قال عبد الفتاح الحجمري، مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط، إن “كل الذين كتبوا عن القصة بالمغرب مُبيّنين مياسمها التاريخية، من منظور خصوصية التكوين والصياغة الفنيين، يجمعون على أهمية المجموعة القصصية الأولى لعبد الجبار السحيمي (الممكن من المستحيل)، وذلك في سياق لحظات تطوّر السرد القصصي مطلع العقد الستيني وصُعدا”.
وأضاف الحجمري، في مقال له بعنوان “عشر سنوات على رحيل عبد الجبار السحيمي.. بالمناسبة وبدونها… أيضا”، أن “السحيمي يعتني في قصصه برصد واقع يسوده الفقد، وتتماهى فيه الأحلام مع الجراح، ولا تعلو كتابته عن الواقع بل هي صاعدة منه، كأنها تجميعٌ لأعمار متهالكة وشخصيات أعياها العثور على ملاذ، وقد حاصرها الضياع الذي أضحى رديفا لحالات وجودية فيها من التمرّد والاحتجاج والانتهازية شيء، ومن العسف السياسي والاستبداد والوصولية شيء آخر”.
وبعدما طرح عبد الفتاح الحجمري سؤالا حول “كيف يمكن لكلمة واحدة أن تختصر تاريخ حقبة بكاملها؟”، حاول الإجابة عنه بالتطرق لقصة “الفاركونيت”، مشيرا إلى أنها “لم تهتمّ بنمذجة بطولة مزعومة، واكتفت بمنحها لفكرة أضحت هي البطلة بتعبيرات بارودية تعرض لها القصة بطريقة تصاعدية وبنوع من الترتيب الدلالي”.
وهذا نص المقال:
1
كلّ الذين كتبوا عن القصة بالمغرب مُبيّنين مياسمها التاريخية، من منظور خصوصية التكوين والصياغة الفنيين، يجمعون على أهمية المجموعة القصصية الأولى لعبد الجبار السحيمي “الممكن من المستحيل”، وذلك في سياق لحظات تطوّر السرد القصصي مطلع العقد الستيني وصُعدا، وهي اللحظات التي شهدت تبلور تصوّر للكتابة القصصية يتخطّى منظور الخاطرة والكلام المرسل، إلى تشكّل نص قصصي يرادف الواقع ويحاكيه، ويتناسب مع تلك الحقبة بما شهدته من تفاعلات سياسية واجتماعية، بما يعني أن تطوّر السرد القصصي اعتمد على “تجريب” أساليب جديدة من السرد، و”تحديث” هذا النوع الأدبي بحسب قناعة هذا الكاتب أو ذاك وفهمه لجدوى الأدب ومسلماته الفكرية والإيديولوجية.
من هذا المنظور، شكلت المجموعة القصصية الأولى لعبد الجبار السحيمي، مثلما هو الأمر كذلك في مجموعته الثانية “سيدة المرايا”، واحدة من مجاميع تلك الحقبة التي راهنت على تمثل قيمة إبداعية لعلاقة الأنا بمحيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ نصوص السحيمي لم تخطئ الموعد بناظم حكائي مركزي يعلي من شأن الحرية، ويفضحُ المُزيف ويلاحقُ حوادث الوقت ومصير الإنسان.
من هنا انشغال عبد الجبار السحيمي بانتقاء بناء قصصي، لغة وأسلوبا وصورا، ينسجم مع طبيعة العوالم الحكائية دلالة ومدلولا. يتوازى هذا انشغال نصوصه الأدبية والصحفية بخلفية أحداث اجتماعية وسياسية وبفعل عوامل تاريخية واقعة وممتدة من نهاية الاستعمار وإعلان الاستقلال، إلى تكاثر الخيبات مثل حمم متقاذفة أضحت لها أسرار اعتقالات وتعذيب وملاحقة.
يعتني السحيمي في قصصه برصد واقع يسوده الفقد، وتتماهى فيه الأحلام مع الجراح، لا تعلو كتابته عن الواقع بل هي صاعدة منه، كأنها تجميعٌ لأعمار متهالكة وشخصيات أعياها العثور على ملاذ، وقد حاصرها الضياع الذي أضحى رديفا لحالات وجودية فيها من التمرّد والاحتجاج والانتهازية شيء، ومن العسف السياسي والاستبداد والوصولية شيء آخر.
