قال الناقد محمد بنعزيز إن “العناوين الكبرى لوسائل الإعلام تتحدث عن تمدد الإرهاب وعن جفاف ساحق يهرب منه الرجال نحو أسلاك سبتة ومليلية للهجرة إلى إسبانيا، بينما يبقى الأطفال والنساء هنالك شمال النيجر يدفعون الثمن”، موضحا أن الأمر يتعلق بـ”الفيلم الوثائقي Marcher sur l’eau للمخرجة الشابة Aissa Maiga، الذي عرض ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية المستحدثة في الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة”.
وأشار بنعزيز، في مقال له بعنوان “وثائقيا الرحلة نحو الماء والرسالة.. الشبيبة الأفريقية بين بؤس الحاضر وثقل الماضي”، إلى أن “الفيلم يحكي عن رحلات النساء لجلب الماء بصحراء النيجر، رحلات يومية طويلة إلى بئر تبعد بعشرة كيلومترات… التقلبات المناخية غير عادلة، تصيب الفقراء أولا”.
وتطرق الناقد، في المقال ذاته، إلى “الرسالة الفايسبوكية، وهي فيلم يمسك سوسيولوجيا واقعه، حيث يقل الطعام ويصير الأكبر سنا عبئا اقتصاديا، ولتسهيل الأمر يقدم مبرر سحري للتخلص من الأفواه التي يجب إطعامها… القتل بسبب السحر مبرر…، وهذا الفيلم الوثائقي هو ثمرة تقصٍ وتحديق في الواقع لا ثمرة تأمل وعصف ذهني”.
هذا نص المقال:
ماذا يجري في الصحراء الكبرى؟
تتحدث العناوين الكبرى لوسائل الإعلام عن تمدد الإرهاب وعن جفاف ساحق يهرب منه الرجال نحو أسلاك سبتة ومليلية للهجرة إلى إسبانيا، بينما يبقى الأطفال والنساء هنالك شمال النيجر يدفعون الثمن. ساكنة من النساء والأطفال، لا وجود للرجال بين عشرين وخمسين سنة. مزق الترحال الدائم حياة الأسر… عكَس حالُ المدرسة هشاشة حضور الدولة… تنعدم الحاجات الأولية للبقاء على قيد الحياة، جوع ومرض، مشكوك أن تفيد الأعشاب الطبية من يعاني من سوء ونقص التغذية… في الفيلم الوثائقي “رحلة من أجل الماء”marcher sur l’eau 2021 للمخرجة الشابة Aissa Maiga، وقد عرض الفيلم ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية المستحدثة في الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة المنعقدة بين 28 ماي و4 يونيو 2022.
نتابع في الفيلم رحلات النساء لجلب الماء بصحراء النيجر، رحلات يومية طويلة إلى بئر تبعد بعشرة كيلومترات… التقلبات المناخية غير عادلة، تصيب الفقراء أولا.
هذا وثائقي مؤلم من أفريقيا: نساء يبحثن عن الماء، كهول منهكون يبحثون عن مراعٍ للماشية، يطاردون الحشائش في مناطق يهطل المطر فيها شهرين في السنة، والباقي جفاف… طفلة حافية تستحم بلتر ماء… كتل هوائية ودرجات حرارة جد مرتفعة… تجعل الحياة جحيما في صحراء النيجر.
يتسبب ذلك في الإنهاك البدني للأطفال، لذلك صارت المدرسة تعمل ليلا دون كهرباء، صار المعلم والتلاميذ يلصقون مصابيح فوق جباههم كعمال المناجم لأن النهار بالكاد يكفي لجلب الماء. صارت المدرسة تعمل ليلا. في هذا الخراب توفر المدرسة إضاءة ذاتية ورؤوسا منيرة، وهذه استعارة دالة.
يمر الزمن وتتعمق الأزمة، مطلوب علف للماشية لكي لا تموت… الدولة ضعيفة ووجودها هش، يحضر شيخ قبيلة لتوصيل رسالة للعاصمة البعيدة جدا والصماء…
إن الجديد في الفيلم هو أن الكاميرا لعبت دورا في مصير السكان. فقد جاءت المخرجة ومعها جمعية خيرية، غيّر التصوير حياة الناس، بفضل الكاميرا جاءت جمعية وحفرت بئرا غيرت المنطقة. المحتاجون الذين لا تصلهم الكاميرات لا ينالون مساعدة، يستمر بؤسهم في أفريقيا…
هذا فيلم كثيف… حكاية مشبعة بالأمل والحياة لأن السوداوية ترعب الجمهور… فيلم مشبع بصور سينمائية عن حياة الرحل في الصحراء الكبرى، نرى فيافي صفراء في لقطات عامة. لقطات وجوه أطفال عيونهم جاحظة وجباههم بارزة… كاميرا في مواجهة اللامتناهي الكبر واللامتناهي الصغر، يجمعهما مونتاج جدلي تتوالى فيه اللقطات بالتناوب بين المتناهي الكبر والمتناهي الصغر… تستخدم المخرجة كاميرا محمولة في طائرة درون تحلّق لكي تحصل على مسافة كبيرة بين الكاميرا وما تصوره… هكذا تكشف الكاميرا صغر حجم الإنسان كنملة مقابل لا نهائية الصحراء… يشعر المشاهد بالرعب من هذه الفوارق، لكن للإنسان سلاحا أقوى يحميه من الفناء: المدرسة والآلة لهزم الطبيعة… بفضل الآلة خرج الماء من قاع الأرض بعدما توقف عن النزول من السماء.
