يراهن المغرب على التعليم الأولي كرافعة أساسية لإصلاح أعطاب المنظومة التربوية، لكن تنفيذ هذا الورش الإستراتيجي تحيط به تحديات نسلط عليها الضوء في هذا الحوار، مع عزيز قيشوح، مدير المؤسسة المغربية للتعليم الأولي.
في تقرير سابق رصد المجلس الأعلى للتربية والتكوين جملة من الاختلالات في قطاع التعليم الأولي، هل تمت معالجة هذه الاختلالات؟.
قطاع التعليم الأولي في المغرب مر بمسار طويل، سواء من ناحية سن القوانين والتشريعات أو المتدخلين الفاعلين في القطاع، وأدوار مختلف القطاعات الحكومية وشبه الحكومية والمجتمع المدني والقطاع الخاص.
واليوم هناك برامج وأوراش كبيرة تنفذها الدولة في مجال التعليم الأولي بشكل فعال ومكثف. وعلى غرار باقي البلدان، فإن التعليم الأولي يخضع لتطور مجتمعي تدريجي، وقد بدأ الاهتمام به في بلدنا منذ أزيد من عشرين عاما، لكن لم تكن هناك برامج واضحة بالشكل الذي هي عليه اليوم، ولم يكن هناك تدخل قوي من طرف الدولة كما هو الحال اليوم.
ما هي النتائج المحققة من البرنامج الوطني للتعليم الأولي بعد ثلاث سنوات من انطلاقه؟.
البرنامج حدد سقف تعميم التعليم الأولي في أفق سنة 2028، لجميع الأطفال، وانخراط جميع مكونات المجتمع المغربي، من القطاعات الحكومية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، كل حسب دوره، وضمان الجودة التي يجب أن تكون من البداية، كما أكد على ذلك جلالة الملك في الرسالة الملكية الموجهة إلى المناظرة الوطنية حول التعليم الأولي.
اليوم، وبعد ثلاث سنوات من انطلاق البرنامج، تحققت منجزات مهمة، فمن ناحية الإحصائيات تم الرفع من نسبة التعليم الأولي إلى أزيد 70 في المائة، بعدما كانت في حدود 50 في المائة في يونيو 2018.
فبفضل تدخل الفاعلين المعنيين، من قطاعات حكومية، وقطاع خاص، ومجتمع مدني، استطعنا أن نربح عشرين في المائة إضافية في تعميم التعليم الأولي على الصعيد الوطني.
ومن ناحية توفير فضاءات التمدرس، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لديها أزيد من ستة آلاف قسم تم إنجازها في العالم القروي، لتصل نسبة التغطية إلى أزيد من 60 في المائة، بعدما كانت في حدود 37 في المائة.
ومن ناحية الجودة فقد جرى الاشتغال على ركائزها، اعتمادا على تجارب عدد من المتدخلين على الصعيد الوطني، إذ إن وزارة التربية الوطنية والتعليم والرياضة، اليوم، هي المشرف الوحيد على قطاع التعليم الأولي، قانونيا وتشريعيا وتربويا وتدبيريا وتمويليا… ولا يوجد متدخل آخر.
لقد قام المغرب بجهود جبارة وقطع أشواطا كبيرة في مجال تعميم التعليم الأولي، ولدينا يقين بأن الأهداف المرسومة ستتحقق، إن شاء الله، في الأجل المحدد لها، أي سنة 2028 وربما قبلها.
هل تتوقعون تحقيق الأهداف المتوخاة، كمّيا فقط، أم حتى من حيث الجودة؟.
من ناحية الكمّ ليس لدينا أيّ تخوّف من تحقيق أهداف البرنامج الوطني لتعميم التعليم الأولي، وبكل صدق أقول إن الأمور تسير وفق ما هو مخطط له وبوتيرة جيدة جدا، إذ نُحدث كل سنة حوالي ألفيْ وحدة للتعليم الأولي في العالم القروي، بفضل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وداخل المدارس العمومية يتم إحداث أزيد من ثلاثة آلاف وحدة؛ أي إننا ننشئ خمسة آلاف وحدة جديدة للتعليم الأولي على الصعيد الوطني.
وإذا افترضنا أن كل وحدة تستقبل فقط 20 إلى 25 طفلا كمعدل، فهذا يعني إدماج أزيد من مائة ألف طفل في التعليم الأولي سنويا، وهذا المؤشر يعني أيضا أن هدف التعميم المحدَّدِ أجلُ تحقيقه عام 2028 قد نحققه قبل ذلك.
