قال الكاتب عبد الإله بسكمار إن “تنقلات الماركيز دوزيكونزاك، وهو ضابط فرنسي ومستكشف وكاتب دوّن رحلاته بدقة ضمن كتابه ‘أسفار في المغرب’، ببعض مناطق المغرب هي في الواقع عبارة عن ثلاث رحلات تفصل بينها توقفات قصيرة إما بفاس أو مراكش أو وزان والقصر الكبير.
واستهدفت، مثلما كان عليه الحال في رحلة دوفوكو، بعض الجهات المغربية التي ظلت غير معروفة على نحو عام بالنسبة للأوروبيين إلى حدود الفترة المعنية، كالأطلسين المتوسط والكبير ومناطق سوس والريف”.
وتطرق بسكمار، في مقال به بعنوان “رحلة الماركيز دوزيكونزاك عبر تازة.. بين صعوبة المجال البشري وإشعاع شرفاء وزان”، لمجموعة من المحطات التي عاشها دوزيكونزاك في المغرب، خاصة زيارته لناحية مراكش في اتجاه الأطلس الكبير، وذهابه شمالا باتجاه الريف مرورا بوزان وفاس ومليلية، ثم الحيز الشرقي للأطلس المتوسط، بما في ذلك حوض ملوية الأعلى، وناحية فاس وأزرو وتازة.
وختم عبد الإله بسكمار مقاله بالإشارة إلى أن “دوزيكونزاك اتجه أخيرا نحو مدينة تازة، واصفا المجال الجغرافي ثم البشري، وصولا إلى الحاضرة من جهة الجنوب الشرقي، وبالضبط كان دخول القافلة عند السفح الذي يحضن حصن تازة/البستيون”، مضيفا أن “لنا تفاصيل أخرى مع غياثة وتازة في الحلقة المقبلة”.
هذا نص المقال:
في سياق أنشطة المستكشفين والمغامرين الأوروبيين (وخاصة الفرنسيين) والتي سجلها الباحثون خلال كل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحظيت برعاية الأوساط الاستعمارية (نذكر هنا ثناء أوجين إيتيان Eugéne Etienne حاكم الجزائر المحتلة على أسفار دوزيكونزاك، ودورها الاستخباراتي المهم بالنسبة لتغلغل الجيش الاستعماري شيئا فشيئا داخل التراب المغربي)، خاصة الجهات المهتمة بالغزو العسكري والمسح الإستراتيجي، لما سيشكل في ما بعد مجالات مستعمَرة؛ وعلى رأسها المغرب الذي تضاعفت أطماع الفرنسيين فيه، خاصة بعد احتلال الجزائر سنة 1830.
ويمكن التدليل -في هذا السياق- على ما قدمه العديد من الباحثين والجواسيس والمستكشفين والرحالين من معلومات ثمينة حول قبائل المغرب وحواضره وما تتميز به البلاد مجاليا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا، كمولييراس ودولامارتين ولوشاتولييه وكوسان ولوطورنو وديفيريير مما يشكل إرثا مهما من الناحية التاريخية التوثيقية للفترة نفسها، وخاصة نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ولا بد هنا من الإشارة إلى الأثر الكبير الذي خلفه كتاب “التعرف على المغرب” RECONNAISSANCE AU MAROC للراهب الجاسوس شارل دوفوكو، والاحتفاء المثير الذي قوبل به من لدن عموم الدارسين وهو العمل المؤسِّس الذي صدر سنة 1888، حيث شكل كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين بداية المرحلة العلمية في اكتشاف البلاد خاصة مناطقها الداخلية التي ظلت مجهولة نسبيا، وتغلبت فيها على وجه العموم نزعة مضادة لكل ما هو أجنبي (أوروبي خاصة باعتباره ينتمي إلى الدين النصراني) على خلاف أكثر المناطق الساحلية والمجاورة لها التي تميزت بانفتاح نسبي على الأجانب بحكم موقعها وطبيعتها وبنيتها الاجتماعية والسكانية.