هذا وضع نساء النيجر في مواجهة حاضرهن، وهذا أقل خطرا من حال نساء كينيا اللواتي يواجهن خطرا أشد في الفيلم الوثائقي “الرسالة” The letter 2020 من إخراج كريس كينغ ومايا لوكاو.
يتسكع شاب مديني من كينيا على صفحات الفايسبوك فيصادف صورا وخبرا عن امرأة شريرة… يبحث فيكتشف أن تلك المرأة سيئة السمعة هي جدته… يسافر الشاب من مدينة مومباسا الشاطئية إلى قرية بعيدة في خط الاستواء ليحقق في سبب اتهام جدته البالغة من العمر 94 عاما…
حقق الفيلم نجاحا دوليا، وهو يصور واقعة من عمق أفريقيا على امتداد 81 دقيقة، يصور صعوبة الحياة في بيئة قاسية، هنا يصير كل فم مشكلة، يفسر البؤس الاقتصادي بالسحر والشعوذة… تدخل الكاهن الأنجليكاني ليحرر جسد المسنين من الشر… يردد الكاهن: الله نور، الله نور… ويضيف: عندما كنت صغيرا كنت أتصور الله مثل جدي… هكذا يحاول الكاهن حماية المسنين آخذا بعين الاعتبار الذهنية السائدة في المنطقة البعيدة عن الحضارة. منذ انتشرت المسيحية والإسلام في المنطقة صار يُنظر إلى تهديد حياة المسنين بأنه فعل شيطاني… تراجع التهديد في المناطق المتمدنة، لكنه بقي حيا يعمل في المناطق النائية… لاحتواء الوضع بني ملجأ خاص بالمسنين لحمايتهم من القتل… من هذا الملجأ قدم المخرجان كتالوجا من الوجوه المرعوبة، الشاحبة، اليائسة تماما… ترفض الجدة مغادرة بيتها للاحتماء في ملجأ المسنين… رغم شعورها بالتهديد…
تروج فكرة أن المصائب التي تقع سببها روح شريرة تسكن كبار السن… صار الأطفال يتحلقون حول التلفزة أو حول الهاتف، لم يعودوا يتحلقون حول الجدة لتحكي لهم حكايات…
الرسالة الفايسبوكية فيلم يمسك سوسيولوجيا واقعه، حيث يقل الطعام ويصير الأكبر سنا عبئا اقتصاديا، ولتسهيل الأمر يقدم مبرر سحري للتخلص من الأفواه التي يجب إطعامها… القتل بسبب السحر مبرر… هذا الفيلم الوثائقي هو ثمرة تقصٍ وتحديق في الواقع لا ثمرة تأمل وعصف ذهني، لذلك تدرج المعلومات الموثقة عن المنطقة النائية في تسلسل سردي لتشوق المتلقي… نتتبع سرديا كيف كان الوضع وكيف أصبح. لا تُستدعى العجوز إلى حفلات الزفاف لأن وجودها قد يسبب الشر والفأل السيئ…
إن فيلم “الرسالة” مثال لقدرة الفيلم الوثائقي على تقديم صورة عن الواقع، على التقاط الراهنية وطزاجة الحياة وجمالية اللحظة، تقديم وجهة نظر موثقة توسّع حقل الوعي.
صور المخرجان حوارات عفوية طويلة تنبش في أعماق الشخصيات للوصول إلى حقيقتها… ظهر أن التعليم يحاصر الشعوذة والبؤس… بقياس الوقت الذي يمر يلتقط المخرجان التحول والتبدل الذي حدث في وعي سكان المنطقة في لحظة اعتراف تستدعى العجوز إلى حفل زفاف… تغيرت وجهة نظر الشخصيات التي صورها الفيلم.
يجري قتل العجائز لأنهن ساحرات في كينيا، ويجري تشغيل البنات بنقل الماء لأنهن لم يهاجرن بعد. يفترض أن يؤدي تصوير هذه المصائب إلى تسليط الضوء على وضع النساء لتغيير وضعهن نحو الأفضل.