أوضح فؤاد بنصغير، أستاذ جامعي ومستشار في القانون الإلكتروني، أنه “مع التطور الكبير الذي عرفته تكنولوجيات الإعلام والاتصالات والاستخدام المتزايد للأجهزة المتنقلة أصبحت العديد من المعاملات الإلكترونية تهم اليوم الأفلام والموسيقى وألعاب الفيديو والبرمجيات وقواعد البيانات والتطبيقات والكتب الرقمية… وفي هذا النوع من العقود يجد المستهلك نفسه في حالة ضعف مزدوج، أولا لأن العقد يتم إبرامه عن بعد وعن طريق إلكتروني، وثانيا لأن العقد يتعلق بمحتوى رقمي”.
وقارب بنصغير، في مقال له، موضوع “حماية مستهلك المحتويات الرقمية” انطلاقا من عدة محاور، من بينها “ماهية المحتوى الرقمي”، و”مفهوم تقديم المحتوى الرقمي”، و”أنواع المحتوى الرقمي”، و”عقود المحتوى الرقمي على دعامة مادية”، و”عقود المحتوى الرقمي على الخط”، و”تعزيز التزام موردي السلع والخدمات ذات المحتوى الرقمي بالإعلام”، و”معلومات عن وظائف المحتوى الرقمي”، و”معلومات عن قابلية المحتوى الرقمي للتشغيل البيني”، و”تعديل الحق في تراجع المستهلك عن إبرام عقود المحتوى الرقمي”.
هذا نص المقال:
مع التطور الكبير الذي عرفته تكنولوجيات الإعلام والاتصالات والإستخدام المتزايد للأجهزة المتنقلة (الهواتف الذكية، اللوائح الإلكترونية…) أصبحت العديد من المعاملات الإلكترونية تهم اليوم الأفلام والموسيقى وألعاب الفيديو والبرمجيات وقواعد البيانات والتطبيقات والكتب الرقمية وغيرها.
في هذا النوع من العقود يجد المستهلك نفسه في حالة ضعف مزدوج: أولا لأن العقد يتم إبرامه عن بعد وعن طريق إلكتروني، وثانيا لأن العقد يتعلق بمحتوى رقمي.
فمن جهة، يكون المستهلك في العقود عن بعد، المبرمة عن طريق إلكتروني، في حالة ضعف مقارنة بالمهني، لعدم درايته في غالبية الأحيان بميدان المعلومياتية التي يرتكز عليها هذا النوع من العقود.
ومن جهة أخرى، فإن المحتوى الرقمي يتميز بعناصر ذات طبيعة تقنية (مرتبطة بالخصوص بوظائف وقابلية المحتوى الرقمي للتشغيل البيني مع عناصر أخرى مادية أو برمجية)، والتي لا يتحكم فيها المستهلك العادي.
لذلك كان لا بد من وضع آليات حماية إضافية خاصة تأخذ بعين الاعتبار هذا النوع المستحدث من العقود لحماية هذا النوع الجديد من المستهلكين.
فإلى أي مدى راعت الآلیات التي أقرتها أحكام القانون 08-31 المتعلق بحماية المستهلك خصوصیة الحمایة التي يحتاجها مستهلك السلع والخدمات ذات المحتوى الرقمي؟
للأسف، القانون 08-31 المتعلق بحماية المستهلك في المغرب لم يستحضر مشرعوه حتى حماية المستهلك الإلكتروني الذي يتعاقد عن بعد في مجال المحتويات التقليدية، فما بالك باستحضار حماية المستهلك الإلكتروني للمحتويات الرقمية.
في هذه المقالة سنتطرق إلى أهم القواعد والآليات التي وضعها المشرع المقارن من أجل حماية المستهلك في عقود تقديم المحتويات والخدمات الرقمية لتكون نبراسا يهتدي به المشرع المغربي عندما يقرر حماية هذا النوع من المستهلكين الذين بدأ عددهم يزداد بشكل كبير.