وقد سبق لنا إلقاء بعض الأضواء على رحلة شارل دوفوكو عبر منطقة تازة (الأحواز والمدينة) بين أواخر يوليوز وأوائل غشت 1883. ولعل الرحلة ذاتها قد تكون ألهمت أشخاصا آخرين للقيام بمغامرات مشابهة واستكشاف المناطق المغربية شبه المجهولة مع الاستفادة من معلومات من سبقهم. وبين هؤلاء الماركيز دوزيكونزاك Le Marquis De Segonzac الذي قام بثلاث رحلات استكشافية إلى المغرب، في ما بين أواخر أكتوبر 1899 وغشت 1901، وقد عاش الرجل من 1867 إلى حدود 1962. وهو في الأصل ضابط فرنسي (خريج مدرسة سان سير) علاوة على كونه مستكشفا وكاتبا أيضا، ودون تلك الرحلات بكل موضوعية ودقة ضمن كتابه “أسفار في المغرب” ” VOYAGES AU MAROC “.
تنقلات دوزيكونزاك ببعض مناطق المغرب هي في الواقع عبارة عن ثلاث رحلات كما سبق الذكر، تفصل بينها توقفات قصيرة إما بفاس أو مراكش أو وزان والقصر الكبير. واستهدفت، مثلما كان عليه الحال في رحلة دوفوكو، بعض الجهات المغربية التي ظلت غير معروفة على نحو عام بالنسبة للأوروبيين إلى حدود الفترة المعنية؛ كالأطلسين المتوسط والكبير ومناطق سوس والريف، فقد زار المستكشف والضابط السابق ناحية مراكش في اتجاه الأطلس الكبير، واصفا وبدقة متناهية الأبعاد الجغرافية والطبوغرافية وكذا الخصائص البشرية، مع ما يتبع ذلك من عادات وتقاليد وأعراف ومظاهر عمرانية ورمزية في كل من تارودانت وتيزنيت وأكادير والصويرة ثم عرج شمالا باتجاه الريف مرورا بوزان وفاس ومليلية، واصفا قبائل مقدمة الريف ووسطه. أما بالنسبة للأطلس المتوسط وما جاوره فقد زار حيزه الشرقي، بما في ذلك حوض ملوية الأعلى وناحية فاس وأزرو وتازة، وكان في كل تلك التنقلات يحرص على تفادي الطرق التي سلكها قبله سلفه دوفوكو ويفضل اكتشاف مسالك ونقاط عبور مختلفة، حتى يتأتى له الحصول على معلومات وملاحظات جديدة حول المناطق المعنية. والمعروف أن شارل دوفوكو سافر إلى تازة متنكرا في زي يهودي (صبحة بعض الزطاطة) انطلاقا من فاس عبر طريق إيناون وهو أقصر من طريق الحياينة والتسول ومكناسة؛ غير أنه كان محفوفا بالأخطار. بينما سلك دوزيكونزاك المسار الجنوبي لتازة، بدءا من بويبلان وبوناصر ومرورا بحوض ملوية ثم مغراوة وكلدامان وصولا إلى تازة.
في ما يخص الرحلة الأخيرة أي المتعلقة بالأطلس المتوسط وحوض ملوية الأعلى، فقد عزم دوزيكونزاك عليها وهيأ شروطها وهو في القصر الكبير متوجها نحو فاس ومن ثمة أزرو ثم الجنوب الشرقي للأطلس المتوسط، والذي بدأه اعتبارا من 30 يوليوز 1901 وكانت محطته الأولى بالنسبة لمنطقة تازة جبل بوناصر وما يحاذيه كبويبلان وعلى مسافة معينة جبل أحمر، مسجلا ملاحظات دقيقة من الوجهة التضاريسية والجغرافية ثم البشرية، وكاد أمره أن يفتضح في بداية الرحلة حيث انتشرت شائعة بين الساكنة عن وجود شخص “نصراني” بالقافلة؛ غير أن حضور الشريف الوزاني ضمنها، بل وإشرافه عليها، ساعد في إخفاء صاحبنا وسط الركب والذي لا شك في أنه كان يلتحف بالزي المغربي ويتواصل ما أمكن مع من يعنيه مباشرة؛ الأمر الذي يعكس أهمية عنصر الشرفاء وكذا الزوايا خلال هذه الفترة التاريخية، ونقصد هنا الأدوار المهمة في الوساطات بين القبائل المتنازعة، وتهدئة الأوضاع بينها وبين المخزن والأرباح المادية التي كان يجنيها شريف وزان باعتبار أقساط “الزيارة” والتي تُجمع من كل القبائل عند مرور موكب شريف وزان.
