غير متوقفة عن الاندلاع في مناطق وأقاليم متعددة، لا سيما طيلة “صيف حارق” خيّم على أجواء النصف الشمالي من للكرة الأرضية، تستمر الحرائق بالمغرب، أيضا، في الانتشار مع قضْم مساحات غابوية شاسعة، كانت تشكل إلى وقت قريب “رئة المملكة”، ومتنفسا طبيعيا يضمن التنوع البيولوجي ومورد عيش لجزء كبير من ساكنة القرى والمناطق الجبلية.
وبلغت المساحة الغابوية التي التهمتها الحرائق بالمغرب، منذ مطلع السنة الجارية إلى حدود أول أمس الاثنين، ما يعادل 25 ألف هكتار وفق إفادات المركز الوطني لتدبير المخاطر المناخية التابع لمصالح الوكالة الوطنية للمياه والغابات.
وسبق لمصادر هسبريس من داخل المركز أن أكدت “الاستثناء” المسجل هذه السنة بكل المقاييس، موردة أنها عرفت ارتفاعا في معدل الحرائق بما يقارب عشر مرات، مقارنة بالعقد الماضي الذي شهد “معدلات عادية” تهم حجم المساحات التي أتلفتها ألسنة النيران.
وكان لافتا هذا العام ضمن جهود السلطات المكلفة بإخماد الحرائق لجوء هذه الأخيرة بشكل مكثف إلى الاستعانة بطائرات “كانادير” المتخصصة في ظل وعورة المسالك والتضاريس. وطيلة أشهر الصيف، تواترت الحرائق في أقاليم عديدة، كان أضخمها ذلك الذي شهدته مناطق إقليمَي العرائش وشفشاون؛ إذ استمرت بؤر متعددة للنيران في الاشتعال، وهو ما يسائل مداخل إعادة استغلال الغابات المحترقة أو المتضررة بشكل جزئي، فضلا كيفية مواجهة هذه المخاطر والكوارث الطبيعية التي تهدد التنوع البيولوجي والتوازن البيئي.
“أشجار يصعب تعويضها”
اعتبر سعيد قروق، أستاذ علم المناخ بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أن حصيلة الحرائق بالمغرب والتهامَها لـ25 ألف هكتار تظل “رقما عاليا جدا وهائلا، كما أنه مرشح للارتفاع إلى متم نهاية السنة الجارية، في ظل احتمال أن تزداد حرائق أخرى”، لافتا إلى أنه “مع الافتراض أنه سنويا تضيع 25 ألف هكتار غابوية، فإن غاباتنا قد تنقرض أو ينتهي وجودها؛ وهو ما أمر خطير ومخيف ولا نتمنى حدوثه”.
وأضاف قروق، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الحرائق أصبحت تدخل فيما يمكن تسميته بالمخاطر الجديدة أو الآنية، وفي بعض الأحيان يمكن أن تُدرج بعض أسبابها وآثارها ضمن المخاطر المجهولة”، مشيرا إلى أن بعض المساحات التي تضم أصنافا معينة سيتاح إعادة تشجيرها “شريطة توفر الشروط البشرية والطبيعية معا، لاسيما ظروف المناخ السابقة التي نشأت فيها”؛ بينما “هناك أصناف أخرى مُعمّرة وموروثة عن مناخ قديم، كأشجار الأرز مثلا التي يصعب جدا تعويضها لاختلاف الظروف المناخية”.
وتابع أستاذ علم المناخ أنه “وجب الاعتناء بالأصناف الطبيعية التي لم تتضرر من الحرائق وتوفير كامل الحماية لها؛ لأنها تقوم بوظائف طبيعية محضة في التوازن البيولوجي، الحيواني والنباتي”، فضلا عن الوظيفة الاقتصادية للساكنة المجاورة للغطاء الغابوي المُشكّل لمَورد رزقها (حطب، طاقة، رعي وحيوانات…)، موضحا أن “الحرائق تعطّل عادة هذه الوظائف وتؤدي إلى خلل وعدم تكافؤ الأوساط البيئية والبشرية بصفة عامة، ما يعني أن التنوع البيولوجي يشكل أحد مكونات التنمية المستدامة”.
قروق تساءل، في معرض حديثه مع هسبريس، عن مسؤولية مشتركة للجميع، أفرادا وجماعات ومسؤولين، من أجل التفكير في إعادة خلق وتجديد هذه الوظائف التي اندثرت بفعل موجة الحرائق المتتالية.
