صيانة للتنوع البصري لألوان المدن المغربية ينبه إلى ضرورتها الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي، حيث يدعو إلى “سياسة لونية” مشتركة تجمع صانعي القرار والمهندسين والفنانين والمثقفين والمواطنين بشكل عام، من أجل صيانة الهوية التاريخية البصرية للحواضر، دون حصرها في خندق لا يقبل التطور.
في هذا الحوار مع هسبريس، يلاحظ الأكاديمي المغربي الذي يدرس بجامعة برينستون الأمريكية أن الخصائص اللونية لمدينة مراكش قد بدأت تحضر في مدن مغربية أخرى، مما يستدعي الانتباه إلى أن ذلك يؤثر على تفرد “المدينة الحمراء” وعلى تميز المدن الأخرى.
نص الحوار:
يشهد المغرب إعادة تأهيل كبيرة في عدد من مدنه التاريخية، أحدثها ربما مدينة مكناس، ويطرح هنا سؤال التجديد مع الحفاظ على الخصائص التاريخية لكل حاضرة من الحواضر. لماذا تهتم، أستاذ حمودي، بسؤال صيانة التراث اللوني للمدن المغربية؟
المشكل مهم جدا، فللمغرب تراث حضري مهم جدا، ومن النادر أن يكون لبلد من حجم بلدنا تراث مدن مذهل مثل هذا، ولن أتوسع في هذا. لدول أخرى تراث معين، مثل راجستان في شمال الهند التي رأيت فيها مدنا هندو-إسلامية محفوظة جيدا تراثيا، وتوجد أخرى دون شك.
لكن، المغرب استثنائي، لأسباب لن أفصل فيها، من بينها حفاظه على جزء كبير من تراثه العتيق، وهذا شيء ثمين جدا وقوي، يجب السهر عليه. توجد خصائص عديدة أخرى لهذا التراث، سواء كان قديما أو حديثا أو معاصرا، يمكن الحديث عنها، تطرق لها آخرون، واخترت الحديث معكم عن سؤال قد يبدو تفصيلا، لكنه ليس كذلك؛ وهو لون مدننا.
بالنسبة لي كرجل كبير السن، عشت خلال جزء من فترة الحماية وعشت أكبر جزء من حياتي خلال زمن ما بعد استقلال البلد، أرى الكثير من التغييرات، كثير منها إيجابية، لكنني منشغل خاصة بالجانب الذي نراه، الجانب البصري لبلدنا، والألوان أساسية فيه، وهناك الأشكال وتنويعاتها… الألوان طبعا لا يمكن فصلها عن باقي المكونات، لكن يمكن تناولها للتنبيه على تطور يظهر لي أنه يجب مناقشته، ويجب أن يشغل الناس، خاصة صناع القرار.
منذ الاستقلال إلى الآن هناك تطور قوي جدا ومهم جدا في الألوان، وأريد أن أقول قبل التطرق لهذا إني لست ماضويا بل محافظ بمعنى محدد، أي أني لست محافظا في أنماط التعليم أو العلاقات الإنسانية والعلاقات الطبقية، ومواقفي معروفة، لكن عندما يتعلق الأمر مثلا بالكسكس فأنا محافظ؛ لأنه اختراع شمال إفريقي مغاربي، ومغربي بشكل خاص بتعدده، يستدعي التفكير مرتين قبل تغييره، مع تفضيل اختراع صيغ أخرى في الإعداد والحفاظ على تلك التي ورثها من الماضي.
الأمر نفسه ينطبق على اللون. كان للبلد تعدد مهم وهائل في الألوان. أعرف المغرب جيدا؛ فقد اشتغلت في واحات الجنوب، وفي الشرق وفي الريف وفي الغرب والأطلس الكبير، وسافرت كثيرا داخله منذ وقت طويل. في جنوب الأطلس خلال الستينات والسبعينات، كنا نمر إلى اللون الترابي أو الصخري، نظرا لمكونات المنطقة، مع ألوان أخرى مثل الأبيض في النوافذ. كان للبنائين والناس تقليد جميل جدا للأشكال، وكانوا يعرفون هذا. وعندما نعبر الأطلس نجد أمرا آخر لأن الأرض والحجارة بألوان مختلفة، بين الرمادي، ووردي تيشكة، فشبه أسْوَد لبعض أنواع الصخور الـ”شيست”.
