وضعية مائية صعبة يعيشها المغرب، تؤشر عليها الأرقام والمعطيات الرسمية، وتوالي التدابير والإجراءات الاستعجالية التي تتخذها الحكومة بالموازاة مع إعلان حالة “الطوارئ المائية”، للتخفيف من حدة أزمة الماء، التي أصبحت تهدد بعض المناطق بحصر كمية المياه التي يتم ضخها إليها.
في هذا الحوار الذي أجرته جريدة هسبريس الإلكترونية مع جواد الخراز، الخبير الدولي في المياه والطاقة، والمدير التنفيذي للمركز الإقليمي للطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة بالقاهرة، يسلط الضوء على الوضعية المائية في المغرب، ويفسر أسبابها ودرجة خطورتها، ومدى نجاعة التدابير والسياسات المائية المغربية الهادفة إلى ضمان الأمن المائي.
يشهد المغرب حاليا عدة اضطرابات تهدد أمنه المائي وتلوح بتفاقم أزمة العطش، ما دفع الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ المائية وتكثيف اتخاذ الإجراءات والتدابير للحد من الأزمة بمجموعة من الجهات والمدن المغربية. ما مدى خطورة المرحلة التي وصل إليها المغرب في أزمة الماء؟
لا يخفى على أي كان أن الوضع المائي الحالي في المغرب حرج جدا بالفعل، خصوصا عندما نرى الأرقام الدقيقة الصادرة عن الوزارة المكلفة بالمياه أو وكالات الأحواض المائية، بحيث نجد أن منسوب السدود تراجع بشكل رهيب. كما لاحظت شخصيا ندرة المياه بشكل كبير؛ مثلا إحدى البحيرات الصغيرة بين تطوان وطنجة رأيتها لأول مرة في حياتي منذ أكثر من 4 عقود جافة تماما، في حين كانت تحتفظ في سنوات سابقة بالقليل من الماء بسبب الجفاء، لكن هذه السنة ولا قطرة ماء. هذا مثال بسيط فقط.
خطورة هذا الوضع تكمن في ضرورة تلبية الحاجيات المتزايدة من المياه في فصل الصيف تحديدا، والتي تتضاعف في بعض المدن، وخاصة المدن الساحلية، الأمر الذي قد يؤدي إلى حصر كمية المياه التي تضخ لبعض المدن والمناطق. كما يؤثر ذلك أيضا على الإنتاج الفلاحي والأنشطة المرتبطة به، فضلا عن التأثيرات الاجتماعية على الفلاحين والمزارعين. إضافة إلى تأثر إنتاج الطاقة الكهربائية في بعض السدود بسبب منسوب المياه الضعيف.
أزمة الماء تعود أساسا لأسباب طبيعية. هل توجد أسباب أخرى -غير الأسباب الطبيعية -وراء أزمة العطش التي يعيشها المغرب حاليا؟
هناك الأسباب الطبيعية، متمثلة في واقع التغيرات المناخية التي تؤثر بشكل مباشر وكبير في الموارد المائية؛ بحيث تؤدي إلى قلة التساقطات وتوالي سنوات الجفاف ونضوب المياه الجوفية، وبالتالي ندرة المياه في المغرب والمنطقة المتوسطية عموما.
وللأسف، تضاعف في السنوات الأخيرة هذا التأثير وأصبحنا نلمسه بشكل جلي. لكن هذا لا يمنع وجود أسباب أخرى من صنع البشر، كاستنزاف الثروات المائية، وخصوصا المياه الجوفية غير المتجددة، من خلال الأنشطة الزراعية المكثفة. إضافة إلى بعض المنتوجات الفلاحية التي تستهلك مياها كثيرة كالبطيخ الأحمر والأفوكادو. وقد انتبه الناس لذلك وأصبحوا يتداولون هذا الموضوع، ولذلك مبرر طبعا لأن بعض المنتجات الفلاحية بالفعل تستهلك مياها كثيرة. وبالتالي فالزراعة المكثفة لهذه المنتجات بغرض التصدير أو لتلبية حاجيات السوق المحلية لها ثمن باهظ يضاهي ربما الثمن الذي يباع به ذلك المنتج. لذلك يبقى أكبر سبب في هذه الأزمة هو استنزاف الفرشة المائية من خلال بعض الأنشطة الفلاحية المكثفة وغير المسؤولة أحيانا؛ وهو ما قد يؤدي خصوصا في المناطق الساحلية إلى تسرب مياه البحر، وبالتالي تملح المياه، ما يتطلب تحليتها من جديد لكي تستخدم للزراعة أو غيرها.
