وصف عبد السلام انويكة، عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث، مدينة تازة بـ”المدينة الشهيرة بممرها، والمنتصبة منذ العصر الوسيط بإحدى شرفات جبل مطل يصل شرق البلاد بغربها ومقدمة الريف بمرتفعات الأطلس، وهي مدينة بمعالم أثرية عديدة شاهدة على ما كانت عليه من أدوار ومظاهر فعل وتفاعل مستقر منذ قرون”.
وبعدما تطرق انويكة، في مقال له بعنوان “من أمس أرشيف المغرب وأحباس المدن العتيقة”، لـ”زمن تازة ووقائعها وكيانها وهويتها وتاريخها الاجتماعي” و”الرصيد الوثائقي المغربي الأصيل في علاقته بتازة”، أشار إلى أن “تازة هي بأرشيف تراثي أصيل مهم من الحوالات الحبسية، لِما طبع أهلها من ثقافة توقيف باعتباره عملا خيريا إنسانيا، خدمة لِما ينفع الناس من خدمات عبر هذا المرفق والكيان والأسلوب أو ذاك”.
وختم عبد السلام انويكة مقاله بالإشارة إلى أن “المستشرقين هم أول من انتبه إلى الوثيقة الحبسية وإلى أهميتها التاريخية حول المجتمع المغربي، مع ما يسجل حول تأخر انفتاح أعمال بحث المغاربة التاريخي على هذا الوعاء الوثائقي حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وعليه ما كان من قيمة مضافة وما يحسب لجهود من انفتح منهم على هذا الأرشيف، من قبيل الأستاذ عبد الله العروي ومحمد المنوني ومحمد بن شريفة وغيرهم”.
هذا نص المقال:
ما هو عتيق من مدن المغرب وما هو دفين في زمنها من عقليات وذهنيات وتيمة ثقافة وعلاقات ووعي مجتمع رمزي ومعيش وتعايش هو بحاجة إلى عناية أوسع في أفق ما هو كائن من درس وحضن بمؤسسات بحثية علمية إنسانية هناك بدول الغرب؛ ذلك أن هذه المدن في تجلياتها ونسيج زمنها الفسيفسائي، رغم ما هناك من تدفق وزخم تحول، هي وعاءات لحركة تاريخ ومساحات حيوية بمشاهد حضارة وإنسانية إنسان. والمغرب، بحكم زمنه وطبيعة موقعه وتفاعله البشري عبر العصور، هو بوعاء مدن عتيقة واسع مقارنة جعله بلدا بإرث مادي ولامادي مهم في بعده الإنساني. لعل من هذه المدن نجد تازة، الشهيرة بممرها والمنتصبة منذ العصر الوسيط بإحدى شرفات جبل مطل يصل شرق البلاد بغربها ومقدمة الريف بمرتفعات الأطلس، مدينة بمعالم أثرية عديدة شاهدة على ما كانت عليه من أدوار ومظاهر فعل وتفاعل مستقر منذ قرون.
وبقدر ما تعود هذه الحاضرة المغربية الأصيلة إلى القرن السادس الهجري مع ما هناك من سؤال حول نشأة ونواة لا تزال بقراءات وتعدد تأسيس ونظر بقدر ما شهدت فترة ريادة خاصة على عهد دولة بني مرين لعوامل عديدة ومتداخلة، تلك التي بنهايتها تكون تازة قد طوت حلقة ذهبية من زمنها تؤثث فيه أعظم ما تحضنه وتفخر به من إرث مادي ولامادي جامعٍ بين عمارة دين وفكر وسياسة وتحف وأعلام وغيرها.. علما أن ما شهدته المدينة من فتور معبر لم يمنع من حضورها كمحطة ذات أهمية خلال فترات لاحقة، لِما هي عليه من سلطة موقع وممر فاصل وواصل. قبل أن تطفو من جديد وتبرز بشكل لافت مطلع القرن الماضي، لِما ارتبط بها من تطورات سياسية حرجة وما طبع ممرها من وقع خاص في علاقة شرق البلاد بغربها، إثر ما شهدته حدودها الشرقية من أطماع استعمارية وتطلعات انتهت بفرض حماية فرنسية فضلا عن نقل عاصمة البلاد من فاس إلى الرباط، ما تقلصت معه أهمية تازة بعد ما كان لها من تفاعل وثيق على أكثر من مستوى مع فاس على امتداد قرون.
