انتقاد لمضامين سلسلة كتبها الأكاديمي عبد العلي الودغيري حول كاتب ياسين وقولته واسعة الانتشار “الفرنسية غنيمة حرب”، حضر في مقال طويل خطّه الباحث محمد بودهان.
ونفى بودهان صحة قول الودغيري في نقده لموقف كاتب ياسين من اللغة الفرنسية “أن هذا الأخير (…) ليس هو من غنم اللغة الفرنسية (…) بل هي التي غنمته عندما أصبح كاتبا بها وخادما لها، مجنّدا لديها لمحاربة العربية والإسلام، كما كانت تريد وتفعل فرنسا الاستعمارية نفسها في الجزائر”، وأضاف: “إذا كان صحيحا ـ وهو ليس كذلك ـ أن اللغة الفرنسية جعلت (…) من ياسين خادما لهذه اللغة، مواليا لها ومدافعا عنها، فسيكون تصرّفه لا يختلف عما يفعله السيد الودغيري نفسه عندما جعلت منه اللغة العربية خادما لها، ومدافعا شرسا عنها، ولهانا بها وعاشقا لها”.
وتابع الكاتب: “الفرنسية لم تجعل ياسين يدّعي أنه فرنسي”، و”إذا كان صحيحا أيضا ـ وهو ليس كذلك ـ أن كاتب ياسين كان يناوئ العربية خدمة منه للفرنسية، فسيكون تصرّفه لا يختلف عما يفعله السيد الودغيري نفسه عندما يناوئ الأمازيغية والدارجة خدمة للعربية حتى لا يكون لها منافس ضمن اللغات الوطنية”.
ثم استرسل شارحا: “لكن ياسين كان يرفض العربية باعتباره جزائريا يدافع عن لغة الشعب الجزائري، التي هي الأمازيغية والدارجة، وليس لأنه “فرنسي” يدافع عن اللغة الفرنسية للشعب الفرنسي الجزائري. أما السيد الودغيري، وغيره من التعريبيين، فهم يدافعون عن العربية كلغة للشعب العربي، المغربي والجزائري، مستعملين اللغة العربية كأداة للتعريب القومي والهوياتي، والتحويل الجنسي للمغاربة والجزائريين من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي”.
وزاد: “كاتب ياسين لم يكن يستعمل الفرنسية ليحوّل الشعب الجزائري إلى شعب فرنسي، بل استعملها لغاية شرحها بدقة ووضوح عندما قال وهو يعترف بأنها لغة استعمارية: (الفرنكوفونية آلة سياسية للاستعمار الجديد، التي تديم استلابنا. ولكن استعمال اللغة الفرنسية لا يعني أننا عملاء لقوة أجنبية. فأنا أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين بأنني لست فرنسيا)”، ثم استدرك بودهان قائلا: “أما أنتم، التعريبيين، فتستعملون العربية لتقولوا للعرب الحقيقيين بأنكم عرب مثلهم، منتظرين منهم مكافأة على تخلّصكم من “بربريتكم” وهويتكم الحقيقية والأصلية. لكن هؤلاء العرب الحقيقيين يردّون عليكم بأنكم مجرد عرب مزوَّرين ومزوِّرين، تنتحلون الصفة وتمارسون الزيف”.
هذا، بالنسبة للباحث، الفرق بين فئة أسماها “التعريبيين” وبين كاتب ياسين؛ لأن هذا الأخير “يوظّف الفرنسية ليثبت بها هويته الأمازيغية الإفريقية ويدافع عنها تجاه فرنسا التي كانت تسعى إلى ابتلاعها وتذويبها في انتمائها الفرنسي. أما أنتم أيها التعريبيون، وعلى رأسكم الأستاذ الودغيري، فتوظّفون العربية للقضاء على الهوية الأمازيغية الإفريقية للمغاربة والجزائريين، ولإلحاقهم بهوية عربية مزوَّرة ومنتحلة”.
