أصبحت مشاهدة المقاطع القصيرة أو ما يعرف بـ”REELS” على منصة إنستغرام عادة يومية للكثيرين، تصل إلى حد الإدمان عند البعض، بحيث يقرر الشخص مشاهدة مقطع واحد، حتى يجد نفسه أمام مئات منها، يلتهمها واحدا تلو آخر، دون أن ينتبه إلى المدة التي قضاها في المشاهدة، فيتكرر الأمر يوميا، وإذا بساعات تقضى فقط في تقليب هذه المقاطع دون انقطاع.
هذه العادة تدخل عقل المشاهد في دوامة من الخمول والكسل، وتبرمجه على الاستمتاع فقط بالأشياء التي لا تتطلب منه وقتا طويلا؛ فعندما يفرض عليه أداء مهمة معينة، على سبيل المثال قراءة كتاب، يصاب عندئذ بفقدان الشغف والحماس لإنهائه، شأنه شأن أي أمر يقتضي منه التركيز لمدة طويلة، لذا يمكن القول إن السرعة هو داء العصر بامتياز.
لماذا يحدث كل هذا؟ أو على الأصح ما الذي يحدث؟ يجدر بنا التساؤل عن عدم قدرتنا على الثبات على تفكير موجه إلى شيء واحد لفترة طويلة. في المقابل، يجد الواحد نفسه في تنقل سريع وعشوائي، بين الأفكار الكثيرة ووسائل المعرفة المختلفة؛ الشيء الذي يفضي بنا دائما إلى حالة من القلق والخوف والضياع، بدافع المتعة والاستمتاع.
يذكرنا هذا الأمر بخاصية من خواص العقل البشري تدعى “ظاهرة عقل القرد” The monkey mind phenomenon، وهو مفهوم ظهر أول مرة مع البوذية، فمصطلح “عقل القرد” مجرد تشبيه لحالة إدمان التشتت التي أصبح معظمنا في الوقت الحاضر مصابا بها، كأن تنقلنا بين مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، يشبه تماما تنقل القرد من شجرة إلى أخرى، بحثا عن المتعة المحصورة عنده في الموز، في حين نجد متعة الإنسان متمثلة أساسا في قتل وقت الفراغ والضجر، بأقل مجهود عقلي ممكن.
تتداخل هذه الخاصية مع نظرية تدعى “الإشباع الفوري” أو “Instant gratification”، وهو مصطلح يحيل إلى الإغراء والميل إلى التخلي عن فعل ذي فائدة لكن بعيدة المدى، والتركيز بدل ذلك على فعل يقدم مكافأة فورية للنفس لتتلاشى بعد ذلك.
والحقيقة أن الإشباع الفوري يؤثر على حياتنا بطريقة سلبية، فقد تعود معظمنا على تحقيق رغبات في اللحظة التي نريدها، وإن كانت النتيجة لحظية. لذلك، فإن الإشباع الفوري هو سعادة قصيرة، والمشكلة هي أننا نرغب فيه مرات أخرى، فنحن في حالة تعطش لأي عادة تسهم في خلق المتعة بأقل مجهود ممكن. مثلا، الشعور بالإثارة في كل مرة يضأ فيها الهاتف مع رسالة نصية جديدة، أو متابعة الإعجابات على صور “إنستغرام”، ومشاركات “فيسبوك”، والرغبة الدائمة في متابعين أكثر على “تويتر” من أجل شعبية أكبر.
هكذا تساهم مواقع التواصل الاجتماعي، والأنترنيت بشكل عام، في تغذية إحساسنا بالإشباع الفوري، وتوثيق ارتباطنا بالواقع الافتراضي. وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى إدمان مواقع التواصل الاجتماعي. لذا، علينا أن ندرك أن الإشباع الفوري لا يمكن أن يكون هدف حياتنا أو محورها.
