تميزت مسيرة الأديب محمد برادة بالتنوع والامتداد. كتب في بداياته قصصا ومقالات سياسية في صحف ومجلات عديدة. نشر أول قصة له بعنوان “المعطف البالي” في جريدة “العلم” المغربية عام 1957 وهو في عنفوان الشباب (18 سنة). انفتح على قراءة الأدب والفلسفة العالميين بشكل كبير (غوته وهايدغر ونيتشه …)، مما ساهم في بلورة مشروعه الأدبي والفكري ومكنه من الانفتاح على ترجمة ثقافات متعددة؛ فتنوعت إنتاجاته الابداعية بين القصة والرواية والنقد الأدبي والترجمة.
وتجدر الإشارة إلى أن كتابة الرواية جاءت متأخرة لديه بعد الكتابة النقدية والترجمة، اللتين أفرزهما ارتباطه بالتدريس وتأطير الطلبة؛ إذ يعتبر أن الاختيار الحقيقي لانتمائه إلى الأدب يتجلى في كتابة القصة والرواية.
يعتبر من رواد تيار التجريب كشكل في الكتابة باعتباره مغايرا للتوجه التقليدي المسمى “الواقعي”، من منطلق أن الرواية قابلة لامتصاص جميع الأشكال التعبيرية.
ساهم في تحرير مجلتي “المشروع” و”القصة والمسرح”، وأشرف على إدارة مجلة “آفاق”.
رغم اختياره فرنسا بلدا للاستقرار إلا أنه لا يفوت محطة ثقافية أو فرصة للقاء وتجديد الصلة ببلده وأصدقائه في المغرب. في معرض الكتاب بالرباط، التقينا الكاتب والناقد الأدبي الكبير سي محمد برادة وكانت فرصة للاقتراب منه ومن مشاريعه الثقافية وقلقه الفكري الدائم وروحه التي لا تخلو من دعابة وانشراح، فكان لنا معه هذا الحوار.
كيف وجدت أجواء معرض الكتاب في الرباط؟ وبمن التقيت؟ وما هي الأنشطة التي همتك؟
على مستوى التنظيم يبدو معرض الكتاب في الرباط أكثر ملاءمة ويسرا مما كان عليه في الدار البيضاء، ولكن العنصر الأساسي في تنظيم معرض الكتاب يعود إلى المحتوى. بهذا المعنى، لا نستطيع القول بأن معرض الكتاب في الرباط قد استوفى الأغراض المطلوبة من معرض سوق الكتب.
فضلا عن ذلك، فإن هذا المعرض كان يحتوي على ندوات كثيرة، ربما أكثر من المطلوب، في حين إن وقت الزائر لا يتسع لمتابعة كل هذه الندوات، ومن ثم ربما يكون من الأفضل مراجعة محتويات المعرض التي تجعل منه فرصة لتوطيد العلاقة بين الكاتب والجمهور المحتمل، ذلك أن المحاضرات والندوات تتطلب مناخا معينا ووقتا كافيا لكي تبلور بعض الأفكار والأطروحات.
مهما يكن، فإن هذه التجربة تدفع إلى التفكير مستقبلا في صيغة أكثر مردودية من حيث تسويق الكتاب، وتوطيد علاقة الكاتب بالقراء وإثارة الاهتمام إلى الكتب الجديرة بالقراءة.
أما الأنشطة التي تابعتها فلم تكن كثيرة، ربما لأنني لم أعد أحتمل الجلوس طويلا للاستماع للمناقشات.
على هامش المعرض الدولي للكتاب لاحظنا غلبة حفلات التوقيع على الندوات والحوارات المفتوحة، هل يمكن اعتبار هذا الأمر انتصارا للكتاب على حساب القضايا الفكرية؟ وما الغرض من معرض الكتاب في نظرك؟ هل هو تثقيف الجمهور أم إثارة انتباهه لمؤلفات جديدة تستحق القراءة؟
أظن أن الهدف الأساسي من معرض الكتاب هو إبراز الكتب المهمة ودفع القراء إلى اقتنائها والتعرف إلى مؤلفيها، ذلك أن العلاقة بين القارئ والمؤلف من شأنها أن توطد عادة القراءة.
يفترض أن لا يغلب طابع المحاضرات، في المقابل ينبغي أن نعمل على إبراز كل الكتب الجديدة التي تستحق القراءة والاهتمام.
