قال الكاتب والحكواتي إدريس الجاي إن “أسواق الشرق لها سحر أخاذ وجاذبية أسطورية، كأنها صور اجتثت من بين دفات حكايات ألف ليلة وليلة؛ أسواق يعيد ذكرها إلى الذاكرة مشاهد مجدها العالي، بخلفية سرب القوافل الآتية من الهند والصين وهي تمخر عباب طريق الحرير محملة بأثواب الحرير والجوخ والديباج والتوابل والمخطوطات”.
وأضاف الجاي، في مقال له بعنوان “سوق بأربعة عشر منفذا”، أن “أكثر الحوانيت بهجة وجاذبية وإثارة في فاس تلك التي تحلقت حول جامع القرويين، أو التي لفت مزار ضريح مولاي إدريس، أو اصطفت في دروب القيسارية، وعلى رأسها ذلك السوق الممتد من الجهة الشمالية للقيسارية، السوق الأطول مسافة والأكثر استقامة وتنوعا في المدينة القديمة كلها”.
وبعدما عمل إدريس الجاي على وصف سوق العطارين عبر مجموعة من المحاور التي عنونها بـ”أسواق.. مشاهد حية”، و”سوق التجارة والمعرفة”، و”السوق والوطن”، ختم مقاله بالإشارة إلى أنه “قد يبقى شكل سوق العطارين الخارجي ودكاكينها وإطارها العام دون تغيير، لكن هويتها في طريقها إلى الانمحاء بوتيرة سريعة”.
هذا نص المقال:
لأسواق الشرق سحر أخاذ وجاذبية أسطورية، كأنها صور اجتثت من بين دفات حكايات ألف ليلة وليلة. أسواق يعيد ذكرها إلى الذاكرة مشاهد مجدها العالي، بخلفية سرب القوافل الآتية من الهند والصين وهي تمخر عباب طريق الحرير محملة بأثواب الحرير والجوخ والديباج والتوابل والمخطوطات، أو تلك العائدة من تخوم الساحل الصحراوي الإفريقي من كاو وتمبكتو، ترزح جمالها تحت حمولات العاج والتبر وفراء الحيوانات في طريقها إلى البحر الأبيض المتوسط.
لقد كانت أسواق فاس، بنكهتها الخاصة، المتفردة، المغايرة لغيرها من الأسواق العربية، محطة وسيط بين هذه القوافل الآتية من الشرق أو المسافرة إليه، الطالعة من طريق الصحراء أو النازلة نحوه. إنها ليست فضاءات للبيع والشراء فحسب، بل هي أسواق ترشح أحداثا ومواقف تاريخية، يتزاوج فيها الاقتصادي والاجتماعي والديني، وتمد أجنحتها إلى غرب ووسط إفريقيا، وقد ذاع صيت مبيعاتها في شرق الأبيض المتوسط وجنوب أوروبا. إنها صروح لمراكمة التجارب وسبر أغوار الشطارة والحنكة والدهاء، ومعروضات للإثارة وبضائع تنعم بالإعجاب، ومعروضاتها وإبداعها فرجة للألباب. إنها أسواق تفيض بمشاهد ثرة من الألوان والروائح، فسحة باذخة للحواس الخمسة.. أسواق تفشي خصوصيتها بضائع ومنتجات يدوية معروضة للأهالي والوافدين عليها. إنها فضاءات ترشح بفيض البخور والعطور والأطعمة والنفحات الشهية والهيئات الملكية، زحام وحركة دائبة، معرض يومي مشرع الأبواب أمام المقيم والعابر؛ فهي مساحات لا تحتويها قاعات أو تحدها تجمعات أو مركبات تجارية كما عهدتها غيرها من أسواق البلاد الشرقية، مثل سوق الحميدي في دمشق أو بازارات أصفهان أو التجمعات التجارية في إسطنبول؛ فهذه الأسواق تكونها دكاكين وحوانيت مصطفة إلى بعضها تتفاضل في الحجم والسعة والضيق والارتفاع، رتقت إلى مثيلاتها مثل بنيان مرصوص، متماسك يشد بعضه بعضا. غير أن أكثر هذه الحوانيت بهجة وجاذبية وإثارة تلك التي تحلقت حول جامع القرويين أو التي لفت مزار ضريح مولاي إدريس، أو اصطفت في دروب القيسارية؛ وعلى رأسها ذلك السوق الممتد من الجهة الشمالية للقيسارية، السوق الأطول مسافة والأكثر استقامة وتنوعا في المدينة القديمة كلها.