استغرقت رحلة دوزيكونزاك عبر الأطلس المتوسط حوالي أربعة أشهر زار خلالها أجزاء كبيرة منه، أما “بلاد تازا” فقد امتدت الرحلة عبر مجالها من 31 يوليوز إلى 21 غشت أي ما يناهز عشرين يوما، ومن جهة المدينة ذاتها أي تازة فقد حظيت بزيارته اعتبارا من 12 غشت (فالفصل كان صيفا طبعا) إلى غاية 15 منه، وهي المدة نفسها على وجه العموم التي كان يمكث بها الرحالون والمستكشفون الأجانب وحتى نظراؤهم من فقهاء المغرب وعلمائه وحجاجه ورحاليه بمدينة تازة (يمكن الرجوع إلى كتابنا “تازة عبر الرحلات الاستكشافية والحجية / نماذج من العصرين الوسيط والحديث” الصادر عن منشورات مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث ومطبعة الرباط نيت سنة 2021).
كانت أولى محطة في رحلة دوزيكونزاك عبر الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي هي بويبلان ومن ثمة جبل بوناصر الذي يعد أعلى قمة في الأطلس المتوسط حيث يبلغ 3192م، ويعلق الرحالة أن الـ”المحفة” لم تجد عناء كبيرا في صعود السفوح وولوج الطرق أو بالأحرى المسالك المتوجهة نزولا نحو شمال المنطقة؛ ولكن كان من اللازم حفر مسالك أخرى قصد المرور بأمان، تبعا لصعوبة التضاريس، يصف الحيز الخلفي للمشهد بأن السلسلة الوسطى “التي عبرناها تمثل عدة طيات محصورة بين سلسلتي بويبلان من جهة وواريرث من جهة ثانية، يفصل بينهما وادي ملِلو، ومن حيز أبعد نحو الشمال الغربي هناك جبل تازكة وهو ينتهي عند الشمال الشرقي بجبال جلدامان”، والملاحظة الأساس هنا تتمثل في دقة الوصف التي تميز بها دوزيكونزاك عبر رحلته وقد ساقها على شكل يوميات وهو ما يذكرنا أيضا برحلة شارل دوفوكو المقدمة على النسق نفسه أي اليوميات، علما بأن الفترة كانت عصيبة على المغاربة بعد وفاة السلطان الحسن الأول وتولي المولى عبد العزيز العرش وهو صغير السن ثم وفاة با حماد الحاجب والحاكم الفعلي في 13 ماي 1900، مع استفحال التدخلات الاستعمارية وأخطاء وتجاوزات المخزن بمختلف أنواعها، وأبرزها اتفاق باريس الذي بدأ فيه التفريط فعليا في التراب المغربي عبر احتلال تدكيلت وكورارة، مما دفع إلى مظاهر احتجاجية قوية أهمها ثورة الروغي الجيلالي اليوسفي وثورة الرحامنة وكذا الريسوني في الشمال.
نعود إلى مجال تازة، فيضيف دوزيكونزاك في الرصد الدقيق ذاته لتضاريس المنطقة “كل هذه التراتبات الجبلية تمتد بارتياح عبر هضبة كبرى اعتبارا من ملوية وحتى سبو وحيث لا نلحظ سوى اللون الضارب للاصفرار (فصل الصيف ووقت الحصاد)، وبجانب هذه الهضبة تظهر السلسلة الريفية لجبالة (ساكنة الريف الغربي في الأصل ويقصد هنا كلا من التسول والبرانس ومكناسة) تبدو كآثار خطوات كبيرة رمادية، الطريق ليست إلا جملة التواءات صعودا ونزولا، مما يطرح صعوبات جمة أمام القوافل والساكنة هنا تفضل الطريق المؤدي نزولا إلى تازة على الخط المستقيم المتجه نحو فاس عبر زاوية سيدي يحيى بن بكار نظرا لبعد هذا الأخير وصعوبته أيضا. وهكذا اتبعنا -الكلام لدوزيكونزاك- المسار نفسه أي الطريق نحو تازة وأيضا بسبب ثقل حمولة قافلتنا وتعب الدواب التعسة الحاملة لقناني العسل.