بهذا الاختيار، لا تستند الحكاية في نصوصه القصصية على الإيحاء أو الرمز، بالرغم من أن عبد الجبار السحيمي كان يمتلك من ألاعيب السرد وألوانه الشيء الكثير، فعادة ما تلتفت حكاياته إلى الحاضر، ولا يهمّها الحنين أو الإحساس الرومانسي للماضي مهما كان مشعا وأخاذا.
2
كيف يمكن لكلمة واحدة أن تختصر تاريخ حقبة بكاملها؟
ألأنّ قصة “الفاركونيت” لم تهتمّ بنمذجة بطولة مزعومة واكتفت بمنحها لفكرة أضحت هي البطلة بتعبيرات بارودية تعرض لها القصة بطريقة تصاعدية وبنوع من الترتيب الدلالي؟
إليكم بعض عناصر الإجابة على هذا السؤال:
أدرج الأستاذ أحمد اليبوري في دراسته “تطوّر القصة في المغرب: مرحلة التأسيس” تجربة السحيمي ضمن القصة التأملية، وهي في نظره من صنف الإنتاج الفني الذي “ينطوي على عناصر التأمل في الوجود بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لأنه تحديد لموقف من قضايا الفكر أو أحوال العصر”. بهذا الاختيار، بيّن أحمد اليبوري أبعاد الدائرة الدلالية الكبرى الناظمة لمجموعة “الممكن من المستحيل”، حاصرا إياها في قضية الحرية من جوانب عدّة، أهمها دورها في الحياة الإنسانية. من ذلك مثلا، تعليقه على قصة “في منتصف الليل” حيث: “يبدو البطل مضطربا يضايقه كل شيء ويسعى للتخلص من كل شيء. وقد استطاع ذلك إذ أمكنه أن يقتل الذبابة، ويسكت الساعة، ويوقف قطرات الماء، غير أن حريته، رغم ذلك بقيت مقيدة إذ جسم زوجته يحاصره بدفئه ويخدره بما يتيحه له من لذات. فالجنس إذن في شكله البدائي أول عقبة في سبيل الحرية التي تتيح للفكر والشعور والخيال أن يحلق بعيدا”. كما يؤكّد أحمد اليبوري أن أكثر قصص هذه المجموعة تدور حول الحرية بطريقة أو بأخرى، بل إن عنوانها نفسه يشير إلى ذلك: فالمستحيل ليس إلا تلك الحرية التي تبدو في الأفق بعيدة المنال، لكنها ممكنة التحقيق بالإرادة والوعي.
هكذا، تجلّت منذ أواخر الستينات ومطالع السبعينات، ملامح أدب طليعي توسّل البحث عن أسلوب جديد في الحكي بنسيج واقعي حينا، ورمزي أحيانا أخرى. وقد تعلّقت الواقعية بمفاهيم الالتزام والنضال والدفاع عن القيم الفاضلة، ولم يكن هذا التصوّر للواقعية ليجعل الأدب بوجه عام ذيلا من ذيول السياسة، بقدر ما سمح له بتوفير أبنية سردية وألوان من التعبير أغنت فهم غرضية هذا الجنس الأدبي في ثقافتنا الحديثة.
3
بقراءة قصة “الفاركونيت” نستعيد لحظة أساسية من لحظات كتابة القصة بالمغرب، نصوص- معالم أذكر منها مثلا (لا حصرا): “الديدان التي تنحني” لمحمد زفزاف، “خديجة البيضاوية” لإدريس الخوري، “قصة تقليدية” لمحمد الأمين الخمليشي، “الغرباء” لرفيقة الطبيعة، “العين الثالثة “لأحمد المديني، “حكاية الرأس المقطوع” لمحمد برادة، “زينة” لمبارك ربيع، “الأوطوروت” لمصطفى المسناوي، “الرجل الذي وجد البرتقالة” لأحمد بوزفور إلخ …، في هذه القصص احتفاء بأحاسيس تستمدّها الشخصيات القصصية من فضاء عامّ صنع هواجسها ومغامرتها بها عبرها تحيا القلق والتوتر، لكنها، في الآن ذاته، تحمل قيم التمرّد على الثابت والجامد والمبتذل في العلاقات والانفعالات. وكأني بهذه القصص وغيرها تغالب مختلف أصناف السقوط الذاتي والاجتماعي الذي طبع مغرب سنوات أواخر الستينات ومطلع السبعينات.