أسواق.. مشاهد حية
إنه يشبه تيارا مائيا ينساب متوازيا مع أسواق تتفرع عنه وتتوالد وتتداخل مثل الجداول تصب فيه، وتستمد في الوقت ذاته جريانها منه؛ أسواق مازالت على هيئتها الهندسية البكر منذ نشأتها الأولى، تحيل إلى ذكرى فاس الإدريسية، حية وتحمل أسماء صداها التاريخي مثل سوق البالي، سوق السلهام، سوق الحايك، سوق التليس، سوق الحنبل، تربعة الخياطين، سوق السباط، سوق المجادليين، سوق الحنة… أسواق أسرت في حبائلها جملة من المبدعين فجسدوا من خلالها متخيل الحياة التجارية لأندلس القرون الإسلامية، مثل المخرج والكاتب والمنتج السوري حاتم علي، الذي أبى إلا أن يجتبيها مسرحا لأحداث مشاهد من مسلسله التلفزيوني التاريخي “ربيع قرطبة” عام 2003
للعطارين أربعة عشر منفذا جانبيا، منها ثلاثة تفضي مباشرة إلى المجمع التجاري القيسارية، بابان رئيسيان غربا وشرقا، وواحد إلى سوق المجادليين ومزار مولاي إدريس، وواحد إلى سوق الحنة وآخر إلى بناية المرستان القديم. وعلى الجهة الأخرى مدخلان إلى سوق البالي وثالث إلى سوق السلهام ورابع إلى تربيعة الخياطين وسوق التليس، وخامس إلى سوق الحنبل وسادس إلى سوق الديوان. هذا المعبر الأخير الهام المفضي إلى سوق عاش ربيعا تجاريا سالفا، يدل عليه اسمه “الديوان”، حيث كانت تباع البضائع النفيسة المستوردة من الشرق والغرب من أثواب وعطور وأدوات وصناعات فاخرة. وسوق الديوان هذا ليست له صفة البيع والشراء فحسب، بل له أيضا معالم تذكر، كجامعه، الذي يحمل اسم “جامع الديوان” وخصوصيته تتمثل في تأخير صلاة الجمعة عن جامع القرويين، بفترة زمنية غير يسيرة، حتى يتمكن من فاتته صلاة الجمعة في غيره من إدراكها هنا. مرورا بمختلف الدكاكين ودور السلع الوافرة، يوجد في نهايات هذا السوق درب يحمل اسم “درب سيدي بناني”، درب بمعلمتين إحداهما علمية والأخرى وطنية؛ إنه يأوي ضريح أحد كبار علماء الفتوى في المغرب كله، من القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي، سيدي بناني. “كان هذا العالم جامعة علمية وحده”، كما يقول الدكتور محمد التازي سعود، مردفا: “كان إماما وخطيبا في ضريح مولاي إدريس لمدة أربعة عشر عاما، يعطي فيه كل يوم من صلاة الصبح إلى صلاة العشاء دروسا لطلبته، يستهلها بتفسير القرآن، ثم شرح الحديث، ثم ألفية ابن مالك، ثم كتاب الشمائل المحمدية للترمذي، ثم أحد أمهات كتب المواضيع الهامة في ذلك العهد”. كان طلبة هذه المواد، التي يدرسها العلامة بناني، يأتون ثم يمضون ويتغيرون، لكن المدرس باق؛ فقد كان هذا الرجل مكتبة متحركة تسير على قدميها.
أما المعلمة الثانية في هذا الدرب فهي المدرسة الحرة، التي كانت تعد من أمهات المدارس الوطنية في مرحلة الحماية الفرنسية، كمشروع وطني للحفاظ على الهوية اللغوية والدينية للشعب المغربي، التي ما فتئ المستعمر يعمل على إتلافها. وقد أسس هذه المدرسة الحاج أحمد المزعلك التازي بعد عودته من الدراسة في مصر، وأحمد غلاب، أبو الكاتب عبد الكريم غلاب 1919ـ2017)؛ كما قام بالتدريس فيها عدد من قادة الحركة الوطنية، مثل علال الفاسي (1910ـ 1994) وعبد العزيز بن ادريس (1907 قتل سنة 1959). كما كان الدرب يضم فرع البنك العربي منذ بداية القرن العشرين.
