا القليل مما تحتويه العربية”.
وبهذا “سيكون المبدعون بالعربية في العلوم وفي كل مجالات فن القول هم حماة هذه اللغة، ويكون الذين يترجمون ويعيدون كتابة تاريخ الفكر الإنساني من خلال ممكناتها في الدلالة والتركيب هم مصدر قوتها”، وعبر هؤلاء تستمد اللغة “عناصر البقاء والتطور والابتكار” التي ليست سوى “طريقة في بلورة تمثلات جديدة تشمل كل شيء في حياة الناس، فاللغة جزء من وجودنا في الحياة”.