دعوة إلى كلمة سواء تصون الإنسان، بصيانة إيمانه وعقله، تنطلق من مبدأ أن “الأنوار لا تتزاحم”، تحضر في كتاب جديد للباحث محمد التهامي الحراق.
بعنوان “الأنوار لا تتزاحم: من أجل أفق تحريري بالدين لا من الدين”، يتحدث التهامي الحراق عن سبيل يقترحه طريقا ثالثا لـ”إنقاذ متبادل بين العقل والدين من أجل إنقاذ الإنسان”، عبر “تضافر أنوار العقل وأنوار الدين”.
يقدم الحراق هذا الطريق مقابل “التعصب بين من ينتصر لأنوار الإسلام ومن ينتصر لأنوار الحداثة”، وهما فريقان “متوافقان موضوعيا في القول بالقطيعة بينهما”، كما يقدمه في مقابل ما يقترحه “فريق توفيقي بين أنوار الجهتين”، يسقط في نظره في “فخ التلفيقية”.
في مقابل “القطيعة” و”التلفيق”، ينادي الحراق بـ”الانتصار للحوار النقدي بين “الأنوارين” (…) وإحلال الحوار النقدي محل القطيعة أو التوفيق التلفيقي بين أنوار الإسلام وأنوار الحداثة”، بعيدا عن “زعم القول الفصل” ومع الاحتفاظ بـ”القابلية الدائمة للتعديل والتسديد والمراجعة”.
ومن بين الأسئلة التي يطرحها الكتاب: ألا نجد حضورا للشك والتساؤل ونقض البداهات داخل أنوار الدين نفسها؟ ألا تسعف درجاتٌ معينة من السكينة التي تحققها أنوار الروح في الإقدار على الشك والمساءلة وإعمال أنوار العقل؟ ألا تحتاج أنوار العقل إلى مراجعة دائمة بما في ذلك مراجعة موقفها من الدين ومن أنوار الروح؟ ألم يفْض تجبر عقل الأنوار و”توثنه” خارج كل تلطيف روحاني وأخلاقي ديني إلى خيانات لأنوار العقل نفسها؟
كما يطرح أسئلة: بأي معنى يمكن لهذا العقل أن يكون نورانيا لا يلغي الغيب والتعالي كما حصل مع مصير “الأنوار” الأوروبية، وفي الوقت ذاته يستفيد من هذه “الأنوار” وقيمها العقلانية والإنسية والاجتماعية والحقوقية؟ ثم كيف يستطيع أن يتحرر في صوغه لـ “أنوار جديدة” من مركزية تاريخ الأنوار الأوروبية ومن انحرافاتها، وكذا من انخساف الأنوار في الحضارة الإسلامية وانغلاقاتها؟
ويتطلب أفق “النور الذي لا يضاد النور”، “التخلص من جرح الولادة الذي صاحب انبثاق الحداثة الغربية”، التي “في صورتها الراديكالية ومنذ القرن الثامن عشر تقدم ذاتها بوصفها قطيعة جدرية مع الدين، ونسفا للتعالي في العالم، وتجفيفا للسماء من القداسة، وإلغاء لكل معنى غيبي (…)” إلى درجة تقديس “هذه القطيعة باسم العقل والعلم والتقدم”، مع الزج بـ”الدين في كليته وشموليته ضمن الدياجي والظلمات التي جاءت الحداثة لتبديدها وإحلال أنوارها محلها”، مع “عدم الاعتراف للدين بأي بصيص أو شعاع نور، بل تنكرها بشكل عام لأنوار الدين”.
ولا تعني بالنسبة للمؤلف “هذه المراجعة لمطبات أنوار الحداثة (…)، بحال من الأحوال، عدم الإفادة منها؛ بدءا من الإفادة من مراجعاتها النقدية الذاتية (…) فهذه الأنوار قد راكمت، عبر تطورها وتنوع تجاربها، الكثير من المكتسبات الحديثة، سواء في الحد من التدين الكنسي القروسطي في صورته التيولوجية السلبية الكابتة للعلم والخانقة للروح والمهمشة للإنسان والقامعة لحريته، أو في الحد من غلواء هذا التدين في صورته السياسية المتحالفة مع السلطة الاستبدادية والنافية للتعددية الدينية وللحقوق الاجتماعية المختلفة”.
وتابع الكتاب مستشهدا بالأكاديمي محمد سبيلا: “من معالم أنوار الحداثة، على تعدد تجاربها واتجاهاتها، أنها رفعت من شأن العقل في كل المجالات الإنسانية، وجعلت من إعمال النقد وظيفته العضوية للخروج من السبات الدوغمائي، ورسخت التسامح بين المعتقدات المختلفة، وآمنت بإنسية تمجد الإنسان معرفيا وأخلاقيا، وأولت مكانة مركزية للعلم ولإشاعة الأفكار العلمية”، وهي معالم لم يجد المؤلف فيها “ما يقتضي ضرورة استبعاد الدين بإطلاق لتحقيقها”.
يتحدث الكتاب أيضا عن الحاجة إلى التخلص من “التعصب للدين باسم الوحي”، وضرورة “نقد أشكال حضور الأنوار في السياق الديني، من أجل تحرير الدين من انحرافات قراءاته ومزالق توظيفه ومطبات أدلجته، أي تحريره من كل ما من شأنه معاداة العقلانية والعلم والتقدم وحرية الإنسان وسعادته في العاجلة قبل الآجلة، أو ما من شأنه نشر الخرافة وسلبية الإنسان والوصاية على عقله، وتعطيل إرادته، وتغليل الفرد والحيلولة دون تفجير طاقاته الإبداعية والوجودية بشكل متجدد، تسمو بقيمته في الوجود وتقدره على صياغة المستقبل والفعل في التاريخ”.