صوب زمن تازة ووقائعها وكيانها وهويتها وما يهم عموما تاريخها الاجتماعي خلال العصر الوسيط لا بديل عن أهمية إنصات الباحث لِما هناك من إرث وثائقي محلي أصيل حرص السلف على حفظه هنا وهناك، قبل أن يشهد أرشيف البلاد ما شهده من التفات مؤسس وتدبير ورؤية تحديث وفعل تقني منذ حوالي العقدين، ليس فقط من خلال ما أحيط به من نص وتأطير ومؤسسة ونظم تدبير ومساطر وغيرها، إنما أيضا لِما حصل من وعي به وبأهمية ما من شأنه مساعدة الباحث المؤرخ على نبش قضايا مدن البلاد العتيقة، وتأسيس لحظات كتابة رافعة بقدر معين من انتقاء وتناسب ومعطيات. مع أهمية الإشارة إلى ما يسجل إيجابا من تطلعات تهم ما هو أرشيف وطني بما فيه الأرشيف الرمزي الأصيل الحضري، في أفق ما ينبغي من استثمار رافع لنماء حاضر ومستقبل بلاد وعباد، فضلا عن بحث إنساني عبر ذاكرة لا تزال تتوزع هنا وهناك بين أفراد وأسر ومؤسسات وغيرها.
حول الرصيد الوثائقي المغربي الأصيل في علاقته بتازة وبما ينبغي من بحث منفتح على المدينة العتيقة خلال العصر الوسيط، ارتأينا إطلالة على تيمة الحوالات الحبسية التي ارتبطت لدى مغاربة الأمس بوضع أملاك في خدمة صالح عام، تلك التي توزعت على محلات تجارة وأراض وبساتين وغيرها، كانت مداخيلها روح حياة واستمرارية أنشطة مدارس وجوامع وزوايا ومرافق اجتماعية وغيرها. وغير خاف ما هناك من صعاب تخص نبش الباحث لقضايا زمن مدن مغرب العصر الوسيط الاجتماعي، ومن ثمة ما يمكن أن تسهم به حوالات هذه المدن الحبسية من معطيات بقدر عال من الأهمية. تلك التي تشكل تراثا رمزيا وعلميا مغربيا أصيلا كان ينظر إليه إلى عهد قريب على أنه بجفاف معرفي وببعد عن حقل التاريخ وكتابته، علما أن هذه الحوالات هي بتنوع جوانب تخص قضايا عيش ونظم علاقات ومظاهر حياة وغيرها، تلك التي من شأن إبرازها ملء بياضات تطبع نصوصا تاريخية مصدرية كما الحوليات حيث تخمة ما هو سياسة وحروب وبطولات وزعامات وغيرها.
وحوالات المدن العتيقة الحبسية، التي تجمع في مضانها بين ممتلكات وخبر مرافق وعقارات وإحصاءات ومصاريف ونصوص عدلية وغيرها، اعتمدت أول الأمر على عهد دولة بني مرين التي اشتهرت بخدماتها الوقفية خلال العصر الوسيط. وكان بنو مرين قد أحاطوا تدوين معاملات الوقف بقدر كبير من العناية، من خلال دفاتر خاصة هي الآن مساحة أرشيف تاريخي بأهمية بحثية في قضايا المغرب الوسيط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولعل بقدر ما تقاسمت حوالات تازة الحبسية المرينية جوانب دفينة من زمن المدينة بقدر ما توزعت على محبسين صوب مدارس وأضرحة فقهاء وأعلام ومجارٍ وسواقٍ ودور عبادة وزوايا وجوامع وحمامات وغيرها. حوالات ووثائق تاريخية بمعطيات مهمة تشكل جوهر عمل كل باحث مهتم. وغير خاف ما هناك من صنف رسمي في هذه الحوالات لدقة تدوينه وتوثيقه وصدقيته ومن ثمة أهميته في الكتابة التاريخية. أما الثاني غير الرسمي من هذه الحوالات فهو الخاص بقضايا وممتلكات بطبيعة أسرية كثيرا ما يصعب على الباحث بلوغها.
