يحكى أن أحد المتقاضين أحضر في مجلس عمر بن الخطاب شاهدا له، فقال عمر لهذا الأخير: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ فقال: لا. هل سبق أن تعاملت معه بالدرهم والدينار اللذين بهما يعرف ورع الرجال؟ فقال: لا. هل سافرت معه فتعرف أخلاقه؟ فقال: لا. فالتفت إلى المتقاضي قائلا: اذهب وأحضر من يعرفك، فهذا الشخص لا يعرفك. فالسفر إذن، فرصة للاطلاع عن كثب عما زرعناه من قيم، والتعرف عن قرب عما يصدر عن الأبناء من سلوكيات في المواقف المختلفة، قاصدين تخليتهم من الدنيء منها، وتحليتهم بالسوي والمحمود منها.
السفر مجال تربوي يسد ما لا يسده الفصل الدراسي:
فهذه الواقعة من تراثنا الثقافي، تكشف مدى وعي القدامى، بأهمية الوضعيات المعيشية في تعزيز مكتسبات المرء الأخلاقية والمعرفية وتقويمها، ولا يبعد عنهما المهارية. فكل الممارسات التربوية هدفها: تأهيل الفرد للحياة. ولا يتحقق هذا التأهيل على أكمل وجه، إلا بالحياة. وتحاول البيداغوجيات الحديثة أن تجعل الفصل الدراسي صورة صغيرة للمجتمع الكبير. مع الانفتاح على هذا الأخير في إطار الخرجات الدراسية، والرحلات الترفيهية، كأسلوب تشتغل به المؤسسات الحديثة، لتقريب الوضعيات المجتمعية المختلفة عيانا ومعيشا، ووضعها موضع الدرس، والتعامل معها استثمارا لمنظومة القيم المكتسبة صفيا، واكتسابا لأخرى يضيق الفصل الدراسي لبثها في وجدان الناشئة. ففي هذه السياقات الفكرية والاجتماعية، يأتي دور الأسرة كفاعل أساسي في التنشئة الاجتماعية، لتساهم في البناء المعرفي والتكوين النفسي لأبنائها، حين تستغل فرصة العطلة لمصاحبتهم أطول مدة ممكنة في خرجات محلية، أو في إطار السفر لتقويم سلوكيات الطفل، ومساعدته على تعديلها وتعزيز ما يبدو مكتمل النضج. في الفضاء العام بمختلف تجلياته وتفاعلاته. عوض الركون إلى التلقين اللفظي من طرف الراشدين آباء كانوا أو مدرسين. وحتى لا نجعل الوضعيات الاجتماعية والثقافية غارقة في التجريد، يسبح معها خيال الطفل كأنها قضايا الميتافزيقية.
لهذه الاعتبارات، كانت الحياة مدرسة مفتوحة، وكتابا يستحق بذل الجهد لاستكناه مضامينه واستيعابها، و”ربطها بالتجربة الحسية” التي تحدث عنها جون لوك. بهذا تغدو الحياة مختبرا حقيقيا يتفاعل معه الأطفال حسيا، تحت أنظار الراشدين وبتوجيه منهم. فاغتنام السفر والتخطيط له، ليس فقط لتزجية الوقت، وتحقيق المتعة بتغيير الأماكن وهو شيء مطلوب ومرغوب، بل نجعل فيه نصيبا، لاستكمال تربية الناشئة وتكوينها في الجوانب التي تعذر على المدرسة الإحاطة بها، وليس بالمقدور إنجازها ونحن قابعون في محل إقامتنا. كزيارة المتاحف والمآثر التاريخية، باعتبارها جسر عبور حي إلى الماضي، وربطا للأجيال بتاريخها. ومثله اغتنام فرصة تواجدنا بمناطق خارج نفوذ إقامتنا، للاطلاع على ما تزخر به من موارد طبيعية ومعطيات ثقافية، بزيارة المعارض المقامة، وحضور المهرجانات الثقافية التي تتنوع بتنوع جغرافية المكان، وامتداده في الزمان وما تحقق فيه من إنجازات. وذلك من شأنه أن يساعد الفتاة والفتى على التموقع بشكل أدق ضمن خريطة بلاده، والتي هي غاية تربوية وحاجة إنسانية.
السفر تمرين اجتماعي وتدبير مالي:
ويعد السفر المجال الأرحب لاستثمار المكتسبات العلائقية والقيم الثقافية. حيث يلتقي الإنسان بمن يعرف ومن لا يعرف، فبقياس مدى انفتاحه على الأفكار والآراء، وتعاطيه مع المختلف عنه بيئة وتنشئة، يبرز تسامحه فيتقوى، أو تعصبه فيقوم. وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالمقيمين أو العابرين من جنسيات مختلفة، كما هو الشأن مع سكان جنوب الصحراء الذين هم في أمس الحاجة إلى تضامننا وحسن ضيافتنا. فالوضعيات الاجتماعية الحية، كفيلة بأن تغني معرفة الفرد بالآخر، في زمن طغت فيه العلائق الاجتماعية الافتراضية الغنية بالمجاملات والمظاهر الاستعراضية الخادعة في الكثير من الحالات. المُفضية إلى التعلق بنماذج غريبة عن ثقافتنا، الدافعة إلى الانسلاخ عن قيمنا، ورافعة من منسوب الغرور والتباهي، أكثر من التواضع وحب المعرفة ونسج العلاقات بالدافع الإنساني المحض.
والسفر بالإضافة إلى هذا وذاك، يمنح الأبوين الفرصة لتدريب الأبناء على التدبير المالي، الذي بغيابه يفلس الأفراد كما الدول، ويسقط الجميع في شرنقة الديون وذلها. فالتخطيط للسفر، هو تخطيط وتدبير لغلاف مالي، مفروض فيه تغطية نفقات مدة زمنية محددة، وهذا يحتاج إلى تدريب وتمرين عملي، يعزز النظري ويغنيه. فقرب الوالدين من الأبناء طيلة مدة السفر، تجعلهم قريبين من الاطلاع على الكيفية التي تدبر بها الأسرة إمكانياتها المالية، وأوجه الإنفاق وأولوياته. والتمرين المالي يكون أقوى في حالة سفر الأبناء دون أوليائهم، حيث يتحملون مسؤولية قضاء مدة محددة بميزانية محددة. فالفشل كما النجاح في ذلك له عبره ودروسه ينبغي استثمارها في القادم من الأيام، تفاديا للإفلاس أو تعزيزا للكفاف والعفاف.
خاتمة:
إن الرحلة وأدبها قديم، قدم الإنسان ذاته. فهي تلبي حاجات طبيعية وثقافية وتربوية…. وهذا ما جعلها محط اهتمام ودراسة، وخاضها رحالة وأدباء وفلاسفة كثر. فالرحلة كانت ديدن الإنسان الأول، وشغف إنسان اليوم، يدفع بها الملل والسأم عن نفسه، كما هي وسيلة لطلب الرزق أو العلم، وهذا ما جمعه الإمام الشافعي في قوله:
“سافر ففي الأسفار خمس فوائد، تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد”.