قال الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف إنه “لا يمكن لمن تكون الحداثة أساس تفكيره، ومن طبيعة الرؤى والمواقف التي يبتني بها رؤيته للواقع، بل للعالم، ألا يستعيد المفكر الراحل محمدا سبيلا، وألا يعود إلى كتاباته”، موضحا أن “محمدا سبيلا كرس جزءا كبيرا من انشغالاته وأسئلته وبحثه وقراءاته وترجماته للحداثة ولنقد غيرها مما كان عائقا في طريقها”.
وأضاف بوسريف، في مقال له بعنوان “محمد سبيلا أو الحداثة في أفقها المُتصَير”، أن “سبيلا اعتبر مفهوم ما بعد الحداثة في وضعنا هو انزلاق في استعمال مفاهيم لا يمكن أن تجد مكانها في ثقافتنا، ولا في واقعنا، ولا في فكرنا”، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن “سبيلا كان في مشروعه الحداثي يؤكد، دون تردد، على الحداثة باعتبارها أفقا وطريقا، وسياقا فكريا لإعادة تفكير التحديث، وتفكير ما يطرحه الواقع من تحديات ورهانات”.
وبعدما تطرق صلاح بوسريف لمفهوم الحداثة وشروطها، قال إن “محمدا سبيلا كان يفكر في الحداثة وعينه على المستقبل، على مساحات الضوء التي كان يستشرفها في الصيرورة، رغم ما قد يعتريها من ضباب وتشوش
ومقاومات، وما قد يحدث فيها من التباسات وتعقيدات، ومن كثافة وغموض”.
هذا نص المقال:
لا يمكن لمن تكون الحداثة أساس تفكيره، ومن طبيعة الرؤى والمواقف التي يبتني بها رؤيته للواقع، بل للعالم، ألا يستعيد المفكر الراحل محمدا سبيلا، وألا يعود إلى كتاباته.
كرس محمد سبيلا جزءا كبيرا من انشغالاته وأسئلته وبحثه وقراءاته وترجماته للحداثة ولنقد غيرها مما كان عائقا في طريقها. كان حريصا على بناء مفهومه للحداثة، بتوسيع المفهوم، وجعله قابلا لتَشَرب كل المتغيرات التي تجري في سياقه. لذلك، كان التقليد عند محمد سبيلا، هو أحد عوائق الحداثة ومعيقاتها، باعتبارها اتباعا لا يسمح بالابتكار والابتداع، وهو احتذاء لفكر وأسئلة وقضايا، لسنا نحن من طرحناها أو خضنا فيها، وهو في ذلك يُميز بين التقليد والتراث بشكل واضح.
كما أن مفهوم ما بعد الحداثة، عنده، كما عند غيره، وبينهم المفكر الأمريكي من أصل مصري إيهاب حسن، والسوسيولوجي الفرنسي ألان تورين، هي نفسها صيرورة، وتحمل نقدها ومراجعتها في ذاتها، أو كما سماها تورين، في كتابة “دفاعا عن الحداثة”، بـ”الحداثة الفائقة”، أي الحداثة نفسها وعي تتغير وتتجدد دون حاجة إلى هذا النوع من القفز في الفراغ.
كنت، في أكثر من مناسبة، ناقشتُ مع الراحل محمد مفتاح ميله إلى هذا المفهوم، في ثقافة ومجتمع الحداثة فيهما هي نفسها لا تزال لم تَرْسُ ولم تجد بعد موضع قدم لها، بما تعنيه من فهم لضرورتها، وأن ما نحن فيه تحديث، أي ما كان ينبغي أن يترتب عن الحداثة لو كُنا نحن من خُضْنا فيها، وأن التحديث هو فهم خاطئ وسطحي للحداثة، بل هو حداثة دون جذور، ناهيك عن المماحكاة التي لا تنقطع للتقليد، كلما شرعت الحداثة تُسْفِر عن بعض انقلاباتها.
طبعا، لمحمد مفتاح رأيه، ومبرراته التي يمكن الإنصات إليها من خلال مشروعه النقدي الفكري، حتى ونحن لا نقتنع بها؛ لكن، بعكس مفتاح، فسبيلا اعتبر مفهوم ما بعد الحداثة في وضعنا هو انزلاق في استعمال مفاهيم، لا يمكن أن تجد مكانها في ثقافتنا، ولا في واقعنا ولا في فكرنا.