أولا: ماهية المحتوى الرقمي
سنتطرق اتباعا إلى مفهوم “تقديم المحتوى الرقمي”، ثم إلى أنواع هذا النوع من المحتوى.
أ- مفهوم تقديم المحتوى الرقمي
من أجل فهم جيد لموضوع الحماية سنقوم بتعريف مصطلح “تقديم”، وبعد ذلك تعريف مفهوم “محتوى رقمي”.
1- معنى “تقديم”
عرف المشرعان المقارنان الفرنسي والبلجيكي وقبلهما الأوروبي مفهوم “تقديم” بأنه “تمكين الغير من الوصول إلى محتوى رقمي أو إتاحته”.
2- مفهوم “المحتوى الرقمي”
يتعلق الأمر بصفة عامة بنص أو صوت أو صورة أو شريط فيديو أو برمجية يمكن قراءتها عن طريق جهاز حاسوب أو هاتف متنقل.
وقد عرف المشرع المقارن مفهوم “المحتوى الرقمي” بأنه “البيانات التي يتم إنتاجها وتقديمها في شكل رقمي”.
ويستهدف المشرع من وراء ذلك البرامج المعلومياتية (programmes informatiques les) أو التطبيقات (les applications) أو الموسيقى (la musique) أو شرائط الفيديو (les vidéos) أو النصوص (les textes) أو الوصول إلى البيانات عبر التحميل أو الستريمين (l’accès à ces données ait lieu au moyen du téléchargement ou du streaming) من خلال دعامة مادية (support matériel) أو أي وسيلة أخرى.
ب- أنواع المحتوى الرقمي
بحسب طريقة تنفيذ العقد المتعلق بالمحتوى الرقمي، يمكن التمييز بين المحتوى الرقمي الذي يتم تقديمه على دعامة مادية (Support matériel) والمحتوى الرقمي الذي يتم تقديمه على الخط (en ligne).
1- عقود المحتوى الرقمي على دعامة مادية
المحتوى الرقمي قد يتم تقديمه على دعامة مادية مثل القرص المدمج (DVD) أو القرص المرن (cd ROM) أو غيرهما من الدعامات الإلكترونية المادية.
2- عقود المحتوى الرقمي على الخط
المحتوى الرقمي قد يتم تقديمه كذلك استقلالا عن هكذا دعامة، مثلا عن طريق التحميل (téléchargement) أو عن طريق الستريمين (streaming).
المشرع المقارن على هدى الفقه المقارن اعتبر تقديم الخدمات الرقمية بأنها عقد بيع سلعة إذا تم تقديمه على دعامة مادية أو عقد تقديم خدمة إذا تم تقديمه على الخط.
إن التمييز بين المحتوى الرقمي الذي يتم تقديمه على دعامة مادية (Support matériel) والمحتوى الرقمي الذي يتم تقديمه على الخط (en ligne) يساعد على فهم المقتضيات القانونية التي تحمي المستهلك في العقود المتعلقة بالمحتويات الرقمية والتي ميزت بين هذين النوعين.
ثانيا: حماية مستهلك المحتوى الرقمي
بالنظر إلى التحديات التي تطرحها المحتويات الرقمية، خاصة فيما يتعلق بحماية المستهلك، تدخل المشرع المقارن من أجل تأطير عقود تقديم السلع والخدمات ذات المحتوى الرقمي.
ويتعلق التشريع في هذا المجال بأمرين هما: تعزيز (بالمقارنة مع الالتزام بالإعلام الذي يخص السلع والخدمات غير الرقمية) التزام مقدمي هذا النوع من السلع والخدمات بإعلام المستهلك، وتعديل (مرة أخرى بالمقارنة مع الحق في التراجع الذي يخص السلع والخدمات غير الرقمية) الحق في تراجع المستهلك عن إبرام عقود من هذا النوع.
أ- تعزيز التزام موردي السلع والخدمات ذات المحتوى الرقمي بالإعلام
فرض المشرع المقارن على مقدم المحتويات/ الخدمات الرقمية مجموعة من الالتزامات، لعل أهمها الالتزام ما قبل التعاقدي بالإعلام.