عندما نصل إلى مراكش يكون الحكم للأحمر أو الأحمر البرتقالي، وليس أي أحمر. خلال الحماية، كانت المصالح البلدية تقنن هذا اللون، ويرافقها النخيل بأخضره، وهو خليط رائع، في مدينة كبيرة، ولهذا يتحدث الناس عن مراكش الحمراء، ويسمونها البهجة.
عندما نتجه نحو الشرق، باتجاه القلعة وبني ملال ودار ولد زيدوح، يكون الأصفر الليموني، ولا أعرف هل هو تقليدي أم أرسي من طرف الحماية، لكنه كان أصيلا جدا، لأنه مع الشمس يأخذ مظهرا خاصا صدئا، ويصير مثل الصباغة المائية، لينا.
بعد المرور من بنجرير إلى السطات نجد الأبيض، لكنه أبيض مع أخضر مزرق. ثم بعد ذلك الأبيض بتنويعات متعددة في الساحل، وصولا إلى طنجة. ووزان كانت بيضاء وما يزال فيها اليوم الكثير من البياض، لكن الأبيض يتعدد عبر المدن ولا يعكس ضوء الشمس بالطريقة نفسها. الصويرة، مثلا، أبيضها متميز وكانت به انعكاساتُ ضوء مزرقة، وتوجد تفسيرات مقدمة لهذا مرتبطة بعوامل مجالها وضوئها ومناخها. وكانت آسفي بيضاء، وأزمور كذلك مع أزرق في الخشب، وبشكل عام كثير من هذه المدن كان بها أبيض مزرق، أي الأبيض للحيطان، والأزرق للخشب، أي النوافذ والأبواب وما في حكمها.
باتجاه جبالة، أبيض مزرق خاص، وكانت الشاون هكذا. هذا تنوع هائل، فلكل جهة ألوانها الخاصة، حيطانا ونوافذ وأبوابا.
سلا كانت بيضاء، مع أزرق غامق حاضر إلى اليوم، والرباط كان الأبيض والأخضر في مدينتها العتيقة، والدار البيضاء كانت بيضاء.
وما الذي حدث؟
لا أدري ما الذي حدث. لكن ما أستنتجه هو أن أحمر مراكش سائر في طريق السيطرة على البلد بتلوينات مختلفة. أنا من منطقة مراكش، من قلعة السراغنة، ومراكش مدينتي وعاصمتنا، ولونها رائع ومذهل، لكن إذا حضر أكثر فأكثر في مناطق حضرية بالبلد، ستفقد مراكش طابعها الخاص، الأحمر البرتقالي، وإذا كان هناك أمر يستدعي التفكير فيه والحفاظ عليه فهو صيانة الطابع المتفرد لمثل هذه المدينة، التي يأتيها الناس للتعرف عليه.
إضافة إلى هذا، المدن الأخرى مهددة بفقدان ألوانها، وهذا سؤال كبير أريد طرحه، على أمل أن يفكر فيه صناع القرار والفنانون والمثقفون ومختلف الناس المهتمون بهذه الأمور، ويجدوا طريقا لسياسة ألوان، في السياسة الحضرية، وهذا دور الهيئات البلدية. والفنانون يمكن أن يفكروا في مختلف الخلطات (بين الألوان) ويقترحوا، مع المهندسين والمعماريين وصناع القرار، مع أخذ مشورة الناس، دون إجبارهم، لوضع لون مرغوب، يمكن أن يعجب الناس، لكن ليس فقط يعجبهم، فهذا اللون هو الذي سيكبر الأطفال وهم يرونه.