نزلنا للإقامة مؤقتا بتاميست وهي فرصة طيبة لاكتشاف حميمية مجموعة بني وراين، رجال ونساء تقاطروا على معسكرنا نلاحظ بهم فضولا وثقة معا إلى شيء من الحذر والألفة أيضا.
رجال بني وراين لهم رؤوس حادة بآذان (جمع أذن) ضخمة وأنوف ممتدة وقوية، اللباس قصير وهم سمر البشرة وأحيانا بلون كستنائي بعيد عن البياض القح، أما النساء فيتميزن بخطوط كبيرة بشعة (الكلام لدوزيكونزاك) يصففن شعورهن على جانبين قصيرين يحيطان بالخدين ويغطينها بثوب مترهل، مما يعطي الانطباع بنوع من التوحش ce qui” leur fait une physionomie très sauvage” حنديرة المرأة الوراينية زرقاء ويُخلط ضمنها اللونان الأسود والأحمر.
هؤلاء السكان الجبليون يمتلكون قطعان ماشية في حالة جيدة وتقوم قبائل هوارة المجاورة باقتناء خرفان وماعز بني وراين، لتبيعه من جديد في مكناسة (المقصود مجال وقبيلة مكناسة شمال تازة وبفرعيها الغربية والشرقية) وتسويقها بوجدة أو في المنطقة الوهرانية بالجزائر، العسل الذي تنتجه خلايا النحل هناك مشهود له بالجودة ويعود ذلك إلى نبات “أزير” الذي يتناوله النحل إياه، فينتج عسلا حرا قحا، وعشبة “أزير” لا تخفى فائدتها ونكهتها وهي تنبت بغزارة في سفوح جبال بني وراين، وهم يمتلكون بعض الخيول والتي تظل عادة في المنبسطات داخل دواوير الرحل، أما المستقرون منهم فيقطنون مساكن ممتدة ذات سقوف مسطحة وهي مثيرة على وجه العموم، ويتجمع السكن أحيانا على أساس قاعدة وحيدة صلبة تمتد خارج بوابة ذلك السكن وهي قادرة على الصمود أمام ثقل الثلوج التي تعرفها مناطقهم، وفي فصل الصيف توظف تلك المساحة كمجال عمومي، التأمت “الجماعة” اليوم هذا المساء عبر أحد تلك الفضاءات بتاميست، حيث جرت نقاشات حيوية مثمرة.
سجل دوزيكونزاك هذه المعلومات المصحوبة بقليل من الانطباعات ضمن يوميته بتاريخ 03 غشت 1901، وكتابه كما ذكرنا آنفا عبارة عن يوميات ينقل فيها كل ما شاهده أو عاينه حتى لتقترب تلك الملاحظات من كاميرا متحركة تسجل كل صغيرة وكبيرة.
يتمثل الهدف من الرحلة خلال هذه المرحلة في زيارة زاوية سيدي مبارك القائمة بجانب واد مللو (وهي محسوبة حاليا على جماعة راس القصر إقليم جرسيف، دائرة جرسيف سابقا)، أي أن القافلة عرجت شرقا قبل أن تتجه نحو الغرب، وقد خيم القوم على هواهم، كانت ساكنة قريتي قمرية ومايشات ينتظرون قافلة الشريف التي تضم دوزيكونزاك متخفيا في صفة تاجر مغربي، وذلك بأحد المسالك المحيطة بجبل أحمر وكان من اللازم طمأنة كلا ساكنتي القريتين وجبر الخواطر مخافة الصدام بينهما بأن وعد الشريف ساكنة قمرية بالتخييم عندهم تلك الليلة (04 غشت 1901) على أن تكون الليلة الموالية من حظ قرية مايشات، ولا تفصل بين القريتين سوى مسافة كيلومترين، وفي المنزل الملاصق لخيمتي، -يضيف دوزيكونزاك- كان هناك أحد أعيان المنطقة وهو يصارع الآلام الرهيبة للمرض حتى خال القوم أنه الاحتضار، بحيث كانت النساء ينتفن شعورهن ويصرخن ويذرفن الدموع ويندبن هذا التعس بأظافرهن على وجوههن، لكن في الصباح أخبرتنا النساء اللائي كن في حالة يرثى لها أن وضعية المريض مستقرة، وأنهن لن يبكين مرة أخرى بعد الأزمة الصحية الثالثة والخطيرة التي هدت جسد الرجل.