فعندما يكون موضوع العقد المبرم عن بعد عبارة عن محتوى رقمي، يتعين على المهني، بالإضافة إلى المعلومات التي ألزمه بها المشرع فيما يتعلق بالمحتويات غير الرقمية، تقديم معطيات خاصة (Spécifiques) إلى المستهلك.
وتتعلق هذه المعلومات الخاصة، من جهة، بوظائف المحتوى الرقمي (les fonctionnalités du contenu numérique)، ومن جهة أخرى بقابلية التشغيل البيني للمحتوى الرقمي (l’interopérabilité du contenu numérique).
1- معلومات عن وظائف المحتوى الرقمي
حسب المحتوى الرقمي المعني بالأمر، فإن الوظائف قد تستهدف الطريقة التي يتم بها تقديمه إلى المستهلك (عن طريق التحميل أو عن طريق الستريمين) أو المدة (بالنسبة للأفلام مثلا) أو الحجم (ملفات البيانات مثلا)…
2- معلومات عن قابلية المحتوى الرقمي للتشغيل البيني
يتعلق الأمر بقابلية المحتوى الرقمي للتشغيل البيني مع بعض الأجهزة أو البرمجيات التي يستخدمها المستهلك عند استهلاكه المحتوى الرقمي.
والمستهدف في هذا الشأن المعلومات التي يتعين تقديمها للمستهلك فيما يتعلق بالتوافق (la compatibilité) بين التطبيقات والبرامج المستخدمة وضرورة استخدام هذا التطبيق أو ذاك أو هذا البرنامج أو ذاك.
ب- تعديل الحق في تراجع المستهلك عن إبرام عقود المحتوى الرقمي
من جهة أخرى، منح المشرع المقارن مستهلك المحتويات/ الخدمات الرقمية مجموعة من الحقوق، لعل أهمها الحق في التراجع عن إبرام هكذا عقود.
وفي هذا الشأن ميز المشرع بين المحتوى الرقمي الذي يتم تقديمه على دعامة مادية والمحتوى الرقمي الذي يتم تقديمه على الخط.
1- منح الحق في التراجع ما لم يتم البدء في تنفيذ العقد
منح المشرع المستهلك في عقود المحتويات الرقمية الحق في التراجع عن إبرام العقد ما لم يبدأ في تنفيذ العقد.
بالنسبة للمحتويات التي لا يتم تقديدمها على دعامة مادية، فإن هذه المدة تبدأ في السريان من اليوم الذي تم فيه إبرام العقد.
أما بالنسبة للمحتوى الذي يتم تقديمه على دعامة مادية، فإن هذا المحتوى يعتبره المشرع سلعة.
في هذه الحالة، تبدأ مدة التراجع في الوقت الذي يحوز فيه المستهلك ماديا (physiquement) المحتوى الرقمي.
2- غياب الحق في التراجع عندما يتم البدء في تنفيذ العقد
عندما يبدأ المستهلك في تنفيذ العقد، فإن المشرع فضل مصلحة المهني وقام بحرمان المستهلك من حقه في التراجع عن إبرام العقد.
ويعود ذلك إلى أنه من الصعوبة بمكان تحقق عملیة إرجاع الخدمة الرقمیة، خاصة في حال ما استفاد منها المستهلك مثلا عن طریق التحمیل “téléchargement” قبل تقریره الرجوع عنها.
خاتمة:
تتميز العقود التي تتعلق بالسلع والخدمات ذات المحتوى الرقمي بخاصيات تجعل مستهلك هذا النوع من السلع والخدمات في وضع يفوق هشاشة وضعه عند استهلاكه سلعا أو خدمات من النوع التقليدي.
لذلك يتعين على المشرع المغربي وضع قواعد خاصة بهذا النوع من العقود من شأنها حماية مستهلكي هذه المحتويات عن طريق تعديل القانون 08-31 أو من الأفضل عن طريق نص قانوني خاص يحمي هذا النوع الخاص من المستهلكين في هذا النوع الخاص من العقود عن بعد.