وفي ما يتعلق بالجودة فقد تم عقد عدة ورشات عمل تحت إشراف وزارة التربية الوطنية، بعد حصر الإشراف على التعليم الأولي فيها، في الهندسة الحكومية الجديدة، بمعية باقي المتدخلين، ومنهم المؤسسة المغربية للنهوض بالتعليم الأولي. والوزارة أنجزت تقييما حول مرتكزات الجودة.
وبناء على هذا التقييم، وضعت الوزارة الوصية خطة جديدة في مجال التعليم الأولي، مبنية على عدد من الركائز، هي تقليص عدد المتدخلين المسيرين لأقسام التعليم العمومي، بناء على أسس معينة، من أجل تحديد تخصص كل متدخل، والرفع من قدرته التقنية والتنظيمية.
في السابق كان عدد مسيري الأقسام يتجاوز ثلاثة آلاف متدخل، يسيرون 14 ألف قسم، واليوم تم تقليص هذا العدد إلى أقل من 1000 متدخل على الصعيد الوطني.
والعمل المبذول على هذا الصعيد سيمكّن أيضا من تعزيز الرقابة والمحاسبة، ففي السابق تتولى جمعية تسيير عدد معين من أقسام التعليم الأولي، لكنها لا تخضع لمراقبة مكثفة ومستمرة.
صحيح أنه كانت هناك التزامات من طرف الجهات الحكومية المعنية، لكن ليس بالدقة المطلوبة، واليوم وضعت التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة ميكانيزمات جديدة من أجل تقليص عدد المتدخلين، بهدف التوجه نحو المهنية، سواء في ما يتعلق بالعمل الداخلي في الأقسام أو على مستوى احترام التزاماتهم تجاه الوزارة.
ما هي المهام التي تنهض بها المؤسسة المغربية للتعليم الأولي؟.
من النقاط المهمة في خطة وزارة التربية الوطنية أن المؤسسة المغربية للتعليم الأولي، التي تم إحداثها من أجل الانخراط في عملية التعميم، أُسند إليها تدبير أزيد من 70 في المائة من أقسام التعليم الأولي العمومي.
وأسندت إلى المؤسسة أدوار محورية أخرى، وهي تكوين المربيات، سواء المشتغلات فيها أو المشتغلات مع المتدخلين الآخرين.
وفي السابق كان التكوين يتم بمبادرات من مختلف الفاعلين، لكنها لم تكن تحقق النتائج المطلوبة، سواء من ناحية كفاية عدد الساعات التي يستفيد منها كل مرب ومربية، قبل التكليف بالتدريس، وأيضا ضعف التكوين المستمر، وكذلك غياب المراقبة والتتبع والتأطير.
وفي ما يتعلق بتقييم مكتسبات الأطفال، وضعت المؤسسة المغربية للتعليم الأولي منظومة للتقييم، وفق قواعد علمية، تمكننا من الوقوف على مدى نجاعة المنظومة التربوية، ومدى نجاعة العمل التربوي ككل، سواء عمل المربين أو مؤطري المربين أو المكونين، حتى تتسنى لنا معرفة ما إذا كان العمل الذي نقوم به يحقق أهدافه.
وأسندت إلى المؤسسة كذلك مهمة تصنيف المتدخلين في مجال التعليم الأولي، لاسيما الجمعيات الصغرى والمتوسطة. وقد تم تهييء هذه المنظومة بشراكة مع وزارة التربية الوطنية، وسيتم تجريبها في السنة المقبلة، على أساس تعميمها في السنوات اللاحقة.
والهدف من هذه المنظومة في شموليتها هو ضمان استفادة الطفل المغربي، أينما كان، وأيا كان وضعه الاجتماعي، وبغض النظر عن المتدخل الذي يسير القسم، من تعليم أولي ذي جودة؛ وهذا يتطلب ضبط المتدخلين، والتزاماتهم، وتقييم طريقة عملهم.
علاقة بمسألة الجودة، هل مستوى تكوين المربيات والمربين يؤهلهم لضمان جودة التعليم الأولي؟.
منذ سنة 2008، خضع جميع المربين في وحدات التعليم الأولي التي تسيرها المؤسسة المغربية للتعليم الأولي للتكوين. بدأنا مع الجامعات عام 2008، حيث كنا نستقطب الطلبة الذين لديهم الباكالوربا زائد ثلاث سنوات، ونخضعهم لتكوين لمدة سنة، قبل أن يلتحقوا بالأقسام، ونفذنا تجربة مماثلة مع التكوين المهني.