هذا التنافس بين قرى المنطقة حول استضافة قافلة الشريف الوزاني جعلت هذه الأخيرة تتردد إلى درجة أن وصف دوزيكونزاك بني وراين بأنهم يبعثون على القبول والاحترام وأنهم مفعمون بالهدوء والحنان، وأكد الشريف أنه سيقيم خيامه بين القرى المتنافسة، ولكن ساكنة المنطقة لم تستوعب هذه الخطوات الدبلوماسية، بالنسبة لهم المنطق بسيط: إما منتصرون أو مهزومون، وبالتالي فإن مبادرات الشريف لم تفرح كل الفرقاء (….) ولذا أمضينا ليلتنا وحدنا دون ضيافة من أي طرف ونحن نعاين المشاهد الأثيرة الساحرة والمتباعدة لبويبلان.
الآن فقط صمتت إحدى القريتين المعنيتين بشكل تام تجاهنا، أما الأخرى فداهمنا رجالها منذ الصباح الباكر من أجل الضيافة وكأن الأمر يتعلق بهجوم كاسح (….)، ويبدو أن هؤلاء (بنو دمال تحديدا) يريدون التكفير عن ذنب البارحة لما دخلوا في صراع مع القرية الأخرى، لولا تدخل الشريف الوزاني، طلبت ماء -والكلام لدوزيكونزاك- فقد استبد بي العطش فأمدني أحدهم بقربته؛ لكن سرعان ما نزعه منها آخر قائلا لي: “سنمدك بماء عذب أحسن من هذا”. أحضرت نساء الدوار صحونا فاتنة مؤثثة بلحوم وشحوم مشوية، لكن شيخهم رد النساء إلى القرية باعتبار “انكشافهن الواضح” ثم كانت صحون “الطعام” أي الكسكس المغربي والمصحوبة بنظيرتها المزدهية بالعسل الشهي، وأخيرا ركام من الفواكه الجافة وأبرزها الجوز أي “الكركاع” الذي كان القوم يكسرون قشرته بواسطة أسنانهم الصلبة وسط دهشتنا الكبيرة.
بعد هذه الضيافة الكريمة أخذنا الطريق من جديد، التمس بنو دمال من الشريف أن يعبر قريتهم تيمنا وتبركا به، ففعلنا واجتزنا طرق القرية المسننة وسط تحوطين للرجال والنساء والأطفال الذين كانوا يودعوننا ويصفقون تثمينا للقافلة المباركة وهم يرددون عبارة “الله يطول في عمر سيدي” وهم يقصدون شريف وزان بالطبع مثلما كانت العبارة نفسها يمدح بها سلطان البلاد .
الرجال قذرون (sales) -والكلام دائما لدوزيكونزاك- ويشبهون جيرانهم في قرية تاميست والنساء محجبات مثلما هو الحال في البلاد العربية، وهذا الإتيكيت تم نسيانه نوعا ما؛ لأننا شاهدنا بعض الفتيات الجميلات مع النساء العواجز، أما الفتيات الصغيرات فهن جذابات والأطفال الذكور يبدون بعض البغضاء عموما وعما قريب ستصبح تلك الفتيات نساء مكافحات أما الذكور فسيغدون رجالا يتميزون بالقوة والصلابة.
واد أصاكا قادنا نحو قرية سميو حيث السفوح الأخيرة من السلسلة الوسطى عبر هضبة طينية موحلة، وهناك تلتقي أودية عديدة: واد أصاكا واد حميديت وواد البارد وواد السخون كلها تلتقي عند واد مللو هذا الأخير يتميز ببطء مياهه ولونها الصافي، حينما تجري بين أقدامنا وهو بعرض ما يناهز ستين مترا، سرعان ما يتيه على سرير من كيلومترين عرضا، وتوجد القرى والحدائق على مبعدة معينة من ضفافه، لأنه يتحول مع ذوبان الثلوج إلى سيل عارم يملأ الضفاف والسرير معا مخلفا طميا رماديا ولا تنبت به سوى بعض مساحات الذرة ونبات الدخن (يسمى بالعامية “يِلان” وهو نوع من الحبوب يؤكل ويستعمل في جبر الكسور خاصة) وهي المحاصيل التي تحصد بين الربيع والصيف من كل سنة وهي من أبرز ميزات هذا الواد.