حدثنا عن كتابك الذي قدمته في معرض الكتاب عن إدمون عمران المالح، هل هو وفاء لذاكرة معينة أم لحظة اعتراف بصديق محفور في الوجدان؟
المبتغى من هذا الكتاب هو أولا إبراز حالة استثنائية جسدها عمران المالح من خلال مسيرة حياته؛ إذ إنه كان قائدا سياسيا كبيرا في حزب يساري، ثم انسحب من العمل السياسي عندما اكتشف أن اتجاه الحزب لا يتطابق مع المبادئ التي كان يدافع عنها، وانتقل إلى مجال الإبداع الروائي من خلال محاولة كتابة ما اختزنه في ذاكرته بطريقة فنية وشكل ملائم بلغة فرنسية تتخللها لغة الكلام العربية المغربية “الدارجة”.
هذه التجربة أعطت كاتبا ناضجا له تكوين فلسفي وقلم ينفذ إلى الأعماق. ومن خلال هذه التجربة الإبداعية اتسع مجال التعبير لديه فشخص تجربة المغاربة اليهود، وشخص أيضا تفاصيل الحياة اليومية ونماذج من لحظات التحول في المغرب، خاصة بعد الاستقلال.
لقد جاءت تجربة عمران المالح في وقت يحتاج فيه الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية والعربية على السواء إلى تقديم نموذج يستوعب الواقع الاجتماعي والتاريخي، وفي الوقت نفسه يبلور شكلا يتيح لهذا الأدب أن يتخطى زمنه، وفي الحقيقة عندما أعدت قراءة بعض روايات المالح وجدت أنها لا تزال تتوفر على عناصر تخاطب القارئ المغربي اليوم وتضيء له جوانب من التاريخ المعاش، فمن حقبة معقدة تمتد من فترة الاستعمار الفرنسي إلى فترة تشييد مجتمع مغربي جديد، ولأنه أيضا استطاع أن يصوغ نصوصه السردية بطريقة تفتحها على المستقبل رغم أنها تستوحي فترات من ماضيه الحياتي، لأجل ذلك أردت أن أقدمه إلى الجيل القارئ الشاب لكي يتعرف على هذه التجربة الجديرة بالتفاعل والتأمل.
علمت أنك بصدد التفكير في عمل مسرحي، احك لنا عن هذه التجربة، وهل تختلف كتابة نص مسرحي عن كتابة الرواية والنقد؟
في الحقيقة علاقتي بالمسرح علاقة ملتبسة، فأنا كنت أداوم على مشاهدة المسرحيات وقراءتها كلما سمح الوقت، ولكنني ارتبطت أكثر بالمسرحيات التي تصوغ إشكاليات وجودية، هذا الجانب أجد أن المسرح يمكن أن يبرزه بقوة لأن المسرحية لا تكتمل إلا بتضافر عدة عناصر لكي تحقق وجودها، أي النص والمخرج والممثلين والموسيقى وكل أدوات التعبير المتعددة التي يستوعبها المسرح.
وقد سبق لي أن كتبت محاولة قصيرة سنة 1964 لكنها لم تمثل على الخشبة ولم أنشرها، ولكن قدمت من خلال بعض القراءات المحدودة، وقد اكتشفت من خلال هذه التجربة أن الشكل المسرحي يسمح بالتعبير عن العواطف والمشاعر الملتبسة وعن الأفكار وهي في طور التبلور، وعن الأسئلة التي يمكن أن تثير لدى المتفرج فيض التفكير أو ردود فعل تضيف إلى المسرحية أبعادا جديدة.
هذا التعدد في تحقيق النص المسرحي لا نجده في الرواية التي تعتمد على مخيلة القارئ ولا في النقد المكتفي بالمفاهيم واللغة المباشرة، بينما المسرح متعدد الوسائل، وهو يقيم علاقة مباشرة بالمتلقي فيصبح تلقي المسرحية مشروطا بتفاعل جمهور مشترك وردود فعل…
بعبارة أخرى، هناك نوع من السحر في مشاهدة المسرحية والتفاعل معها. ومن ثم، فإن الكتابة في مجال المسرح ليست تجربة سهلة.
هذه مجرد فكرة تراودني، آمل أن تتاح لي الفرصة لتحقيقها.