وفي سنة 2014 أحدثنا مركزا داخليا للتكوين في المؤسسة، من أجل تكوين المربيات العاملات في الوحدات التابعة لها.
ومنذ إطلاق البرنامج الوطني للتعليم الأولي، وإلى الآن، جميع المربيات اللواتي يشتغلن في المؤسسة يستفدن من تكوين مدته 200 ساعة، قبل الالتحاق بالقسم، وهذا رهان أخذناه عن قناعة علمية وتربوية، لأنه لا يمكن لأي شخص كيفما كان مستواه الدراسي أن يفوَّض إليه التعامل مع الأطفال، دون أن يتوفر على تكوين جيد.
هو سيقوم بعمله من الناحية التقنية، لكنه لن يحقق الغاية المتوخاة من التعليم الأولي كاملة، لأن العمل مع الطفل أصبح مهنة قائمة بذاتها، ولديها مواصفاتها الخاصة. وقد أحدثت الوزارة الوصية قطيعة على هذا المستوى، وعيا منها بأهمية الموارد البشرية، ومحوريتها في العملية ككل.
وانطلاقا من شهر شتنبر المقبل، سيكون جميع المربين والمربيات العاملين في قطاع للتعليم الأولي قد استفادوا من تكوين أساس لمدة 400 ساعة، أي أحد عشر أسبوعا من التكوين، فضلا عن تكوين إضافي بغلاف زمني من 550 ساعة في السنة الأولى من عمل المربية والمربي؛ وهذا التكوين يستفيد منه حاليا أزيد من سبعة آلاف مربية ومرب جدد، سينضاف إليهم 1000 مستفيد آخرين لاحقا.
أيضا وضعنا، بشراكة مع وزارة التربية الوطنية، منظومة للتكوين المستمر، بحيث إن جميع المربيات والمربين العاملين في القطاع سيستفيدون، ابتداء من شهر أكتوبر المقبل، من ستة أيام من التكوين المستمر في كل سنة دراسية.
هل العدد المتوفر من الموارد البشرية كاف لإنجاح تعميم التعليم الأولي؟.
حاليا هناك خصاص كبير في المربيات والمربين. في سنة 2028 سيكون لدينا ما بين مليون ومليون و300 ألف طفل في سن التعليم الأولي، وهذا يعني أننا سنحتاج إلى ما يناهز 65 ألف مربية ومرب.
والعرض العمومي سيوفر في شتنبر المقبل 25 ألف قسم للتعليم الأولي.
وبالموازاة هناك عرض كبير للتعليم العمومي غير مهيكل، نتيجة عدم الانخراط بالفعالية المطلوبة في تأطير هذا القطاع.
واليوم هناك مجهود كبير تقوم به وزارة التربية الوطنية من أجل مواكبة العرض غير المهيكل، حتى يتوفر على مواصفات العرض العمومي نفسها.
إذن مازال هناك خصاص كبير في الموارد البشرية التي يجب أن تشتغل في القطاع، وهذه فرصة بالنسبة للشباب الراغبين في العمل في هذا المجال، خاصة الفتيات، لأنهن هن اللواتي يعملن في هذا القطاع بنسبة كبيرة جدا.
كيف سيتم تأهيل التعليم العمومي غير المهيكل؟.
سيتم ذلك من خلال محورين، الأول هو فضاء الاستقبال، الذي يجب أن يكون لائقا، وأيضا على مستوى ضمان الجودة داخل الوحدات، سواء في ما يتعلق بأداء الموارد البشرية أو جودة البرامج التربوية، ثم التأطير والتتبع والمراقبة.
هناك تعاون مع وزارة التربية الوطنية من أجل وضع منظومة جديدة لتأهيل القطاع غير المهيكل، وهناك تجارب أعطت نتائج مهمة، كالتجربتين المنجزتين في جهة الدار البيضاء والجهة الشرقية. وسيتم استثمار هذه التجارب الناجحة من أجل وضع منظومة متكاملة للعمل مع القطاع غير المهيكل.
وأؤكد أن هذا البرنامج لا يهدف إلى إقصاء أحد، أي إنه لا يقوم على منظور إقصائي، لأن هناك مستثمرين وعاملين في القطاع يكسبون منه رزقهم لسنوات، بل تتم معالجة هذا الأمر من منظور احترام حق الطفل في تعليم أولي ذي جودة؛ وهذا يقتضي أن يكون هناك تجاوب مع الضوابط التي تضعها الوزارة. وقد أكدت الرسالة الملكية في المناظرة الوطنية حول التعليم الأولي على ضرورة استفادة الطفل المغربي من نفس جودة التعليم كيفما كان موقعه الاجتماعي والجغرافي.