لأمر ما لم ينشر عبد الجبار السحيمي قصة “الفاركونيت” ضمن مجموعته الأولى “الممكن من المستحيل”، بل احتفظ بها لمجموعته الثانية “سيدة المرايا”، وقد كتبت نصوصها خلال سنوات الستينات والسبعينات، مما يعني أن المجموعتين القصصيتين تنتميان إلى نفس الأفق التاريخي، ولعلهما محكومتان بنفس القناعات والهويات النصية التي تجعلهما وثيقتيْ الصلة بقضايا المجتمع والفرد في ذلك الإبان وسالف العصر والأوان. من هنا بناء نصوص هذه المجموعة القصصية على عالمين متضادين: واحد قائم وآخر محلوم به تتطلّع إليه الشخصية القصصية لتتخطى خيبتها، أو لتحتمي من قسوة تفرضها رتابة الأيام، أو جبروت مستبد (كما هو الأمر مثلا في قصة “ما قبل الصحو وبعده”، وفي قصة “الرعب” كذلك).
تنفتح قصة “الفاركونيت” على هديرها الذي يوقظ سكّان العمارة، من بينهم رجلٌ وزوجته وطفلهما. يبسط السارد كيف يطلّون من النافذة ليروا كيف يترجل البوليس متجها نحو العمارة، في حين يبقى آخرون في السيّارة. تقول المرأة لزوجها إنّهم قادمون. ارتدِ ملابسكَ، ويقول له: الأحسن ألا نفعل حتّى يطرقوا الباب. يقول الطفل: أنا خائف… ويفترض السكان أنّ أبوابهم كلَّها بدأ ينهال عليها الطرق… ويأتي بكاء من الطابق الفوقي. يؤكد الرجل: لقد أخذوا جارنا في الطابق العلوي، كان دوره هذه المرّة.
بالرغم من أن الشخصيات المحورية في القصة: الزوج والزوجة والابن والجار والبوليس، لا تكشف عن هوية محددة، إلا أنها تمتلك “وضعا وجوديا” يجعلها لا تهتمّ إن كان ما يقع لها في تلك الليلة الهادئة يقوده التوقع والاحتمال، لكنها أضحت متيقنة من ضغط “وعي اجتماعي شقي” يلاحقها ممزوج بارتدادات نفسية تعكسها علاقتها المتوترة مع العالم المحيط بها، وسطوة خيبة تلفها من كلّ ناحية. بهذا المعنى، لا تحمل شخصيات قصة “الفاركونيت” أقنعة، ولا تتوارى خلف ظلالها، لا تغدو أشباحا. بل بالعكس، إنها تتشبث بكينونتها وتحتمي بها من هشاشة واقع اجتماعي ونفسي ظاهر وجليّ.
للسرد في القصة علامات ظن، أبرزها:
أن أفق الحرية الذي تنشده الشخصيات (الزوج والزوجة والابن وباقي سكان العمارة طبعا) منبعه شعور عميق بعلاقة الإنساني بالاجتماعي في بعدها القاهر والقاسي والمدمّر.
أن وصف الإحساس بالمطاردة (كما هو الأمر كذلك في قصة “ما قبل الصحو وبعده”) هو أيضا وصف لوضع الكائن في زمن خشن.
بهذا المعنى، يتضح لقارئ قصص عبد الجبار السحيمي أن نصوصه الحكائية ذات رؤية فلسفية متعلّقة بجوهر الوجود الإنساني وهو ينشد قيم الحرية والمساواة والعالة والكرامة. وليس بالإمكان قراءة نصوص السحيمي بمعزل عن هذه الرؤية، لأن نشدان هذه القيم يفتح القصص على خطاب المونولوج والبوح الأقرب في التعبير على التصدّع الداخلي للشخصيات من جرّاء ما تحياه من مواضعات ومغامرات ورغبات.
ولا تجعل هذه الرؤية (في تقديري) عوالم الحكاية في القصة ذات أسرار أو إشارات ملغزة، بل هي في العادة تشخيص للخبيء والفاجع والمبتذل.
في كلّ قصة من قصص عبد الجبار السحيمي هناك محنة يعكسها قلق شخصياته الدائم في كشفها عن البعد الخفي للواقع في الحكاية. والواقعية عنده ليست تقنية في التعبير، إنها رغبة لكتابة “قصة الشعو” التي يتجاور فيها الممكن مع المستحيل، والحضور مع الغياب، وضياع الحب مع تجبّر مشاعر الكبت، وبعبارة واحدة تجاور الهموم اليومية مع التردي الاجتماعي.
قال شاطوبريان ذات يوم هذه الحكمة:
“الكاتب الأصيل ليس هو الذي لا يقلّد أحدا، بل هو الكاتب الذي لا يمكن أن يقلّده أحد”.
وعبد الجبار السحيمي واحد من هؤلاء.