هل ما زلت تعتبر الكتابة عملية ذهاب وإياب بين الذاكرة والنسيان أم إنها اتخذت منحى آخر لديك؟
مسالك الكتابة وطرق إنجازها متعددة، لا يمكن حصرها في مجرد علاقة بين الذاكرة والنسيان، ولكن بعض رواياتي تعتمد أساسا على الذاكرة من خلال مفهوم يعتبرها عنصرا أساسيا في الدخول إلى منطقة المشاعر والعواطف والصراعات التي يعيشها الفرد. من هذه الزاوية، فإن كتابة الذاكرة عندي تعني قبل كل شيء نقلها من النطاق الشخصي إلى فسحة الأدب لكي تتسلل إلى مخيلة القراء وتدفعهم إلى إيقاظ ذاكرتهم، وهذا قد يجعل من الأدب بصفة عامة ذاكرة مكتوبة يتفاعل داخلها التخييل والسرد والعواطف واللغات والأسئلة…
ولكن عندما نعتمد على الذاكرة، فإن هذا الاعتماد لن يكون كاملا؛ لأن النسيان جزء من الذاكرة، وبين التذكر والنسيان تنبت الكلمات ويتسع حجم البياض على الورقة، أي إن كتابة الذاكرة تتطلب من القارئ أن يسهم في ملء الفراغات، وهذا هو ما يفسح المجال للتخييل ويجعل القارئ عنصرا ضروريا لكي يوجد النص الإبداعي.
عندما كتبت “لعبة النسيان” ربما جعلت من ادعاء النسيان عنصرا يسمح لي بأن لا أتقيد بالواقع أو بالنهج الواقعي الذي يطمح إلى القبض على كل الجزئيات، فهذا أمر متعذر وليس هو أساس الإبداع.
لعبة النسيان عنصر فني أدبي يسمح للكاتب أن يختار ما ترسب في ذاكرته وأن يحذف الباقي… وهذه هي لعبة التخييل التي تخرج بالنص الأدبي من النطاق الضيق إلى فسحة وإعادة رسم الفضاء.
هل تحس أن الأجيال الجديدة قد استفادت من خبرتك وتجربتك؟ وهل أنت بالتالي مطمئن على مستقبل الكتابة السردية في المغرب؟
لا يمكن لأحد أن يقيس مدى تأثير مساهمته لدى المبدعين الآخرين؛ لأن الكتاب يتفاعلون مع إنتاجات متعددة تنتمي إلى ثقافات متباينة، ولكن يمكن القول بأن الأجيال السابقة زمنيا قد تترك بصمات لدى الأجيال اللاحقة بكيفية يصعب تحديدها. ربما التأثير الذي مارسه جيلي كان مرتبطا أكثر بالتدريس في الجامعة المغربية التي تأسست منذ 1957، فالدرس الأدبي في جامعتنا الفنية آنذاك كان يحاول أن يستفيد من المناهج الحديثة ولم تكن له تقاليد تضع فوارق بين الأدب القديم والأدب الجديد. ومن ثم، فإن الدرس الأدبي من خلال تلك الحقبة عرف نوعا من الانفتاح والاستفادة من المناهج الحديثة، وهو ما ساعد على ظهور جيل جديد من الشعراء والقاصين والروائيين…
أما بالنسبة للاطمئنان على مستقبل الكتابة السردية في المغرب، فأنا أرى أن الأدب المغربي الحديث يتجدد وفق إيقاع متسرع ويعرف امتدادا يشمل المبدعين والمبدعات على السواء، ويتخذ أكثر فأكثر طابع التعبير عن أزمة مركبة يتداخل فيه الاجتماعي والذاتي، والوجودي والسياسي. ومن ثم، يمكن أن نلاحظ أن هذا الإبداع السردي أخذ يحتل مكانة التعبير الكاشف لما يعيشه الفرد ويعاينه داخل مجتمع لم تتبلور بعد داخله القيم الحداثية المتناسقة التي تحمي الفرد وتعطيه ضمانات الوجود والتعبير الحر. لذلك أعتقد أن اللجوء إلى الأدب أصبح ضرورة لدى الجيل الجديد على الرغم من أن شروط الإبداع والإنتاج لا تتوفر، بمعنى أن الحقل الأدبي في المغرب لا يزال هشا ويفتقر إلى عدد كاف من القراء يوفرون له نوعا من الاستقلال لكي يتعيش المبدع من قلمه. وهذا ما يجعلني أعتبر أن اللجوء إلى الكتابة والإبداع رهان ضروري يؤدي وظيفة رمزية؛ إذ إن عوامل كثيرة، في مقدمتها ارتفاع نسبة الأمية، تجعل نسبة القراءة تتضاءل يوما عن يوم.