قد مثلت هذه المنطقة وإلى حدود بداية الستينيات من القرن الماضي سوقا تجاريا هاما ليس في فاس وحدها، بل في شمال إفريقيا، حيث يمكن مقارنته ببورصة للسلع والبضائع. ويحاذي هذا سوق سوق آخر هام، هو سوق الصاغة، الذي بعد أن تحولت منه صناعة الحلي وبيعها أصبح مجالا لتجارة أخرى، يقودها كبار تجار الجملة للشاي والسكر، الذين كانت تصلهم مادة الشاي في صناديق خشبية كبيرة والسكر في أكياس “خيش” ملفوفة في التبن، وغيرهما من السلع.
سوق التجارة والمعرفة
بين سوق الديوان وعلى مشارف الصاغة، وسوق الذهبان، سوق بيع الحلي الذهبية قديما (يسميه العامة سوق الذبان)، يوجد مسجد تاريخي يحمل اسم “جامع عياض”. في هذا الجامع كان يُدرس العلامة والفقيه والمؤرخ القاضي عياض (1083ـ 1149) أحد كبار علماء الإسلام قاطبة، أثناء تواجده في فاس، بعد أن نفته الدولة الموحدية (1121ـ 1269 م) من مراكش إلى تادلة، وذلك لعدم انصياعه إلى موافقة الموحدين على خلع بيعة المرابطين. (1056ـ 1147). فقد قيل في هذا العلامة الكبير: “لولا عياض لما عرف المغرب في المشرق”؛ من أشهر مؤلفاته كتاب “الشفاء” وكتاب “المدارك في التعريف برجال مالك”.
اسم العطارين يلاقينا في عدد من الأسواق الشرقية القديمة، غير أن سوق العطارين بفاس ليس وليد الأمس، فقد جاء ذكره في العديد من المراجع التاريخية، وعرف مراحل ازدهار نستقيها من خلال وصف حسن الوزان (1488ـ 1554م؟؟) في كتابه “وصف إفريقيا”، حيث يقول: “يقوم إلى جانب القيصرية بجهة الشمال منها سوق العطارين في زقاق ضيق يشتمل على نحو مائة وخمسين دكانا. والزقاق مغلق من طرفيه ببابين جميلين لا تقل متانتهما عن ضخامتهما. ويتكفل العطارون بنفقات حراس، يتجولون ليلا بالفوانيس والكلاب والأسلحة. وهناك تباع المواد المتعلقة بالعطارة والطب، ولكن لا تهيأ فيه الأشربة ولا المراهم ولا المعاجين، وذلك لأن الأطباء يعدون الأدوية في منازلهم، ثم يرسلونها إلى دكاكينهم، حيث يسلمها مستخدموهم مقابل وصفة طبية، ومعظم دكاكين الأطباء مجاورة لدكاكين العطارين. وغالبية السكان الشعبيين لا يعرفون الأطباء ولا الطب. وللعطارين دكاكين كثيرة الزخرف ذات سقوف جميلة وخزائن، ما أظن أن في العالم كله سوقا للعطارين مثله. حقا لقد رأيت سوقا عظيمة جدا للعطارين في طوريس، إحدى مدن فارس، غير أن الدكاكين فيها عبارة عن أروقة شبه مظلمة، مع أنها مبنية بأناقة وبأعمدة من رخام.. إني أفضل كثيرا سوق فاس الملائم بضياه على سوق طوريس المظلم”.
يصل سوق العطارين عبر بوابته الشرقية المدينة بطرق عدة، تفضي إلى جامعة القرويين وإلى جملة من الأسواق المحيطة بها، وتقابله مباشرة معلمة علمية رائعة من زمن المرينيين. “مدرسة العطارين”، هذه المدرسة التي أنشئت، حسب ما كتب في لوحتها التأسيسية المثبتة داخلها، عام 725 هـ 1325 م. حيث كلف السلطان أبوسعيد عثمان المريني (حكم من 1310 إلى 1331) الشيخ أبا محمد المزوار بالإشراف على بنائها؛ وكان الغرض من إنشائها أن تكون إحدى الدعامات العلمية لجامع القرويين، ولإيواء طلبتها في الوقت ذاته. إنها إحدى أجمل المدارس الدولة المرينية (دولة العلماء)، المنتشرة في العديد من مدن المغرب، وعلى وجه الخصوص في فاس.
