قال عبد الفتاح الحجمري، مدير مكتب تنسيق التعريب (ألكسو)، إن “موقع التخييل الروائي بخصوص العلاقة التي تربط المدينة بالرواية يحمل في ثناياه رؤية نقدية، أساسها نصوص حاملة لملمح الابتكار وتجاوز الواقعية المباشرة”، موضحا أن “قيمة الأدب الروائي الراصد لأحوال المدينة ليست واحدة ومتماثلة في جميع المجتمعات العربية، رغم العديد من القواسم المشتركة تاريخيا واجتماعيا وسياسيا”.
وأشار الحجمري، في مقال له بعنوان “كيف تفكّر الرواية في المدينة؟”، إلى أن “الرواية العربية تحفل بالعديد من النصوص التي اتخذت من فضاء المدينة مكونا مركزيا في صياغة الأحداث وتأثيث العوالم”، مضيفا أن “روايات عربية عديدة من سوريا ومصر والمغرب والعراق والجزائر وفلسطين ولبنان أبدعت في تحويل المدينة إلى لحظة حكائية، ذات جرأة على مكاشفة مصير الفرد والجماعة أمام سلطة قاهرة وعمران خانق وعشوائي”.
وبعدما تناول عبد الفتاح الحجمري الموضوع من زوايا مختلفة، ختم مقاله بالإشارة إلى أن “المدن العربية لا تمنحنا إلا حياة اللامُتوقع، ونتوهم لحظة أنه بإمكاننا تبديد الوحشة بألفة مزعومة، أما صفوة الصفوة أو من يفد من الآفاق، فإنك تراهم يمرون من غير تخفيف الوطء في مدن قاصية دانية”.
هذا نص المقال:
ينطلق هذا الرأي من فرضية تسائل علاقة المدينة بالرواية، أي علاقة فضاء بفضاء، في ضوء ما للمدينة من خصوصية مكانية وعمرانية تتحكم فيها رواسب إنسانية عامة، مفتوحة على قيم المعيش والمحلوم به، والصور المعبرة عن ترسباتهما في الوجدان والكتابة.
يبدو لي أن الرواية لا تصلح إلا للكتابة عن المدينة، أي عن التشتت والاندثار. يمكن إنجاز نمذجة نصية وتاريخية لعلاقة الرواية العربية بالمدينة منذ القرن التاسع عشر وصعدا، وفي اقتران بسؤال النهضة الكاشف عن تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية مغربا ومشرقا، وبدرجات متفاوتة من قطر إلى آخر؛ وهذا يعني أن موقع التخييل الروائي -بخصوص العلاقة التي تربط المدينة بالرواية- يحمل في ثناياه “رؤية نقدية” أساسها نصوص حاملة لملمح الابتكار وتجاوز الواقعية المباشرة. ولذلك، فإن قيمة الأدب الروائي الراصد لأحوال المدينة ليست واحدة ومتماثلة في جميع المجتمعات العربية رغم العديد من القواسم المشتركة تاريخيا واجتماعيا وسياسيا.
من هنا أهمية التفكير في جوهر الأسئلة التي يطرحها علينا الخطاب الروائي العربي اعتبارا لهذه الحقبة الاستثنائية من راهننا المطبوع بالعديد من الأحداث. لا أحد ينكر الأزمة التي تعتري المجتمع العربي أمام انتشار الأمية، وبروز خطاب التعصب وانحصار خطاب التعقيل… من هنا أهمية فهم كيف تفكر الرواية في المدينة بوصفها “صورة لمجتمع” منفتح على عالم يربط الرواية بالحياة، أي بوُجودٍ يهدف “التصالح” مع الواقع و”توفير” قيم “نبيلة” ومفتقدة…
المدينة خلق للعالم قبل أن تكون الرواية تصويرا له. إنها في الرواية تخيّل، وما ينقله الروائي هو فكرة عن المدينة وليس المدينة ذاتها. وهذا يعني أن المدينة الروائية هي مدينة خيالية. من هنا يمكن الحديث عن ذاكرة للمدن تستدعي مدنا خاصة بالمؤلفين، فتكون لنجيب محفوظ قاهرته، وليوسف القعيد وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني قاهرتهم؛ مثلما تكون لعبد الكريم غلاب فاسُه، وللطاهر بن جلون وأحمد المديني ومحمد برادة وعز الدين التازي فاسُهم الخاصة.