من جهة أخرى، هناك أيضا تأثير السياسات المائية والفلاحية. ولن أجامل إذا قلت إن السياسات المائية المغربية رائدة في المنطقة المتوسطية، وهو الأمر الذي تشهد به مجموعة من الدول الأوروبية. لكن هذا لا يمنع أن بعض السياسات، وخاصة في مجال الفلاحة، يجب أن يعاد فيها النظر؛ بحيث يجب الانتباه إلى بصمة المياه أو المياه الافتراضية وأخذها بعين الاعتبار؛ لأنه عندما ننتج منتجا فلاحيا يستهلك كمية كبيرة من الموارد المائية ونصدره، فإننا لا نصدر فقط ذلك المنتج، بل نصدر معه كل كمية المياه التي تم استخدامها في سقيه.
اتخذ المغرب مؤخرا مجموعة من الإجراءات لمحاصرة أزمة العطش. ما مدى نجاعة هذه التدابير الاستعجالية؟ وكيف تقيمون السياسات المائية المغربية بشكل عام؟
هناك بعض التدابير التي اتخذت، من قبيل استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لسقي المساحات الخضراء أو الحدائق في الشوارع والمدن، وهذا مهم جدا طبعا، لكنه غير كاف؛ لأن أكثر الموارد المائية كما أشرت سابقا تستخدم في القطاع الزراعي، وبالتالي هو الذي يجب أن تنصب عليه أكثر الجهود من خلال الرفع من كفاءة استخدام قطرة الماء، أي إنتاج أكثر بكمية مياه أقل، من خلال تكثيف استخدام التقنيات الحديثة، كالاعتماد على صور الأقمار الصناعية و”الدرون” لمعرفة كمية المياه التي تحتاجها المناطق الزراعية.
ما مدى أهمية محطات تحلية المياه التي يشيدها المغرب؟ وكيف يمكن أن يستفيد منها في تحقيق أمنه المائي؟
كل السياسات المائية، سواء في المغرب أو المنطقة العربية والمتوسطية والإفريقية، تعتمد على الإدارة المتكاملة لموارد المياه؛ إدارة الطلب وإدارة الإمداد بالمياه. فمن حيث الإمداد هناك مياه سطحية ومياه الأنهار وغيرها، بالإضافة إلى مياه الصرف الصحي المعالجة والمياه المحلاة التي تعتبر عنصرا أساسيا للحصول على التوازن في إدارة الموارد المائية. وبالتالي أصبحت تحلية المياه في السنوات الأخيرة خيارا مهما جدا، سواء في دول الخليج أو الدول المتوسطية، كمصر والجزائر وتونس، والمغرب أيضا الذي يسلك النهج نفسه؛ لأن التقنية من أجل تحلية المياه متوفرة، والكلفة انخفضت بشكل مهم مقارنة بالعشرين سنة الماضية، إضافة إلى إمكانية استخدام الطاقة المتجددة المتوفرة لدينا لتغذية محطات التحلية بالطاقة. كما أصبحت تتوفر مجموعة من الحلول للتعامل مع المياه المرتجعة من محطات التحلية ومعالجتها أو التخفيف من ضررها على البيئة التي يتم التخلص فيها من هذه المياه.
وتكمن أهمية هذه المحطات في إنتاجيتها الكبيرة عادة، وهو ما يجعلها كفيلة بتلبية حاجيات جزء كبير جدا من الساكنة. فمحطة أكادير مثلا تنتج يوميا أكثر من 225 ألف متر مكعب، ومن المرتقب أن تُضاعف هذه الكمية. ومن المنتظر أيضا بناء محطة كبيرة لتحلية المياه بالدار البيضاء ستهدف إلى توفير 300 مليون متر مكعب سنويا، مع محطات أخرى مرتقبة أيضا في شمال وجنوب المغرب. لكن أؤكد مرة أخرى على ضرورة اعتماد إدارة متكاملة لموارد المياه؛ بمعنى أن تحلية المياه تبقى فقط خيارا من بين خيارات أخرى.