لقد بقيت مدرسة العطارين إلى ما بعد منتصف القرن العشرين تمثل إحدى روافد التدريس التابعة لجامعة القرويين، المتخصصة في اللغة، وبالتحديد دراسة كتاب إمام النحاة عمر بن عثمان الحارثي المعروف بسيبويه، (765ـ 796) وألفية ابن مالك (1203ـ 1274) وكان لها نظام صارم، فلا يقبل فيها للدراسة إلا الطلبة النابغون في مادة النحو واللغة. ونظرا لأن يومي الخميس والجمعة كانا عطلة الطلبة الأسبوعية، فقد كانت هذه المدرسة تتحول يوم الخميس إلى سوق لبيع الكتب بالمزاد العلني، واستمرت على هذا النحو إلى أن تم نقل سوق “دلالة الكتب” إلى جامع الجنائز، وهي إحدى مرافق جامع القرويين. كما أن الطريق المنحدر جهة الشمال من بوابة سوق العطارين هذه يفضي إلى سوق يحمل وحتى اليوم اسم بعض القبائل الهيلالية التي هاجرت إلى المغرب في القرن الحادي عشر الميلادي، والتي كان أغلبها ينتمي إلى الفخذ القيسي، التي استقر بعضها في هذه المنطقة من عدوة القرويين، لذا أصبح اسم الحي والسوق “رحبة قيس”. فهجرة العرب إلى إفريقيا هذه، كما يسميها ابن خلدون، يطلق عليها في الموروث الشعبي العربي اسم “الهجرة الهلالية” أو الهجرة القيسية.
في وسط هذا السوق، وعلى بعد عشرات الأمتار من البوابة الشرقية لسوق العطارين ومدرسته، يوجد جامع هو من أقدم جوامع عدوة القرويين، يعرف عند العامة باسم اللبارين، واسمه الأصلي هو “النبارين”، المشتق من نبر، أي “أدلى بصوته فيه، أعطاه بروزا وتوافقا”، كما جاء في المعجم. لقد لعب هذا الجامع دورا اجتماعيا هاما، إذ كان يضم حسب الحاجة وأيضا بشكل دوري اجتماع هيئة استشارية تتكون من خبراء في العديد من المجالات الحياتية، تستشيرهم الساكنة في كل ما يعرض لها من قضايا ومشاكل اجتماعية، كالمصاهرة أو فك النزاعات التجارية وخلافات الجيران ونوازل النزاعات حول المياه وغيرها، ما عدا المسائل الفقهية. وقد عرف هذا الجامع هو الآخر دروسا تابعة للقرويين في عدة مواد دينية. يضم هذا الجامع سارية رخام أحمر، تقوم على الجهة اليمنى من مكان المرحاض القديم، وكانت في أول الأمر في مدخل باب خزانة القرويين من جهة الجامع، حيث كانت النساء خاصة يتبركن ويتمسحن بها ويعلقن فيها التمائم؛ فأمر القاضي آنذاك بنقلها إلى هذا الجامع وتثبيتها في مدخل المرحاض، حتى تكون عبرة للمؤمنين بقدرتها الشفائية، إنها لا تضر ولا تنفع، ولو كان لها مفعول لدافعت عن نفسها بدل أن تكون عمودا في مرحاض.
السوق والوطن
لم يكن سوق العطارين مجرد سوق تجاري فقط، بل كان سوقا هاما في ضبط المقاييس وأوزان التعاملات التجارية. يقول روجي لوطرنو في المجلد الأول من كتابه الشهير “فاس ما قبل الحماية”: “حين حدد الملوك المرينيون رسميا طول الذراع الذي تقاس به الأقمشة، وأمروا بصنع صفيحتين من الرخام لتمثيله، أثبتت إحداهما بسيدي فرج، بجانب مكتب المحتسب، والأخرى بين الدكاكين بسوق العطارين. وبعد ذلك في عام 1234 هـ/1818ـ1819م. كان مولاي سليمان قد حدد ذراع الأقمشة المستوردة (القالة) وأمر بإثباتها على جدار دكان بسوق القطنية”. غير أن حريق سنة 1905 أتلف الذراعين المرينيين.
