سجلت خلال السنوات الأخيرة بعدد من مناطق المغرب حوادث خطيرة ومميتة داخل أوراش عمومية وخاصة، وذلك نتيجة عدم المراقبة من طرف السلطات المختصة والمنتخبة ومكاتب الدراسات والمهندسين المعماريين، بالإضافة إلى “غياب الضمير المهني لدى بعض المقاولين”.
في تصريحات متطابقة لهسبريس، أجمع عدد من المقاولين ومسؤولين من مختلف الإدارات العمومية على أن المشاكل التي تعرفها الأوراش العمومية والخاصة “لا يمكن حصرها في غياب المراقبة، بل يجب تحميل المسؤولية للمشرع المغربي الذي فتح المجال للمقاولات المتقدمة بالثمن المنخفض للفوز بالصفقة”.
حوادث مميتة كثيرة سببها “الغش في الأشغال” سجلها المغرب في السنوات الأخيرة؛ آخرها انهيار سور خارجي للمستوصف القروي بمركز جماعة الطاوس (إقليم الرشيدية)، وانهيار عمارة مكونة من طابق سفلي وأربعة طوابق علوية في طور البناء بمنطقة الهراويين بالدار البيضاء، وهي حوادث أحيت مطالب المقاولين والمسؤولين على حد سواء بمراجعة قوانين نيل الصفقات العمومية المتعلقة بالأشغال العمومية بصفة عامة.
عبد الحكيم أمزير، فاعل حقوقي، صرح بأن “الكثير من المقاولات التي تفوز بالصفقات العمومية لا تحترم القوانين، خاصة دفتر التحملات الخاص بكل مشروع”، موضحا أن “الأضرار، سواء الجسدية أو المادية، التي تخلفها المشاريع المغشوشة أو التي تشوبها اختلالات، يجب أن يفتح فيها تحقيق قضائي وتقديم المتورطين للعدالة مهما كانت صفاتهم أو درجاتهم في المجتمع”، وفق تعبيره.
وأضاف المتحدث ذاته، في تصريح لهسبريس، أنه “لا يعقل أن تخصص الدولة ميزانية ضخمة لمشروع تنتظره الساكنة لسنوات، ويأتي مقاول للعبث به وتهديد حياة المواطنين”، داعيا إلى “تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإن بقيت التحقيقات مجمدة في مثل هذه الحوادث، فلن يتقدم المغرب ولن يستفيد المواطن من أي مشروع”.
“منافسة غير شريفة”
في تعليقه على موضوع الاختلالات التي تعرفها كثير من الأوراش العمومية بالمغرب مؤخرا، كشف مصدر مسؤول بإحدى عمالات المملكة أن “أكثر ما يضر المال العام والأوراش العمومية، هو المنافسة غير الشريفة بين المقاولات”، مبرزا أن “بعض المشاريع تخصص لها الدولة اعتمادا ماليا مهما، ونجد في الأخير أن الشركة التي نالت الصفقة خفضت الثمن بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المائة”.
المسؤول ذاته، الذي فضل عدم الكشف عن هويته للعموم، قال في تصريح لهسبريس: “لا يعقل أن تتقدم مقاولة بثمن منخفض للفوز بمشروع عمومي مهم، وبالتالي نكتشف أن المشروع مغشوش وتشوبه اختلالات”، مضيفا: “على الدولة أن تقدم هذه النماذج للعدالة حتى يكونوا عبرة، ولحماية أرواح المواطنين والمال العام”، على حد تعبيره.
“منافسة غير شريفة بين المقاولات، خاصة في ما يتعلق بالجانب المالي للمشاريع، تتسبب في مشاكل عدة، سواء للمقاولة نفسها أو للمراقبين وللمواطنين، وللدولة بصفة عامة”، يقول المسؤول ذاته الذي أكد ضرورة تشديد المراقبة على مثل هذه المقاولات التي تحصل على صفقات الأشغال العمومية بأثمنة منخفضة، معتبرا أن ذلك “يثير شكوكا حول مصدر تمويل هذه الأشغال؛ إذ من المحتمل أن يكون هناك تبييض للأموال”.