هل يتم الإنفاق على المشاريع والتدابير المرتبطة بضمان الأمن المائي بشكل كافٍ؟
أكيد أن هناك غلافات مالية ترصد على مستوى الوزارة المكلفة بالمياه ووكالات الأحواض المائية، لكنها تظل غير كافية، وبالتالي يتم الحصول على الدعم من طرف مؤسسات أجنبية، كوكالة التعاون الألمانية ووكالة التعاون الفرنسية، وغيرها من الجهات المانحة التي تساعد في بعض المشاريع. إضافة إلى الدعم المحصل من القطاع الخاص الذي يعد طرفا مهما جدا في تمويل هذه المشاريع، فمحطة تحلية المياه بأكادير مثلا هي عبارة عن تشارك بين القطاع الخاص والعام أو ما يسمى (PPP) Public-private partnerships، أي التشارك بين القطاع العام والقطاع الخاص الذي يساهم في تمويل مشاريع المياه الكبيرة التي تفوق كلفتها 100 مليون دولار. بمعنى أن توفير الغلاف المالي للمشاريع المائية يظل غير كاف على المستوى الحكومي وعلى مستوى البلديات، وبالتالي يكون دور القطاع الخاص والأبناك مهما جدا؛ لذا يجب تعزيز هذا النوع من الشراكات للقيام بمشاريع تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي وغيرها، لتوفير الموارد المائية الكافية للاستعمال المنزلي وللنشاط الزراعي خصوصا.
هل تتوفرون على معطيات حول التموقع العالمي والعربي للمغرب من حيث الأمن المائي؟ وما أبعاد ذلك؟
يتموقع المغرب في منطقة جغرافية صعبة؛ لأن المنطقة المتوسطية تعتبر من أكثر مناطق العالم تأثرا بالتغيرات المناخية؛ وبالتالي فهو ليس غريبا عن محيطه، فكل الدول المتوسطية القريبة تعاني من المشكل نفسه، كالجارة الإسبانية، وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا واليونان وتركيا ولبنان وفلسطين ومصر والجزائر وتونس وليبيا. كل هذه الدول تعاني من شح المياه. وعندما ننظر إلى كمية المياه المتوفرة للفرد يظل المغرب أفضل من نظرائه الجنوب متوسطيين، لكن إذا كان البلد قبل فترة قصيرة يوفر 1500 متر مكعب للفرد في السنة، فإن هذا الرقم نزل تقريبا إلى 750، وهو ما يعني أننا في وضع شح مياه. كما أن الرقم في طريقه للتراجع إلى 500، ما سيضعنا في وضع حرج جدا، وهو ما يقتضي مضاعفة الجهود لتفادي الأسوأ في المستقبل.
يُقال إن المغرب تبنى سياسة مائية ناجعة واستشرافية بإنشاء السدود مع الملك الراحل الحسن الثاني. هل مازال بالإمكان الاستفادة من هذه السدود التي شيدت في عهد الحسن الثاني؟ وهل يمكن الاعتماد على سياسة بناء السدود كحل ناجع لضمان الأمن المائي، إذ توجد حاليا عدة مشاريع لبناء مجموعة من السدود الجديدة؟
بالتأكيد سياسة السدود التي سنها الملك الراحل الحسن الثاني كانت مهمة جدا وأعطتنا سبقا ونأت بنا عن سنوات جفاف وشح مياه. كما أن السدود الجديدة كفيلة بمنع ضياع المياه ووصولها إلى البحر، وبالتالي الاستفادة منها، لكنها تبقى محدودة؛ فحاليا مثلا منسوب السدود منخفض جدا بسبب قلة تساقطات هذه السنة. إذن لا بد من إدارة متكاملة لموارد المياه؛ وكما تلاحظ فإنني أكرر هذه العبارة دائما، التي تعني إدارة الطلب وإدارة الإمداد، ويتطلب كل شق منهما الاهتمام الكافي؛ فإدارة الطلب على المياه تقتضي سياسة توعوية في المدارس وفي صفوف المزارعين، وفي تسعيرة المياه. أما على مستوى الطلب فيجب الاهتمام بتحلية المياه وإعادة استخدام المياه العادمة المعالجة وكل ما يتعلق بتحويل المياه من منطقة إلى أخرى، إضافة إلى اعتماد النهج التشاركي من خلال إشراك الجامعات التي تشتغل في ميدان البحث العلمي، واستخدام التقنيات الحديثة في الزراعة والحفاظ على المياه الجوفية والفرشة المائية.