لماذا إذن سيكون هذا الاختيار فرديا؟ وأكرر هنا أني لست ماضويا، فهناك مجالس للمدن، وهيئات بلدية، ومهندسون، فالبلد منظم، ويوجد ممثلون للساكنة، ويمكن مناقشة هذا، ويمكن للممثلين أن يتحدثوا مع الأفراد حول احترام الأذواق الفردية ووجود قواعد للجماعة، وإذا اقتنعت أغلبية الجماعة بجماليات مدينة، يمكنهم أن يفسروا الأمر لأفراد.
عندما تختار أن تشتري سيارة جاغوار فذاك حقك، وتستطيع أن تقودها بـ 300 كيلومتر في الساعة، لكن أتصور أن الجماعة يمكن أن تقنعك بأن تسوقها في حدود 60 كيلومترا داخل المدينة، لأسباب عقلانية.
إذا كنا نتجول داخل البلد، ولون أو لونان هما المهيمنان، ماذا سنكتشف؟ لا أدعو إلى التأحيد، فالتعدد والاختلاف والتنويعات موجودة بين المدن، حتى داخل اللون الواحد، أو في ألوان مجاورة، ولكن على أي حال، يذهلني مثلا أنه في الدار البيضاء وحتى في الرباط يبني أناس منازل رائعة كبيرة وغالية ويصبغونها بالأبيض، بفعل لون المدينة، ولا تأتيهم فكرة أن يصبغوها بالأحمر، فظاهرة الأحمر ظاهرة حديثة.
لا أدعو إلى فرض لون على سيدةٍ أو سيدٍ يبني بيتا، بل أقول ببساطة لنا جميعا قيم، ولكن القيم يمكن أن تناقش.
إذا فَقُر البلد لونيا، فإن اللغة البصرية للأطفال تفقر، هذه فرضيتي وفكرتي، وأريد فقط فتح النقاش حول هذا الأمر، لنفكر في أن هذا قد يكون مشكلا هاما، ليس المشكل الوحيد؛ فهناك البنية التحتية وتنمية المدن والمنشآت المستقبلية، وتوجد منجزات مهمة جدا وإيجابية جدا بمدننا، مع المخططات والحكومات المتوالية، وقرارات الملك، مثل (برنامج) “الرباط مدينة الأنوار”، الذي خصصت له ميزانية مهمة جدا، وأتى بمنجزات قوية، لكن أريد أن أطرح هذا السؤال حول الألوان، وأظنه إشكالا مهما، فنحن نتجول داخل الألوان دون الانتباه إلى ذلك. وهذا عامل قوي جدا من عوامل الحياة.
عندما نفكر في الشاون، نجد مثالا مهما، فقد غيرت تماما هويتها البصرية، من مدينة بيضاء إلى جوهرة زرقاء، وتعرف بهذه الهوية الأخيرة عالميا. نستحضر أيضا كون الهوية ليست أمرا ثابتا، ويمكنها التغير. كيف ترون مثال الشاون؟
لقد أكدتُ على أن فكرتي ليست أن نثبت بالجبر المدن في هوية ما. لكن حاليا مراكش معروفة بالأحمر… وإذا عرفت الشاون بلون معين، (فقد بقي أبيضها خاصة في المدينة الحديثة لكن في الجانب العتيق يتجاور الأبيض والأزرق، أي إن هذا الأخير تطور) لا اعتراض لي على هذا التطور، لكن لنضع هذين اللونين في بني ملال ولنر النتيجة! لا يمكن أن نثبت الشاون في هويةٍ، والناس بما في ذلك السلطات العمومية ساهموا في تطورٍ، وهو تطور مُسعِد، لكن قُطبَي الخطاب البصري هما الأبيض والأزرق وقد بقيا.
أنا أنثروبولوجي يكتب كثيرا من أجل التطور، وكتبت عن الهوية بالعربية، مع فارق دقيق؛ فالهويات مرنة كما يدعي البعض، لكنها مُرونة لها حدود في بعض الأحيان، وهي حدود يجب فقط ملاحظتها، وأحيانا الهويات تتسع، وتتغير انطلاقا من نفسها أو انطلاقا من عوامل قيم معينة، وأنا مع هذا الأمر.