من جانبه، وافق محمد بن حساين، مقاول من إقليم الرشيدية، على أن “أكثر ما يضر الأوراش العمومية والمال العام، هو الأثمنة المنخفضة التي تقدمها بعض الشركات”، مبرزا أنه “لا يمكن لمقاولة خفضت نسبة الثمن إلى أكثر من 30 في المائة أن تقوم بإنجاز المشروع بجميع المعايير”.
وطالب المتحدث ذاته جميع الإدارات والقطاعات العمومية (حاملة المشاريع)، بـ”التعامل بالجدية والصرامة مع المقاولات التي تقوم بتنفيذ مشاريع عمومية، ومنع المقاولات التي تتقدم بأثمنة منخفضة للمشاركة في أي مشروع، لأن انخفاض الثمن يعني الغش في الأشغال، ويعني أيضا غياب منافسة شريفة بين المقاولات”، وفق تعبيره.
تشديد المراقبة
الحوادث المميتة المسجلة مؤخرا في المغرب بسبب “الاختلالات والغش في الأشغال”، جعلت الكثير من جمعيات حماية المال العام بالمغرب، وخاصة بأقاليم جهة درعة تافيلالت، تدعو إلى تشديد المراقبة على هذه المشاريع والأوراش العمومية، وذلك بتعيين مراقبين (مهندسين وتقنيين لهم كفاءة وضمير مهني) لمتابعة الأوراش التي يتم إنجازها.
في هذا الإطار، كشف مسؤول بقسم التجهيز بأحد أقاليم جهة درعة تافيلالت أن غياب المراقبة من طرف التقنيين والمهندسين وحتى الإدارات حاملة المشروع، “هو ما يؤدي إلى كل المشاكل التي تقع في الأوراش العمومية، وبالتالي التسبب في قتل الناس بدم بادر”، كما جاء على لسانه.
وأكد المسؤول ذاته، في تصريح لهسبريس، بدوره، ضرورة تشديد المراقبة على جميع الأوراش، سواء العمومية أو الخاصة، وقال: “هناك الكثير من المقاولات التي تبحث عن الربح المادي ولا تهمها حياة البشر”، مشيرا إلى أن قانون الصفقات العمومية يجب أن تطاله تعديلات لقطع الطريق أمام مقاولات همها الربح المالي أو “تبييض الأموال”، وفتح المجال أمام مقاولات جادة لها تاريخ مشرف في إنجاز الأوراش العمومية.
وأجمع عدد من المواطنين، في تصريحات متطابقة لهسبريس، على أن “انخفاض الثمن وغياب التجربة من مسببات المشاكل الكثيرة في الأشغال العمومية”، موضحين أن هناك شركات تفوز بصفقات عمومية لأنها خفضت كثيرا ثمن المشروع، وبالتالي فغالبا ما تحدث كوارث، ليس فقط في قطاع البنايات بل أيضا في البنية الطرقية، مطالبين بأن “يتحمل كل واحد مسؤوليته”.
حماية أرواح المواطنين
هي حوادث كثيرة ومميتة سببها “الغش” في الأشغال عرفتها مناطق عدة بالمغرب؛ آخرها انهيار جزئي لسور المستوصف القروي بجماعة الطاوس (إقليم الرشيدية)، ما تسبب في مقتل ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 10 و12 سنة، والساكنة تواصل الاحتجاج إلى حدود كتابة هذه السطور للمطالبة بفتح تحقيق في الفاجعة ومعاقبة المتورطين.
في هذا الصدد، قال جمال الدين بنيحيى، جمعوي من إقليم ورزازات، إن غالبية الأوراش العمومية باتت تعرف مؤخرا مشاكل كثيرة بسبب غياب التجربة لدى المقاولات، ملتمسا من حاملي المشاريع مراقبة الأوراش العمومية لحماية أرواح المواطنين.
وأوضح المتحدث ذاته أن الساكنة بدورها تتحمل المسؤولية في الاختلالات التي تعرفها الأوراش العمومية، مطالبا إياها والجمعيات المدنية بممارسة دورهما في المراقبة والإخبار بأي “اختلالات” أو “غش” ووضع شكايات رسمية في الموضوع للقيام بالمتعين.
وفي حالة عدم تحرك السلطات المختصة، دعا بنيحيى إلى “تقديم شكاية ضد السلطات نفسها بناء على الشكايات المقدمة إليها التي يجب وضعها في مكاتب الضبط مع تسلم وصل الإيداع”.