وتازة هي بأرشيف تراثي أصيل مهم من الحوالات الحبسية، لِما طبع أهلها من ثقافة توقيف باعتباره عملا خيريا إنسانيا، خدمة لِما ينفع الناس من خدمات عبر هذا المرفق والكيان والأسلوب أو ذاك، وهو دونوه وأشهدوا عليه في وثائق تناولت جوانب عديدة وأمكنة بمعطيات مهمة من شأنها إبراز ما كانت عليه المدينة من علاقات وتفاعلات وقيم وغيرها، خاصة أن تازة كانت بوقع وموقع متميز زمن دولة بني مرين جعلها في مقدمة مدن البلاد لِما كانت عليه من نشاط ومرافق مجتمع وتجليات تفاعل، من جملة ما أورد الحسن الوزان عنها أن المدينة كانت تشتمل على ما يقرب من خمسة آلاف أسرة وأن قصور أشرافها وما كان بها من مدارس ومساجد هي في غاية الإتقان، مشيرا إلى نهر صغير ينحدر من الجبل المجاور ويمر بالمدينة ويخترق جامعها الكبير، وأن هذا المجرى المائي كان يتعرض من حين إلى آخر لتغيير مجراه من قِبل الجبليين كلما حصل خصام مع سكان المدينة، وبصرفهم لمياه هذا المجرى إلى مكان آخر كانت تتأذى المدينة كثيرا، إذ لا يمكن حينئذ طحن الحبوب ولا الحصول على ماء صالح للشرب وأن أهل تازة كانوا يضطرون إلى الاكتفاء بماء خزانات عكر. هذا قبل أن يضيف حول وضع المدينة الترابي الاجتماعي الفكري، عندما أشار إلى المدينة في تقديره تحتل الدرجة الثالثة في البلاد نظرا لمكانتها وحضارتها، مشيرا إلى أنها تتوفر على جامع أكبر من جامع فاس وثلاث مدارس وحمامات وفنادق وأسواق منتظمة، فضلا عن شجاعة وكرم أهاليها والذين منهم علماء وأخيار وأثرياء وعن تعايش مع فئة يهود هم بحوالي خمسمائة دار بالمدينة. معرجا في إشاراته التاريخية ذات الطبيعة الاجتماعية والفكرية العمرانية على أن ملوك مدينة فاس من بني مرين عادة ما يعينون ثاني أبنائهم على هذه المدينة، مشيرا إلى أنها تستحق أن تكون حاضرة المغرب لِما يطبعها من مناخ جيد وطبيعة ومياه؛ بل من جملة ما أورده عن تازة إشارته إلى أن ملوك بني مرين كانوا يقضون بها الصيف كله [الحسن الوزان الفاسي، وصف إفريقيا، دار الغرب الإسلامي، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الجزء الأول، طبعة ثانية 1983، ص ص 354- 355.] هكذا، إذن، هي صورة تازة بعيون الحسن الوزان في مغرب العصر الوسيط، وهذا ما أثاره من إشارات حول مكانتها كأنشطة وعلاقات وتفاعلات ومرافق مجتمع أطرتها متون حوالات حبسية بمعطيات مهمة. تلك التي يسجل أن أول من انفتح عليها واستثمرها في عمله من الباحثين حول المدينة قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود، هو الأستاذ مبروك الصغير الذي أثث أطروحة من طراز رفيع نال بها شهادة دكتوراه بجامعة السوربون بباريس، ومن خلالها أثث مؤلفا بحوالي سبعمائة صفحة هو بقدر كبير من الأهمية التاريخية والأركيولوجية والترابية حول تازة، لا يزال إلى حد الآن أعظم وثيقة تحتويها خزانة تازة التاريخية العلمية البحثية بل حلقة مرجعية علمية أهم وأفيد لكل باحث ودارس.