يصب واد زبزيت هو الآخر في واد مللو وسط الحدائق المملوكة لبلفرحة المعروفين بغناهم في المنطقة، وسرعة تحصيل منتوجات بساتينهم، من مسافة أبعد يتقلص حجم الوادي ويتضاعف صبيب وتدفق واد مللو بتناغم مع شكله الانسيابي ولا يتأخر في سقي حقول الذرة، كل ذلك وهو محتفظ بقوته وعنفوان مياهه أي دون أي ضعف مهما كان، يتدفق على نحو مستقيم في الهضبة الصحراوية والتي لا تنال منه شيئا (في ذلك الوقت طبعا) وحتى جرسيف عند هوارة حيث يصب بدوره في ملوية. ونشير إلى أن اسم جرسيف ذاته (أجرسيف) يدل على الأرض وسط مياه الأنهار، واضح أن الوادين معا (ملوية ومللو) يلتقيان في المدينة نفسها.
طلبنا ضيف الله من زاوية سيدي مبارك والتي تشرف عليها أسرة عربية صالحة، عند الضفة اليسرى لواد مللو.
ضمن يومية 08 غشت 1901، يذكر دوزيكونزاك أنه عبر وضعية ركوبهم على الخيول، سمع صوتا منذرا بشيء ما يثير الريبة. وفي رمشة عين تسارع الرجال باتجاه أحد السفوح حيث يبدو حائك أبيض، وتهيأ الفرسان لإطلاق البارود المحضر مسبقا من أجل “التبوريدة” كان يبدو عليهم القلق الجدي فارتدوا سلاهمهم فورا. وبلغنا إذ ذاك أن جزءا من غياثة اقتحم الناحية للهجوم على إحدى عرصات المنطقة، لا يبدو أن ساكنة الهضبة تملك أية شفقة تجاه بني بوناصر وبني إيلون. غياثة يعدون جيرانا سيئين (de mauvais voisins) لصوص مشهورون (والكلام لدوزيكونزاك دائما)؛ فالقوافل المحملة بالعسل لا تغامر عبر أراضيهم إلا في حراسة زطاط، ومع ذلك فالأمر غير مضمون أمنيا.
طريقنا يدور حول الرأس الصخري لجبل واريرت والذي يتقدم الهضبة فارعا ومائلا كنتوء صخري منظره يبدو عنيفا حادا كأسنان المنشار، يرتفع النتوء فجأة فيما يقارب ألفي متر من العلو وهو ينهي بذلك خطا جبليا دائريا يبدو هادئا ويقسمه واد السخون عند تيزي أيت مو.
هذا المنحنى يبدو متراجعا أمام تجمع صخري قاس وتمتد عبره مساحات من الكلس (Calcaire) وحتى جبال الريف التي تبدو قريبة، المطب هو نفسه خط تقسيم المياه بين حوضي ملوية وسبو، فعلى اليمين (اتجاه الشرق) تتجه المجاري المائية إلى مللو، في حين تتجه يسارا (الغرب) نحو إناون.
وهذه الإشارة الأخيرة من تعد من أدق وأبرع ملاحظات دوزيكونزاك ذات الطابع التضاريسي والجغرافي والهيدرولوجي (المائي).
على حافة (crête) هذا التموج التضاريسي يمكن معاينة القبة البيضاء للولي الصالح سيدي سعادة، وفي سفحه عند نهاية التل من جهة الشرق، ترتفع قصبة مسون. هذا المنعطف المجالي يمثل أيضا الحدود بين بني وراين وغياثة.
كان في انتظارنا عند الولي الصالح سيدي عبد الله (يوجد شرق الجماعة القروية لكلدامان) حوالي عشرين من خيالة غياثة، البنادق في الأيدي، من أجل أن يصحبونا إلى مركز كلدامان المعقل الأساس لغياثة.
من قلب تلك القبيلة سيتجه نحو مدينة تازة واصفا المجال الجغرافي ثم البشري وصولا إلى الحاضرة من جهة الجنوب الشرقي، وبالضبط كان دخول القافلة عند السفح الذي يحضن حصن تازة / البستيون.. ولنا تفاصيل أخرى مع غياثة وتازة في الحلقة المقبلة، إن شاء الله.