تدبير المخاطر الغابوية
عن تدبير هذه “المخاطر الجديدة”، اعتبر المتحدث ذاته أن ما حصل “حرائق استثنائية مهولة، لأنه مع اقتراب نهاية الصيف نلاحظ استمرار الحرائق في القسم الشمالي من الكرة الأرضية؛ ما يعني أنها إشكالية عامة تخص الكوكب بأكمله”، مُرجعا المسؤولية الكبرى عنها إلى “الحرارة وتداعياتها، التي تعمل على تجفيف الأوساط الحية وأوراق الأشجار والأغصان الجافة والأشجار الميتة؛ وكل هذا يعد وقودا للحرائق إذا ما توفر شرط الشرارة”.
ولفت قروق إلى أن الاحترار الأرضي أصبح “يتسارع بمفعول خطَر عال جدا، وهو ما عشناه هذه السنة مع بدء الحرارة المرتفعة مبكرا في يونيو بشكل غير معهود؛ ما أدى إلى خلخلة الدورة المائية في منطقة الحوض المتوسطي وشمال إفريقيا”.
وأوصى الخبير المناخي بضرورة “التهيؤ المسبق لمثل هذه الظواهر في السنوات المقبلة سواء من طرف الساكنة أو السلطات، من خلال الاعتناء بالغابة (تشجيع تنقية الغابة من الأشجار الميتة مثلا)، وتهيئة مسالك للولوج إلى الغابة تيسّر عملية تدبير المخاطر، فضلا عن توفير شبكة مائية للمطافئ قريبة من المساحات الغابوية.
كما شدد على أهمية “عمليات التحسيس والمراقبة القبلية لمنع الإيذاء العمدي للغابة”، منوّها بتوفر المغرب على طائرات متخصصة في إخماد الحرائق، معتبرا أن الأمر أشبه بـ”حرب مع النار وجب الاستعداد الجيد لها في قادم الأعوام”.
“رئة الساكنة”
“المساحة التي فقدتها المنظومات البيئية الغابوية بالمغرب تظل استثنائية هذه السنة، في ظل موسم جاف أثّر على التربة والأوساط الطبيعية برمتها”، هكذا استهل المهندس محمد بنعبو، خبير في قضايا المناخ والتنمية المستدامة، حديثه مع هسبريس، مُعدّداً في السياق ذاته، مجموعة من البؤر التي تجدد اندلاعها في مناطق مختلفة من التراب الوطني، مسجلا أنها “لم تكن تقتصر على منطقة محددة، وهو معطى يميّز حرائق 2022”.
وأكد بنعبو أن “25 ألف هكتار هي مساحة غابوية ليس من السهل تعويضها في ظرف زمني وجيز”، مفسرا بأن المغرب فقَدَ “مساحات شاسعة غنية بتنوع بيولوجي متفرّد وكائنات حية متعددة الأصناف، فضلا عن نباتات شبه طبية وعطرية”؛ قبل أن ينبه إلى أن “العامل البشري مسؤول بشكل كبير على تدهور المنظومات الغابوية، التي تحوّل بعضها إلى مطارح للنفايات جماعية أو فردية، ما يسهّل عملية إحراقها”.
الخبير ذاته أورد أن “المغرب، ومن خلال إستراتيجية ‘الجيل الأخضر’ يشتغل على استعادة توازن النظم البيئية الهشة؛ في مقدمتها برنامج الغابات في أفق عام 2030 الذي يراهن من خلاله على غرس حوالي مليون شجرة سنويا”، مسجلا أن “الحرائق هذه السنة أتتْ على أصناف أشجار عمّر بعضها لآلاف السنين والعقود؛ وهو ما يعقّد مهمة تعويضها في فترة وجيزة”.
ووصف بنعبو الغابات، في معرض تصريحه، بأنها “رئة المجتمع والساكنة المجاورة لها”، لافتا إلى أن فقدانها لا يزيد سوى تعقيد وإضعاف جهود “محاربة الاحترار العالمي” وخفض الانبعاثات الدفيئة.
كما أثار بنعبو الانتباه إلى أن فقدان المملكة لمساحات غابوية محترقة يجعلها تتصدر إلى جانب دول متوسطية مثل تركيا واليونان قائمة البلدان المتضررة، بعدما كانت في منأى عن ذلك إلى عهد قريب (2015).