وكانت حوالات تازة الحبسية قد استحضرت المدينة ضمن مشاهد بيئية واجتماعية فضلا عن تجليات علائقية وتفاعلات معيشية وتعايشية، من خلال ما ورد فيها مثلا رغم صعوبة قراءة مضامينها لشدة تقادمها نجد ما ارتبط بدُور علم وفكر وتربية من قبيل المدرسة المرينية (مدرسة المشور)، وما خص به السلطان أبو الحسن وابنه السعيد هذه المعلمة من التفات عبر أملاك بفاس وتازة تم تحبيسها عليها لضمان نشاطها ومهمتها واستمراريتها، ومن هذه الوثيقة الحبسية يستشف ما كانت عليه هذه المدرسة من بناء وتوجيه ومحراب وموضع صلاة وعلاقة بأزقة مدينة وتواريخ ذات صلة واسماء سلاطين وغيرها. الشيء نفسه ما ارتبط بوثيقة تحبيس تخص ضريح ابن بري التازي إمام القراء المغاربة، تضمنت إشارات مهمة تخص شخصية فقهية تازية من حيث مؤلفاتها واهتماماتها ونبوغها فضلا عن تاريخ ولادة ووفاة. ناهيك عما جاء في حوالات تازة الحبسية زمن بني مرين من إشارات توزعت على حاجات المدينة من ماء وسواقٍ في علاقة بدُور عبادة وأمكنة وأكرية ومنتوجات ونظافة وأزقة وغيرها، كلها مساحات من شأنها بلورة معطيات بحقيقة تاريخية نسبية طبعا. مع أهمية الإشارة إلى أن رصيد تازة من وثائق تحبيس لا يقتصر على فترة العصر الوسيط؛ بل يمتد ليشمل ويستحضر ما طبع زمنها الحديث من علاقات ومعاملات ومبادرات وعناية سلطانية بعمارتها الدينية، خاصة جامعها الأعظم وأثاثه الروحي وتقاليده من أنشطة قراءات حزبية ومجالس وغيرها، كذا من دعوة إلى التعاون وتجاوز النزاعات وتيسير حاجيات المدينة في علاقة بمحيطها.
جدير بالإشارة إلى أن المستشرقين هم أول من انتبه إلى الوثيقة الحبسية وإلى أهميتها التاريخية حول المجتمع المغربي، ومن هؤلاء نجد الفرنسيين من قبيل ألفريد بيل وليفي بروفنسال وجاك بيرك وغيرهم. مع ما يسجل حول تأخر انفتاح أعمال بحث المغاربة التاريخي على هذا الوعاء الوثائقي حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وعليه ما كان من قيمة مضافة وما يحسب لجهود من انفتح منهم على هذا الأرشيف؛ من قبيل الأستاذ عبد الله العروي ومحمد المنوني ومحمد بن شريفة وغيرهم. هذا إلى حين ما ينبغي من التفات لأرشيف مدن المغرب العتيقة، وما ينبغي من وضع لأرشيف تازة وحوالاتها الحبسية رهن إشارة باحثين ومهتمين من خلال مؤسسة أرشيف المغرب، وإلى حين أيضا ما ينبغي من جيل باحث جديد ومن ثمة مقاربات مندمجة وإشكالات وتعميق نظر فيما تم تناوله من قضايا، فضلا عن استثمار وعاء مادة مصدرية اتسعت بفضل ما تم تحقيقه من نصوص، كذا ما ينبغي من أنثروبولوجي تاريخي ومن ثمة رمزي ثقافي حول زمن مدن المغرب العتيقة، في أفق بحث ودراسات ومعرفة تاريخية بقدر معين من تجديد ونوع وقيمة مضافة.