هل خُصص تمويل كاف لإنجاح ورش تعميم التعليم الأولي؟.
من ناحية التمويل، لم يعد هذا الأمر يطرح مشكلا. تمويل العرض العمومي اليوم مضبوط، والمؤسسة وقعت على اتفاقية إطار مع وزارة التربية الوطنية يوم 7 أبريل الماضي، واتفاقية ثانية مع وزارة الاقتصاد والمالية، واتفاقية ثالثة مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ووزارة التشغيل.
هذه الأطراف كلها منخرطة في هذا البرنامج، وهناك التزام قوي من طرف الدولة في هذا الإطار، وبالتالي فالجانب المالي لم يعد يطرح إشكالا.
مشكل التمويل كان مطروحا بشكل كبير سنة 2018، إذ كنا نبحث عن تمويل المشاريع عبر شراكات مع الجماعات المحلية، والمجالس المنتخبة والقطاع الخاص. وحينذاك كانت الميزانية المخصصة لهذا القطاع صفر درهم.
هل تتوفر أقسام التعليم الأولي بالقطاع العمومي على المواصفات المطلوبة لاستقبال الأطفال؟.
نعم، اليوم هناك فضاءات استقبال في بعض المدارس العمومية أحسن من عروض أخرى موجودة في القطاع، سواء القطاع الخاص أو غيره.
تعاني كثير من المربيات المشتغلات مع الجمعيات من عدم الاستفادة من حقوقهن؛ هل هناك مجهود لتسوية وضعيتهن؟.
هذا صحيح، ونحن في المؤسسة نتوصل بشكايات من طرف بعض المربيات، لكني أؤكد أن وزارة التربية الوطنية أولت اهتماما كبيرا لهذا الموضوع، ووضعت ثلاثة إجراءات لمعالجته، أولها الاتفاقية الموقعة يوم 7 أبريل الماضي، التي بموجبها تم إسناد أزيد من 70 في المائة من الأقسام للمؤسسة المغربية للتعليم الأولي.
وأؤكد أن هذه المشاكل لا توجد داخل هذه المؤسسة، حيث لا تعاني منها المربيات المشتغلات فيها، لأنها تعمل وفق ضوابط إدارية وقانونية وتمويلية.
والإجراء الثاني هو تقليص عدد المتدخلين، من أجل تمكين الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والمديريات الإقليمية للتربية، من ضبط التزامات الجمعيات، في الجوانب المتعلقة بالميزانية والتقارير والدعم.
والإجراء الثالث هو تخويل مهمة المراقبة والتتبع للأكاديميات الجهوية والمديريات الإقليمية. والسيد الوزير أكد أن مسؤولية الوزارة والأكاديميات والمديريات هي مسؤوليات ممثلي الدولة، ولا يمكن أن يكون هناك مورد بشري يشتغل في التعليم العمومي مع جمعية في وضعية لا تحترم مسؤولياتها، وإذا كان متدخل ما لا يحترم التزاماته فسوف يتم تعويضه بمتدخل آخر يحترم الضوابط التي وضعتها الوزارة.
هناك أيضا مربيات يشتكين من عدم التصريح بهن من طرف المؤسسة المغربية للتعليم الأولي لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ما ردكم على هذا؟.
هناك بعض الحالات، لكنها قليلة، تتعلق في الغالب بتأخرٍ في المساطر الإدارية لتسوية وضعيتهن.
قبلا ثلاثة أشهر أحدثنا منصة رقمية مخصصة لاستقبال شكايات جميع المشتغلين في المؤسسة، ولدينا فريق عمل يشتعل على معالجة هذه الشكايات.
المعطيات التي لدينا تفيد بأن عدد المربيات اللواتي لديهن مشكل التصريح في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لا يتعدى مائتين من أصل 12 ألف مربية.
هناك ملفات تمت تصفيتها، وأخرى في طريق التصفية. وأغتنم هذه المناسبة لتوجيه نداء إلى جميع المربيات والمربين الذين لديهم مشاكل بأن يقدموا إلينا المعطيات الخاصة، عبر المنصة الرقمية المحدثة لهذا الغرض، وسنعالج الأمر.