كيف يمكن تفسير أزمة العطش ببعض المدن التي تعتبر غنية من حيث الموارد المائية الطبيعية؛ كخنيفرة ووزان وتازة وغيرها؟
أحيانا تلك المياه إذا كانت جوفية تتعرض للنضوب بسبب قلة التساقطات أو استنزاف الفرشة المائية، وأحيانا قد تتعرض للتلوث وبالتالي تحتاج إلى معالجة قبل ضخها في شبكة التوزيع. إذا بعض هذه المشاكل هي التي تجعل الموارد المائية رغم توفرها لا تصل إلى البيوت. كما يمكن أن تكون هناك مصانع كثيرة أو نشاط زراعي مكثف قريب من المدينة، وتضخ له تلك المياه، وبالتالي تقل حصة الفرد. طبعا ليست لي معرفة دقيقة بهذه المدن التي ذكرتها، لكن قد يكون ذلك بسبب إحدى هذه المشاكل، أو ربما بسبب عدم فعالية شبكة التوزيع في المنطقة. لكنّي أشك في ذلك لأنه، وبدون مجاملة، المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب يقوم بدور مهم في هذا المجال.
ما هي الإضافات والحلول التي يمكن أن تُتيحها سياسة التدبير المندمج للماء والطاقة؟
التدبير والإدارة المندمجين للموردين صارا حديث الساعة مند مؤتمر بون 2011. الفكرة الأساسية هنا هي أنه لا يجب أن تتم إدارة المياه بمنأى عن إدارة الطاقة، والعكس صحيح؛ لأن المياه كما نعرف توفر الطاقة الكهرومائية في السدود خصوصا، كما أنها مهمة جدا للتبريد في محطات الطاقة. من جهة أخرى نحتاج الطاقة في كل ما يتعلق بالمياه؛ لاستخراجها، لمعالجتها، لنقلها، لتوصيلها؛ وبالتالي فالتدبير المندمج يمكّن من استخدام الموارد المائية المتاحة بشكل ناجع وفعال، ويمكن كذلك من الرفع من كفاءة الماء والطاقة.
ما هي التدابير والإجراءات التي يمكن أن تساعد المغرب على ضمان أمنه المائي وتجنيب البلاد أزمة عطش أكثر حدة؟
لا بد من تضافر الجهود بين مختلف الهيئات المعنية وتوظيف كل الخيارات الممكنة، بما فيها التدبير المندمج للمياه والطاقة، وتحلية المياه، ومضاعفة حصة المياه العادمة المعالجة واستخدامها في القطاع الزراعي خصوصا. إضافة إلى اعتماد مختلف السياسات الفلاحية التي يمكن أن تعطينا كفاءة مياه أكثر وتوفر علينا موارد مائية مهمة.
يجب أيضا أن نحافظ على جودة المياه من خلال منع تلوثها بسبب القطاع الصناعي وغيره، والتنسيق بين السلطات المحلية والمزارعين للحفاظ على الفرشة المائية ومنع حفر الآبار بشكل عشوائي، وتكثيف حملات التوعية في صفوف المواطنين والمزارعين. كما أن تسعيرة المياه أيضا يجب أن تحمل المُلوث والمُستهلك الكبير مسؤوليته لكي يرشد استخدام المياه ويقلل من تلويثها. كل هذا طبعا يجب أن يتم في إطار سياسة تشاركية بين السلطات المحلية، البلديات، المواطنين، المزارعين، الجامعات، الجمعيات المدنية وغيرها.