ثم أردف قائلا: “لهذا، فعندما يقول كاتب ياسين بأن الفرنسية هي بمثابة غنيمة حرب، فهو يقصد أنه بفضل هذه اللغة تكوّن لديه الوعي الهوياتي بانتمائه الأمازيغي الأصلي، وأدرك أنه ليس فرنسيا ولا عربيا. فلولا اللغة الفرنسية لاستمر يعتبر نفسه “عربيا” كما كان يعتقد لكونه ينتمي إلى أسرة عربوفونية حيث كان معيار التمييز بين “العربي” والأمازيغي هو معيار اللغة، كما هو الحال عندنا بالمغرب. أما اللغة العربية فهي، بخصوص العلاقة بالوعي الهوياتي، وعلى عكس الفرنسية، تزيّف هذا الوعي بجعل صاحبه يعتقد أنه “عربي”، وأن من واجبه محاربة الأمازيغية حتى لا تشوّش على وعيه الهوياتي العربي الزائف”.
وتعليقا على ما كتبه الأكاديمي الودغيري حول موت كاتب ياسين “على شهادة: (أنا لست عربياً ولا مسلماً، أنا جزائري)”، قال بودهان: “حتى إذا كان ذلك صحيحا، فسيكون سبب هذه “الحرب” هو أن اللغة العربية وثقافتها تُستعملان بشمال إفريقيا للقضاء على الأمازيغية كهوية جماعية لشعوب هذه المنطقة. فهو لم يكن يحاربهما كلغة وكثقافة، وإنما كان يحارب استعمالاتهما لمحاربة الهوية الجماعية الأصلية لبلدان شمال إفريقيا”، فتعبيره ذاك إذن “تعبير عن الوعي الهوياتي السليم، إدراكا منه أن هويته لا تتحدّد بالدين ولا بالعروبة وإنما بالانتماء إلى الأرض الجزائرية التي هي أرض أمازيغية إفريقية. وهذا ما توصّل إليه بفضل اللغة الفرنسية التي وعى بها هويته وتاريخه الحقيقيين، وليس الإيديولوجييْن اللذيْن ينشرهما التعريب وأداته التي هي اللغة العربية، دون أن يعني ذلك أنه كان يدافع عن فرنسة الجزائر”.
وسجل محمد بودهان أن من أسماهم “التعريبيين” يستحضرون “التحذير من التفرقة والدعوة إلى الوحدة بشكل هوسي كلما تعلّق الأمر بحق الأمازيغية في تأهيلها لتكون لغة تعليم وإدارة وقضاء”، وكأن “مصدر كل ما يعيشه ما يسمى بالعالم العربي من تشرذم وانقسام ونزاعات هو الأمازيغية”، وواصل مدافعا عن فكرته: لقد وصف كاتب ياسين (…) الذين يرفضون الأمازيغية بدعوى تهديد الوحدة الوطنية، بمدمري الوحدة (…) قائلا «على أي أساس يريدون أن نتحد ونبني هذه الوحدة، على أساس الكذب وتزوير التاريخ؟””.
وكتب بودهان أن “أصدق ما جاء في مقال الأستاذ الودغيري هو قوله، بخصوص الجزائر، وهو ما يصدق طبعا على المغرب أيضا: «ولم يكن أحد قبل عصر الاحتلال الفرنسي، ينسب شيئًا منه إلى العرب وحدهم أو إلى الأمازيغ وحدهم، وإنما يُنسَب إلى البلاد التي توحِّدهم»”، بمعنى أنه “لم يعد الإسلام هو الذي يوحّد الشعوب، وإنما الأرض التي تنتمي إليها هذه الشعوب؛ لكن الأهم من هذا هو أن هذه الأرض هي مصدر الهوية الجماعية لتلك الشعوب، بغض النظر عن أصولها العرقية، أمازيغية، كانت أو عربية. وإذا عرفنا أن هذه الأرض هي أرض أمازيغية، أي “بلاد البربر”، كما تقول كتب التاريخ العربية، فإن هذه الهوية الجماعية لشعوب هذه البلدان هي أمازيغية”.
ثم استرسل قائلا: “أما الجانب الأقوى والأكثر دلالة في كلام الأستاذ الودغيري، فهو تأكيده أن لا أحد قبل الاحتلال الفرنسي كان ينسب نفسه إلى العرب أو الأمازيغ، بل فقط إلى الأرض. إذن، إذا لم يكن هناك انتماء عربي خالص ولا انتماء أمازيغي خالص للمغرب والجزائر قبل الاحتلال الفرنسي، فكيف تحوّل هذان البلدان، بعد هذا الاحتلال، إلى “مغرب عربي”، وليس مغرب أمازيغي ولا أمازيغي عربي إذا افترضنا وجود هذين العنصرين الاثنين جنبا إلى جنب؟”.