ويستدعي هذا الكتاب المفكر محمدا إقبال و”أفقه الحواري” الذي “من شأنه أن يجدد التفكير الديني في الإسلام، ويقيمه على أسس عقلانية إيمانية يحتاجها المسلمون اليوم في سياقهم الديني الخاص، بقدر ما تحتاجها الإنسانية في السياق الوجودي والروحاني الكوني، طلبا للإسهام في إنقاذ الإسلام من ترديه التاريخي الخاص، وفي إنقاذ مآلات الحداثة من هشاشة أنطولوجية مدمرة”.
ويستدعي نماذج إعلاء العقل عند المعتزلة، وتصور أبي حامد الغزالي للعقل الذي “لن يهتدي إلا بالشرع” و”الشرع” الذي لم “يتبين إلا بالعقل”؛ فـ”العقل كالبصر، والشرع كالشعاع ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر”.
كما يستدعي تصور ابن رشد الذي تحدث عن تلازم العقل والإيمان وتكامل الحكمة والشريعة، ورؤية ابن عربي التي يقول فيها إن “الأنوار الباطنة المعنوية ككنوز الإيمان، ونور العقل، ونور العلم، وأما الظلمة الباطنة كظلمة الشرك والجهل وعدم العقل”، ويستشهد أيضا بابن تيمية في أبعاده الصوفية والعقلانية التي تدرئ أي تعارض “بين العقل والنقل” وترى “العقل مع الإيمان والقرآن كنور العين إذا اتصل بنور الشمس”، بعيدا عن “القراءة المبتسرة الوهابية” له، التي تقدمه في “صورة متشددة موهْبنة”.
ويشدد الحراق على أن استدعاء “مواقف السابقين في السياق المعاصر”، ليس دعوة لاستنساخها نظرا “لاختلاف الأسئلة والإبستيمية والرهانات والسقف المعرفي”، ولا لتطور مفهوم العقل نفسه والآفاق التي فتحتها أمامه الثورات المعرفية في مختلف المجالات في العصر الحديث”، بل لتقديمها “نقط ضوء للاهتداء بها من أجل إعادة صياغة العلاقة بين أنوار الحداثة وأنوار الإسلام في السياق المعاصر، بدءا من دفع جملة من الانغلاقات التي وقع فيها العقل المسلم خلال عهود التراجع والانتكاس، والتي طمست تلك النقط المضيئة، حتى كأن المسلمين لم يفكروا قط في سؤال العقل أو في علاقة العقل بالإيمان، وحتى لكأنهم انتظروا أنوار الحداثة لتبشرهم بأهمية العقل ودوره في صناعة حركة التاريخ”.
وينتقد الكتاب مفهوم “إسلام الأنوار”، الشائع خاصة في المجال الفرنكفوني؛ لأنه رغم “أهمية طموحه التنويري”، إلا أنه “يخضع فهم الإسلام، وبشكل غير نقدي، لمعجم فلسفة الأنوار ومنظومتها المعرفية والتاريخية والإيديولوجية (…) فيما نطالب نحن بالاستنارة النقدية بهذه المنظومة، والعمل على إخراجها من جوهرانيةٍ موهومة، وماهوية لا عقلانية. كما نطالب بالتعامل بنفس “العملة النقدية”، أي الانتقادية، مع الفهم الجوهراني والماهوي لـ”رسالة الإسلام”.
ولا يدعو التهامي الحراق إلى “إعادة سيطرة قيم الدين على الحياة كما كان ذلك في العصر الوسيط بأوروبا”، بل يصبو إلى “إعادة إدماج الأفق الأخلاقي الروحاني، والإنسي الرحموتي، والكوني المتعالي، في بناء علاقة الفرد بذاته وبالطبيعة وبالمجتمع”.
الحاجة إلى إعادة الإدماج هذه ماسة، بالنسبة للكاتب، من أجل “تجاوز أنماط الخلل والانفلات والانحراف والزيغ التي وقع فيها الإنسان المستقل بعقله عن التعالي، والمستأسد على الطبيعة باسم علم تجريبي غير منضبط بأي مرجعية أخلاقية أو معيارية روحانية”، من بين نتائجه “ما يتهدد الإنسان في عالم اليوم من مصير مأساوي جراء تراجع السرديات المعنوية الكبرى، وانفلات البحوث العلمية من كل رقابة معيارية روحانية أو أخلاقية أو عقلانية، وذهاب المغامرات البيولوجية والجينية نحو المجهول، والأخطار المحدقة بالمناخ والبيئة، فضلا عن آفات إنسانية مقلقة مثل الهجرة والفقر والتعصب والحروب على الهويات أو المنافع وتغول الاستهلاكية المتوحشة والاسترقاق الرقمي…”.
إذن، هذه “الأنوار التي لا تتزاحم” تحضر فيها عند الإنسان، عقلا وروحا، بشكل متبادل، “المراقبة” و”التطبيب” و”الاعتراف”، من أجل “إنقاذ الحداثة من مطباتها التاريخية ومن جرحها العدائي للدين، وإنقاذ الدين من فهومه المناقضة للعقل والعلم والحرية، مع العمل على تحرير الطرفين من سعي كل منهما للهيمنة على الآخر، ومن كل ما في شأنه إهدار كرامة الإنسان في الحس والمعنى، باسم العلم والعقل، أو باسم التعالي والآخرة”.