إذا كان ألان تورين وغيره ممن ذهبوا إلى الحداثة وَعَى شرط الصيرورة في الحداثة وأكد عليه، في مجتمعات متقدمة قياسا بمجتمعاتنا، فكيف سنكون نحن مُنْجَرين إلى مفاهيم الغرب نفسه لم تكن واضحة عنده بما يكفي، أو أنها سؤال مفتوح على المستقبل.
سبيلا كان، في مشروعه الحداثي، يؤكد، دون تردد، على الحداثة، باعتبارها أفقا وطريقا، وسياقا فكريا لإعادة تفكير التحديث، وتفكير ما يطرحه الواقع من تحديات ورهانات.
الحداثة، بهذا المعنى، ليست تَرَفا، ولا هي مفهوم نَتباهَى به لادعاء انتمائنا إلى العصر، لأن للحداثة شروط، لعل أهمها تغيير العقل وطُرُق التفكر والانتصار للإحداث والابتكار واعتبار التنوير من أسس الإحداث وما تنعكس به الحداثة في تمثلها والانخراط فيها واقتراح تصوراتها على المؤسسات وعلى العلائق بين الناس وما يمكن أن يخلقوه من جَو من الحرية الفكرية وحرية الإنسان في سياق مجتمع عادل يتفادى الجَوْر والفروق بين الناس في الحقوق، والتأكيد على مبدأ المواطنة باعتبارها تربية وثقافة، وإنسان يرى ويسمع ويُفَكر، ويكون مُشارِكا في تدبير الشأن العام أو صاحب برامج وأفكار، وتوسيع مجال الثقافات والفنون ودمقرطة الإعلام وتحرير القضاء من وصاية السلَط المختلفة، كون القضاء سلطة فوق السلط كاملة؛ لأنه الملجأ الوحيد لإحقاق الحقوق، دون تمييز بالجنس أو اللون أو العرق أو الانتماء الطبقي، حيث الناس وفق الحديث النبوي “سواسية كأسنان المشط”.
حين يكون فهمُنا للحداثة، من منظور واحد مُغْلَق، أو من زاوية لا تَتسِعُ لأكثر من ضوء، ولأكثر من رؤية، أو النظر إليها في مجال دون غيره، واعتبار الحداثة موجودة، والإنسان حداثي، والمجتمع تحقق فيه شرط الحداثة، أو نُهاجم الحداثة بالتقليد، دون وعينا بما للحداثة من معرفة بالتراث، وما تُناقشه فيه من قضايا وأسئلة وأفكار، وما أضاءت به التراث نفسه، لتُخْرِجَه من ظلُمات التقليد، لن نستطيع إدراك أهمية الحداثة، ولا ما فيها مِنا، وما فينا منها، وسنجني عليها بتكريس التحديث فيها دون شرطه الحداثي، أو بمهاجمتها، باعتبار غربا، علما أن ما نأخذها منها، أعني مظاهرها السطحية، بما فيه التقنية، هي من شروط العصر، والزمن الذي نحن فيه، في العمل، كمل في الدراسة والبحث، وفي نشر الأفكار والمعلومات، وإذاعتها بين الناس، كما تفعل الجماعات المتطرفة، في رفضها للحداثة وفي قبولها لاستعمال أدواتها، بدوى ضرب «الكافر» بسلاحه، والسلاح، هنا، ليس سوى العقل، وهذه إحدى مطبات التقليد والاحتذاء الأعمى.
فمحمد سبيلا كان يفكر في الحداثة وعينه على المستقبل، على مساحات الضوء التي كان يستشرفها في الصيرورة، رغم ما قد يعتريها من ضباب وتشوش ومقاومات، وما قد يحدث فيها من التباسات وتعقيدات، ومن كثافة وغموض. الحداثة عنده كانت رهانا، ولا تزال، حتى في غيابه؛ لأن كل المفكرين التنويريين الحداثة عندهم هي شرط لكل تغيير يمكن أن يفضي إلى تنمية فعلية وإلى إصلاحات تمس الكثير من الجذور، وهذا ما يزعج التقليد الذي يجد انشراحه في الاستقرار ويرفض الصيرورة والاستمرار، رغم أنهما من شروط الطبيعة ومن شروط وجودنا على الأرض ومن شروط نمو الجسم فينا، وكذلك العقل، وما يطرأ على الفكر من انتقال ومن تطور هو من صميم الفكر المتَصير اليَقِظ، الذي به تتجدد الحياة ويحدث النشوء والارتقاء وندخل مجال التنمية بالفعل، لا بالقوة.