في نظرك سي محمد برادة، باعتبارك ناقدا ومهتما بالنظريات السردية، هل تجاوزت الرواية النقد كما يقول البعض؟ وهل يحتاج النقد اليوم إلى تجديد آلياته لمواكبة تطور النص الروائي الذي أصبح يعرف تعددا وانفتاحا غير مسبوق وإقبالا من جهة القارئ أيضا؟
علاقة الرواية بالنقد لا تخلو من تعقيد؛ ذلك أن النقد والتنظير لجنس الرواية اعتمد على فلاسفة حاولوا أن يرسموا موضوعاتها وآفاقها مثلما فعل “هيجل” و”جورج لوكاش”، ولكن الروائيين أنفسهم أسهموا في تقديم تنظيرات ومفاهيم للرواية مثل “فلوبير” و”بوست” و”جويس”، وهذا التعارض في فهم الرواية يكشف صعوبة العلاقة بينهما؛ ذلك أن الروائي يتطلع دوما إلى تجديد الشكل والمضمون على ضوء التحولات التي يعيشها مجتمعة أو بدافع من الرغبة في التجديد المطلق، على نحو ما حاول أن يحققه “كوستاف فلوبير” الذي كان يحلم بكتابة رواية عن لا شيء، وهذا التفاعل بين الفلاسفة والنقاد هو ما يجعل مقاييس تقييم الرواية تختلف من تقنية إلى أخرى، لكن الرواية استطاعت أن تتخلص من “وصاية” الفلاسفة والمنظرين كي تحافظ على خصوصيتها في التعبير عن مختلف العواطف والتجارب الحياتية من غير أن تعتمد على مفاهيم الفلسفة ومصطلحات النقد، لكن دور النقد الروائي يظل ضروريا لأنه يواكب هذه التحولات التي ينجزها كبار الروائيين ويسعف القراء على الدخول إلى مسالكها. إلا أن حاجة الرواية إلى النقد تستدعي ولا شك تجديد مناهج القراءة على ضوء ما عرفه النقد من تحولات غنية وعميقة في مناهجه. وحاجة الرواية إلى النقد تصبح إيجابية عندما يستطيع هذا الأخير أن يكشف عن الأبعاد والدلالات والأشكال التي قد لا ينتبه إليها القارئ، ويكون النقد مفيدا أيضا عندما يضيف ويدفع القارئ إلى التفاعل العميق مع نصوص الرواية.
هل مازلت تراهن على الكتاب الورقي في ظل أزمة القراءة واجتياح الرقمي وسهولته؟
ربما تستطيع الرقمنة أن تحد من انتشار الكتاب، هذا أفق ممكن ومحتمل؛ لأن الاتجاه الآن هو إلى تعويض جهود الفرد بجهود الروبوتات، هذا اتجاه وارد ومحتمل، ولكن القراءة بالنسبة لي تظل أساسية إذا فهمنا أنها ممارسة للحرية، بمعنى أن القراءة الورقية تتيح لنا التأمل والتعليق على ما نقرأ في الهوامش واستيعاب الدلالات بكيفية عميقة، أي إنها تصبح ممارسة للحرية باعتبارها تتيح مناقشة ما نقرأ بقبوله أو رفضه، وتتيح للأفكار التي نقرأ وكل أنواع النصوص أن تختمر وتصبح جزءا من كياننا، بينما القراءة الرقمية في أجهزة سريعة لا تتيح هذه الإمكانية، أضف إلى ذلك أن القراءة في الدول المتقدمة مثل فرنسا لا تزال حاضرة ووسيلة أساسية للفهم والتفاعل واستيعاب ذخائر الفكر والأدب.
بعيدا عن فكرة صراع الأجيال بين المثقفين التي حكمت مثقفي القرن العشرين، أتصور أن علاقة المثقفين الراهنة محكومة بأزمة ود واحتضان لبعضهم البعض، هل توافقني الرأي؟
فعلا، يمكن أن نرجع مظاهر الجفاء والتنافس غير السليم بين الكتاب والأدباء والمثقفين إلى غياب الإحساس المشترك بمسؤولية بناء وتشييد حقل أدبي ثقافي يحمي المثقفين ويسمح بأداء دور فعال داخل المجتمع.
وتعود هذه الظاهرة ربما إلى نوع من التنافس والتسابق في تحقيق منافع وقتية ولحظية، بينما مجال الثقافة، خاصة في مجتمع مثل مجتمعنا، يقتضي التضامن وتجميع القوة لتحقيق تأثيرات كبيرة.
وبالنسبة للوضع في المغرب، أجد أن هذه الظاهرة برزت بالأخص بعد الأزمة التي عرفها اتحاد كتاب المغرب حيث أصبحت العلاقات قائمة على التنابذ والاتهامات ورفض الحوار.