يبدو من الصعب اقتراح نظرية للفضاء الأدبي خارج حدود التحليل النصي والذي يمدنا بمجمل التداعيات الفكرية والثقافية لاشتغال الفضاء في النص بصرف النظر عن أية مماثلة مع الواقع كما لمحت سالفا.
تحفل الرواية العربية بالعديد من النصوص التي اتخذت من فضاء المدينة مكونا مركزيا في صياغة الأحداث وتأثيث العوالم، بل إن أسماء المدن تصدرت عناوينها؛ روايات عربية عديدة من سوريا ومصر والمغرب والعراق والجزائر وفلسطين ولبنان، أبدعت في تحويل المدينة إلى لحظة حكائية ذات جرأة على مكاشفة مصير الفرد والجماعة أمام سلطة قاهرة وعمران خانق وعشوائي. هكذا تتجلى في الرواية العربية صور لسرد المدينة بوصفها عالما:
– مليئا بالتوتر: بحيث تفصح تعقيدات الحياة اليومية طابع الطوية في علاقة الشخصيات الروائية بالمدينة، وإن بدت علاقة مجلية لتاريخ الأنا مصدرهُ تفكير داخلي وتأمّل جوّاني: (مدينة براقش) لأحمد المديني، (عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني…
– مثقلا بالمهمّش: تُظهر نصوص من الرواية العربية ميلها نحو تشخيص عوالم المهمشين، بحيث تبدو علاقة الشخصيات بالمدينة حادة ومتوترة تحمل أثر الأحلام المنكسرة أو المؤجلة: (أرصفة وجدران) لمحمد زفزاف، (مالك الحزين) لإبراهيم أصلان، (جنوب الروح) محمد الأشعري…
– راصدا للتحوّل: ذلك أن علاقة الشخصية بالمدينة يمكن أن يحكمها وعي بقيم جديدة تسود بدل أخرى تتوارى. والعلاقة هنا تُعادل “رؤية نقدية” أساسها أزمة اجتماعية أو فكرية: (القاهرة الجديدة) لنجيب محفوظ، (الشراع والعاصفة) لحنا مينه، (شرق المتوسط) لعبد الرحمان منيف…
– مُجلّيا للسلطة: تجسّد نصوص من الرواية حقبا عنيفة من التاريخ الاجتماعي والسياسي العربي، ولّدت الرغبة لدى الشخصيات الروائية في التحرر من ضغط السلطة وبؤس حاضر مُفجع: (تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، (عَوْ) لإبراهيم نصر الله، (سمر الليالي) لنبيل سليمان…
– تعبيرا عن السقوط: حين تقدم الرواية وصفا دقيقا لانهيار العديد من المدن جراء حروب أهلية أو اعتداء أجنبي. وتحمل المدينة في هذه الروايات إما صورة هوية مفتقدة، أو صورة فضاء لتعرية أوهام الوطن: (الوجوه البيضاء) لإلياس خوري، (المخطوطة الشرقية) لواسيني الأعرج، (ثلاثية غرناطة) لرضوى عاشور، (عين الفرس) الميلودي شغموم…
في الفصل الرابع من كتابه الإيديولوجية العربية المعاصرة “العرب والتعبير عن الذات” يعالج عبد الله العروي إشكالية الصيغ التعبيرية متسائلا: ما هو الشيء الروائي في مجتمعاتنا؟ بمسلمة أساسية حاملة لتصوره للرواية بوصفها بنية كلية وشاملة وموضوعية أو ذاتية، تستعير معيارها من بنية المجتمع، وتفسح مكانا تتعايش فيه الأنواع والأساليب المختلفة، كما يتضمن المجتمع الجماعات والطبقات المتعارضة جدا. وحين نمعن النظر في هذا التصور، سنلاحظ أن عبد الله العروي ظل في ما كتبه من روايات باحثا عن تلك الصيغة الكلية والتي تجعل من المدينة الكبيرة المسرح الضروري للرواية الكبيرة، لأنها -أي المدينة- تجمع في حيز محدود، المركز والأطراف، الإنسان وسوابقه، العالم المنجز ورسومه الأولية والعرضية.
لا تمنحنا المدن العربية إلا حياة اللامُتوقع… نتوهم لحظة أنه بإمكاننا تبديد الوحشة بألفة مزعومة… أما صفوة الصفوة أو من يفد من الآفاق، فإنك تراهم يمرون من غير تخفيف الوطء في مدن قاصية دانية… نعرفها ولا نعرفها، وربما سئمناها وسئمنا معها أعمارنا المتهالكة والمتآكلة أيضا.