وكتب بودهان أن الاحتلال الفرنسي ركّز مجهوده “على التعريب السياسي الذي أصبحت بموجبه الدولة المغربية عربية، مع ما ينتج عن ذلك من تعريب للمغرب كله كبلد عربي، وهو ما يعبّر عنه مصطلح “المغرب العربي” الذي بدأ استعماله في أربعينيات القرن الماضي، والذي ابتكره مغاربيون بعد أن كان التعريب السياسي الذي قامت به فرنسا قد أعطى أكله وثماره”، وفق قراءته.
وشدد بودهان على أن “اللغة العربية لم تحاربها فرنسا (…) بل حافظت عليها وجعلت منها لغة تنشر بها القوانين والظهائر والمراسيم في الجريدة الرسمية بجانب الفرنسية؛ مما أعطاها، ولأول مرة في التاريخ، وضع لغة رسمية بالمفهوم القانوني”، ويعبر عن رؤية أن هذه الصيانة تمت “لأن العربية هي اللغة الوحيدة التي تسمح للفرنسية أن تهيمن وتسود لكونها (العربية) لغة نصف ميتة أو نصف حية تستعمل في الكتابة فقط وليس في التداول اليومي (…) مما يجعلها غير قادرة على منافسة الفرنسية، عكس الأمازيغية والدارجة، اللتيْن تستطيعان في مدة ربع قرن إزاحة الفرنسية من عرشها بالمغرب إذا توفّرت الإرادة السياسية للنهوض بهما، وذلك بتأهيلهما المدرسي والارتقاء بهما إلى مستوى لغتين للكتابة والتدريس”.
ثم زاد: “هيمنة الفرنسية بالمغرب هي جزء من سياسة التعريب؛ لأن هيمنة الفرنسية تتوقّف على بقاء العربية كلغة نصف حية، لا يمكنها أن تهدّد ولا أن تنافس الفرنسية كلغة حية”.
وقال بودهان في ختام مقاله مفسرا “الاهتمام الاستثنائي بكاتب ياسين”؛ إنه “لم يأت إلى الأمازيغية من الأمازيغية كمولود معمري، أو علي صدقي أزايكو، أو أحمد عصيد أو محمد الشامي، أو حسن بنعقية… فهؤلاء، إذا كانوا مناضلين في سبيل الأمازيغية، فذلك قد يبدو شيئا طبيعيا لأنهم أصلا أمازيغيون وناطقون بالأمازيغية. أما كاتب ياسين فجاء إلى الأمازيغية من العروبة التي كان يعتقد أنه ينتمي إليها باعتباره “عربيا” يتحدّث اللغة العربية (الدارجة) لأسرته “العربية”. وقد غرست فيه مبكرا هذه البيئة “العربية” التي عاش فيها طفولته، كراهيته واحتقاره لكل ما هو أمازيغي”.
وتابع: “كان من المنتظر إذن، اعتبارا للمحيط “العربي” الأمازيغوفوبي الذي عاش فيه كاتب ياسين، أن يكون إنسانا “عربيا” ينظر إلى الأمازيغية باستعلاء عرقي عروبي ويحتقرها كلهجة متخلفة خاصة بـ”البربر” “المتخلفين”، الذين لا ينتمي إليهم لأنه من أصل “عربي”. لكن على العكس من ذلك سيصبح واحدا من أشد المدافعين عن الأمازيغية، وأشرس المعادين للنزعة العروبية التي ظل يعتبرها دائما، في كل كتاباته وخطاباته ومواقفه، غزوا واستعمارا واستلابا من النوع الأسوأ والأردأ”.
ثم ختم بودهان مقاله بقول: “هذا الوعي الهوياتي الأمازيغي المبكّر والمتقدّم هو ما يفسّر أنه سمى ابنه “أمازيغ” في 1972، أي في وقت لم تكن الأسماء الأمازيغية متداولة (…) كان كاتب ياسين إذن متقدما عن عصره وسابقا لزمانه فيما يتعلق بالوعي بالهوية الأمازيغية كهوية جماعية لبلدان شمال إفريقيا. هذا الموقف لا يزعج فقط المثقفين التعريبيين؛ بل قد يخجلهم عندما يلاحظون أن مثقفا “عربيا” استطاع التخلّص من الوعي الهوياتي الزائف واعتناق الوعي الهوياتي السليم في سبعينيات القرن الماضي”.