لم يكن هذا هو الحريق الأخير الذي عرفه سوق العطارين، فقد أضرم فيه المستعمر الفرنسي حريقا سنة 1918 من أجل إضعاف القوة المالية للتجار الذين كانوا يدعمون المقاومة المسلحة، التي واجهتها فرنسا سواء في المدن أو في البوادي، والتي استمرت حتى سنة 1933. كما شُكلت في هذا السوق لجنة لجمع الأموال من التجار لأجل دعم مقاومة الريفيين بزعامة الأمير محمد ابن عبد الكريم الخطابي (1882ـ 1973) في نضالهم ضد الاستعمارمن عام 1921 إلى 1926. وكان قنصل محمد بن عبد الكريم في فاس (قبل اتحاد فرنسا وإسبانيا في محاربته) هو عمر الحجوي، الذي كانت تصله غنائم الريفيين من الإسبان، البغال والخيول والأسلحة والمعدات، فيبيعها، ليشتري بثمنها الغذاء والحبوب من قمح وشعير لفائدة الثوار.
قديما كان سوق العطارين تفتتحه من جهته الشرقية مبيعات الكتب، والأدوات المدرسية، (وهي مازالت قائمة حتى اليوم)، ثم قسم أدوات مهنة الخياطة، بعدها ألبسة أهل البوادي، ثم العطور، وفي الأخير قطاع التوابل وكل ما له علاقة بالمطبخ وأدوات الحمام من حناء وصابون وغاسول. وهذا القسم يجاور سوق الحناء ويفضي إلى سوق الجزارين، السمك، الخضار والفواكه، وتباع فيه القناطير المقنطرة من الحلزون في موسم الشتاء، ومثلها من غلال الزيتون في فصل الخريف، وفي الربيع أوراق الورد والزهر التي ما فتئ الفاسيون يقطرونها إلى ماء عطر. وكل هذا يجتمع في سوق اسمه “الجوطية”.
لقد تضاربت التفسيرات حول تسمية الجوطية؛ فمنهم من ربط الاسم بالاستعمار الفرنسي فنسب اسم الجوطية إلى الكلمة الفرنسية jeté أي التغذية أو الطعام؛ لكن فيما يبدو أن هذا الاسم هو أقدم من دخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب، إذ ذكره الرحالة محمد بن عبد الله الصفار في “رحلة الصفار إلى فرنسا” عام 1845ـ 1846 حين قال: “وليس عندهم في أسواقهم جوطيات يباع فيها بالسماسرة كما عندنا”. ومنهم من أحال الاسم على اسم القرية التاريخية جوطة. كما أن كلمة جوقة تعني السوق الكبير حيث يتجوق الناس، ثم استبدلت في العامية القاف بالطاء فصارت جوطة وجوطية لكل أنواع المبيعات والمشتريات. لكن جوطية العطارين خاصة بالمواد الغذائية.
يستقي سوق العطارين اسمه من متاجر العطور، حيث تنبعث روائح الأعشاب والنباتات الزكية. (وإن كان مصطلح العطارين في اللغة العامية يعني سوق التوابل) كان سكان فاس مولعين بتقطير الزهور والورود والخزامى، والنعناع وكل ما قل وجوده في غير موسمه، يتقنون صناعة العطور منذ زمن بعيد. وكانت هناك في الماضي أسر متخصصة في استخراج العطور من الورود والزهر والمسك والعنبر وغيرها من النباتات والأصماغ، أما اليوم فبعد أن كان أهل فاس يصدرون أنواع الطيب إلى الأندلس وأوروبا، أصبحت تجارتهم في هذا المجال تعتمد في سوق العطارين على العطور والطيب والدهان المستوردة بأصنافها الرخيصة من دول آسيا، كما أن البضائع والسلع الاستهلاكية من هواتف وساعات وألعاب إلكترونية قد غزت السوق بشكل مهول وصارت تزاحم غيرها من التجارات التي عُرفت بها العطارين قديما، بل تدفعها غالبا إلى هاوية الانقراض.
قد يبقى شكل سوق العطارين الخارجي ودكاكينها وإطارها العام دون تغيير، لكن هويتها في طريقها إلى الانمحاء بوتيرة سريعة:
إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها **** فقدت حبيبا والبلاد كما هي.