وأعتقد أن من واجب المثقفين والكتاب الشباب في المغرب أن يحرصوا على إحياء اتحاد كتاب المغرب ضمن الشروط الصحية والضرورية لكي يصبح كما كان من قبل منبرا لحوار كل الاتجاهات، ومجالا للتعريف بالإنتاجات ومؤسسة للدفاع عن ثقافة مغربية متجددة.
يقول “شارل بودلير”: “الرقص كتابة للشعر بكل أطراف الجسد”. على هامش هذه القولة، أتصور أن “الشيخة” صانعة الغبطة والفرح المغربي لم تنصف في النقاش العام بالمغرب مؤخرا. ترى ما رأي الناقد في هذا السجال الذي عرفته الساحة المغربية؟
أظن أن هذه الخصومة التي ظهرت حول “الشيخة” بمناسبة المسلسل الرمضاني، تكشف عن التباس يتعلق بتقييم الثقافة الشعبية وإبراز مراحلها في الحقب الماضية؛ ذلك أن الوضع الاعتباري “للشيخة” ظل دائما موضع خلاف وتبخيس لقيمتها؛ لأن تحولات المجتمع المغربي وإهمال القيم الإيجابية في التراث الشفوي وتراث الرقص والشعر جعلا “الشيخة” تصبح مقترنة بالدونية وبدور لا يخلو من التباس، لأجل ذلك لم يعد هذا التراث في الشعر والرقص واتخاذ المواقف بارزا، وأصبحت مجرد أداة للمتعة والفرجة.
لكن النقاش الذي دار حول الوضع الاعتباري “للشيخة” أكد ضرورة الحوار المتجدد حول التراث في جميع تجلياته وطقوسه وتأثيراته، بل إن الأمر يستدعي أن نولي أهمية لتدريس هذا التراث وجعله جزءا من الثقافة والإبداع.
ما هي المواضيع التي تشغل تفكيرك في الوقت الراهن؟
في الواقع هي موضوعات كثيرة ولكن الظرفية الحالية تجعلني أفكر في موضوع له تجليات مزدوجة ومتباينة داخل مجتمعنا وفي المجتمع الفرنسي؛ ذلك أن إقامتي في فرنسا في السنوات الأخيرة جعلتني أتعرف على مظاهر من أزمة اجتماعية ثقافية سياسية مركبة يعيشها المجتمع الفرنسي وتنذر بأزمات عميقة.
باختصار، يتعلق الأمر بصعود اتجاهات عنصرية معادية للأجانب داعية إلى انغلاق فرنسا على نفسها، رافضة لتلك القيم التي دشنتها ثورة 1789.
تتوفر فرنسا على نظام ديمقراطي وصحافة حرة ومؤسسات ثقافية جيدة، وهو الأمر الذي قد يساعدها على مواجهة الأزمات بأدوات تتيح إمكانية الحوار على أوسع نطاق، لكن رغم كل ذلك يراودني الشك لأنها معرضة للانتقال إلى مرحلة مضطربة وإلى تدهور سياسي قد يبعدها عن المكانة التي تتمتع بها في عالم أصبح خاضعا للبيروقراطية والليبرالية. هذا هو التساؤل الذي يشغلني، بمعنى هل تستطيع الثقافة العميقة والقيم الكونية أن تتحدى قوى الرجعية والعنصرية والانغلاق؟ وما هو البديل الذي يمكن أن يخرج فرنسا من أزمتها؟
وفي الآن نفسه، تشغلني أزمة التعليم العمومي في المغرب. أخشى أن يعجز هذا التعليم عن أداء وظيفته الأساسية في تكوين أغلبية أبناء الشعب لكي يضطلعوا بدورهم في تطوير المجتمع؛ ذلك أنني ألاحظ أن مسار التعليم في المغرب منذ الاستقلال أخذ اتجاها نحو تصنيف التعليم على أساس طبقي، يتيح لأبناء الأغنياء أن يتعلموا في المدارس الأجنبية أو المدارس الحرة، بينما أصبح التعليم العمومي مفتقرا إلى الشروط الضرورية ليكون أداة تربوية وعلمية لتكوين المواطن تكوينا علميا وثقافيا يجعل منه مواطنا نافعا؛ ذلك أن الديمقراطية لا تعني ورقة انتخابية لكل مواطن، بل هي قبل كل شيء تحقيق شـروط العيش الكريم من خلال التـعليم والعمل وصون حقوق المواطنة.