والحال أن هذه الضوضائية التي تنجم عن “عقلية القرد” تلك تتفاقم يوما بعد يوم بسبب الانفجار المعرفي، والثورات الرقمية التي جعلت كل واحد فينا يعيش بعقلية القرد، متعطشا دوما للمزيد، باتباع الطريقة نفسها دونما اجتهاد، يصعب معها الحفاظ على فكر هادئ وعقلاني، لتضيع حياتنا الحقيقية أمام أعيننا وسط هذا الزخم الكبير من التحولات، فيجد الشخص نفسه دائما في حالة تسرع وعجلة، كاتخاذ أحكام وقرارات عشوائية، وبالتالي يفقد السلام الداخلي. والحال أن نسبة هذه الحالات في تزايد مستمر بسبب الانفجار المدني والمعرفي، والعولمة السلوكية، التي جعلتنا نعيش بعقلية القرد لهثا وراء المزيد دوما، خوفا من المجهول وعدم الرضا بالموجود.
في هذا الجانب، نجد كتابا يصب في المنحى نفسه للدكتورة جينيفر شانون بعنوان “لا تغذ عقلية القرد لديك” Don’t Feed The Monkey Mind، حاولت فيه الوقوف عند أهم الأسباب التي تولد هذه العقلية، ومن ثم الإشارة إلى كيفية منع الأفكار المتقلبة، التي تجعل صاحبها في قلق وتشويش دائم، عبر استخدام “العلاج السلوكي المعرفي الفعال” (CBT). وقد حددت الباحثة مجموعة من الخطوات التي يمكن عبرها التفوق على تأثير هذه العقلية، نجد أبرزها: التخطيط، التركيز، التأمل، والرضا …
وفي السياق نفسه، وضح مهدي عامري، خبير التواصل الرقمي والتنمية الذاتية، لجريدة هسبريس، أنه “في السنوات الأخيرة، بات تبادل ومشاركة المقاطع الفيديوغرافية القصيرة على منصات “تيك توك” و”فيسبوك” و”إنستغرام”… عادة شائعة”.
وأضاف عامري: “تعرف هذه الفيديوهات رواجا منقطع النظير، وقد غدت هذه الفيديوهات القصيرة التي تتراوح مدتها بين 30 ثانية إلى دقيقة، منتشرة كالنار في الهشيم”، لافتا إلى أن “الملاحظ لهذه الظاهرة يتبين له أن أغلب المحتويات التي يتم تداولها على نطاق واسع هي محتويات تغلب عليها السطحية، وبعيدة عن المحتوى الهادف والتثقيفي؛ لكن رغم ذلك نجد عدد المشاهدات يفوق الملايين”.
وسجل الخبير ذاته: “أدى رواج هذه المقاطع وسريانها الهائل بين الناس في الكرة الأرضية إلى الوصول بهم أحيانا إلى حالة إدمان، ونفسر هذه الحالة بأن هذه المقاطع الفيديوغرافية القصيرة تخلق حالة من التساهل والسهولة في الحصول على المادة الترفيهية، وترفع إفراز هرمون الدوبامين المسؤول عن السعادة في الجسم البشري”.
وأضاف: “أصبحنا نعيش الآن في عصر الترفيه بامتياز Entertainment ، وهناك توجه عالمي ضارب بقوة وجراف نحو الصناعات الترفيهية؛ بل أكثر من ذلك نحو صناعة وغرس نظام التفاهة، لأن مواقع التواصل الاجتماعي غيرت المفاهيم وأصبحت المضامين والمحتويات الفيديوغرافية القصيرة تنتج بالآلاف أساسا لتلبية رغبات الجمهور”، خالصا إلى أنه “إذا كانت حاجات الجمهور تتسم بنوع من السخافة والتفاهة سيؤثر ذلك تلقائيا على نوعية المضمون، كل هذا من أجل تدوير عجلة الاقتصاد الرقمي، فنجد أنفسنا إزاء الحديث عن مصطلح المقاولة الإعلامية الرقمية، وهو المنطق المهيمن على حساب الجودة في عصرنا هذا”.
وعودة إلى المقاطع القصيرة REELS، يستوجب على المدمنين عليها محاولة التقليل من مشاهدتها، بدل ذلك توجد العديد من الطرق للحد من تشتت الانتباه؛ نذكر، على سبيل المثال وليس الحصر، محاولة إنجاز مخططات للقيام بالأعمال الضرورية يوميا والالتزام بها قدر المستطاع للتغلب على هذه العقلية.