عاد تطبيق العرف الأمازيغي “تافگورت” إلى واجهة النقاش في عدد من مناطق سوس، خاصة تلك التي تتميز بتواجد أشجار وغابات الأركان، إذ مع توافد الرعاة الرحل على هذه المناطق، واستفحال الظاهرة في السنوات الأخيرة، طفت على السطح مشاكل عديدة ترتبط باستغلال مجال الأركان في عمليات الرعي؛ استغلال عشوائي وفوضوي في كثير من الأحيان، أبرز سماته الإضرار بالغطاء النباتي المشكل أساسا من أشجار الأركان واللوز والصبار وغيرها، ما يؤجج الصراع بين الفئات المجتمعية الأصلية المستقرة ومجموعات الرحل “الاستثمارية” على الخصوص.
و”تافگورت” عرف أمازيغي أصيل وضارب في القدم، ويعني الغرامة أو الذعيرة؛ له أسباب نزوله وموعده تطبيقه وأهدافه، اعتبارا لكونه آلية تنظيمية ردعية لعملية تدبير المحاصيل الزراعية وجني وجمع ثمار الأركان، لها أبعاد اجتماعية واقتصادية، وتتجسد في إعلان القبيلة (الجماعت) عبر نداءات “لبريح” عن المنع الكلي للجني والرعي داخل مجال الأركان خلال فترة زمنية محددة، تحت طائلة غرامات وذعائر تسمى “تافگورت”، في حق كل من أخل بمقتضيات هذا العرف أو تجاوزها، وهو ما عادت عدد من الجماعات الترابية اليوم إلى إحيائه، خاصة بمناطق أدرار أيت باها، حيث تساهم السلطات بشكل فعال في تنزيله.
وعن هذا العرف قال خالد أوبلا، أستاذ اللغة الأمازيغية مهتم بالتراث، ضمن تصريح هسبريس، إن تاريخ اعتماد عرف “تافگورت” في المجتمع الأمازيغي يجهل، لكنه “سلوك اجتماعي ضارب في القدم يرتبط في تفعيله بمجموعة من المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي أفلت ولم يعد لها وجود، كمؤسسة ‘إنفلاس’، التي اضطلعت بمهام كثيرة من بينها تعيين ‘إنفكورن’ الموكول إليهم، ضمن أدوارهم، المراقبة الدائمة والوقوف على احترام هذا العرف، وجمع الذعائر المحررة في حق المخالفين”، وزاد: “الذعائر في هذا المجال قوية ورادعة قد تصل إلى تجريد المخالف من بقرته، أو أي شيء ذي قيمة اجتماعية أو نفعية، أو قطعة أرضية تكون من أخصب الأراضي. ولا يستثنى أي شخص خالف هذا العرف، وإن حصل الرعي في أملاكه الخاصة أو جمع ثمار أشجاره دون أن يؤذن ‘إنفلاس’ بذلك”.
وفيما لاحظنا كون المجلس الجماعية في مناطق أدرار، على الأقل في إقليم اشتوكة آيت باها، تعمد في السنوات الأخيرة إلى وضع إعلانات منع الرعي بمجال الأركان خلال فترة معينة، مقتبسة ذلك من عرف “تافگورت”، يرى خالد أوبلا أن إلحاح الساكنة على اعتماد هذا العرف “جسدته بلاغات المجالس الجماعية الداعية إليه كذلك، كآلية عرفية محلية تنظيمية لعملية تدبير المحاصيل الزراعية في فترة زمنية يعلن فيها عن المنع الكلي للجني والرعي خارج المناطق الرعوية المسماة ‘لعزيب’”، مردفا بأنه “من خلال الرواية الشفوية يتضح أن ‘تافگورت’ أسلوب رادع ووسيلة مساهمة في الاحتكام إلى القوانين العرفية المؤطرة لعملية تدبير الشأن المحلي، وفق مستويات عدة بغية تحقيق مجموعة من الأهداف، منها الاقتصادية والايكولوجية والاجتماعية والتدبيرية”.
وتطبيق هذا العرف أو تنزيله على أرض الواقع يمر عبر مراحل عديدة. وفي هذا الصدد، أورد الأستاذ أوبلا: “بداية يتم الإعلان (لبريح) عن دخول هذا العرف حيز التنفيذ في 22 من أبريل الفلاحي بالأسوق الأسبوعية، وتعطى مهلة من 15 يوما للرعاة المحليين والوافدين لنقل ماشيتهم خارج مجال إغلاق الأرگان، إلى مجالات رعوية تسمى ‘لعزيب’، حيث يستقرون طيلة الفترة المحددة في ثلاثة أشهر، تبتدئ في 22 من شهر أبريل الفلاحي وتنتهي في شهر غشت. وقد يحدث أن يتم تخصيص مناطق أخرى للرعي خارج ‘لعزيب’ يتفق حولها صاحب الماشية مع ملاك أشجار الأرگان مقابل كمية من ثمار الأرگان أو مبلغ مادي تحدده ‘الجماعْتْ’ في إطار ‘لقّيمت’”.
تحديد مدة سريان عرف “تافگورت” لم يكن اعتباطيا، بل مؤسس على معطيات دقيقة. وقال المتحدث ذاته في هذا السياق إن “تخصيص ثلاثة أشهر لعرف ‘تافگورت’ مبني على قوانين محلية ومعارف تقليدية توارثها الآباء عن الأجداد، ساهمت في تدبير الإنتاج الفلاحي المحلي الذي تعتمد عليه ساكنة المنطقة في تأمين اكتفائها الذاتي من الغذاء، حيث يعتبر الأرگان إلى وقت قريب المادة الرئيسية في قوت الأسر ومتطلباتها كمصدر لعلف الماشية (أليگـ، تازگموت)، ومادة مطلوبة في المطبخ وفي الإضاءة (إرگن، زّييْت لقنديل)، ومصدر للغذاء والتجميل”.
وأضاف الأستاذ ذاته أنه على مستوى المجال الغابوي “شكلت شجرة الأرگان محط اهتمام ورعاية وفق تدابير تحترم راحتها البيولوجية، ومعرفة دقيقة بمراحل إنتاجها”، وزاد: “في هذا الإطار فإن عرف ‘تافگورت’، بالإضافة إلى الجانب الزجري الذي يؤطره، له دور مهم في الحفاظ على المردودية، إذ يساعد على عدم إسقاط أجنة الثمار (أرّاوْ) التي تشكل نواة ثمار السنة الموالية، على اعتبار أن شجرة الأرگان تحمل ‘جنينين’ تواليا، أحدهما يعطي ثمار السنة الجارية والثاني ثمار السنة الموالية، وكلما احترمت قواعد الجني وتم انتظار نضج الثمار وتساقطها طواعية بدون استعمال العصي أو التحريك في جنيها كان هناك تعاقب في الإنتاج سنة بعد أخرى، وكلما تعرضت هذه الشجرة لاستغلال بشع وجني فوضوي خارج المعارف التقليدية كلما عرفت تراجعا في الإنتاج وقلّت ثمارها أو انعدمت في السنوات الموالية”.
كما يرى خالد أوبلا أن انتقال تدبير عرف “تافگورت” من منظوره القبَلي المدبر من طرف مؤسسة “إنفلاس” إلى منظور إداري تراتبي تؤطره إجراءات إدارية، وتتداخل مجموعة من المؤسسات الإدارية والأمنية (الجماعات المحلية، السلطات المحلية، الدرك الملكي، المحاكم) في تدبيره، لم يكن له وقع في المجتمع، “بل تأزمت الوضعية الإنتاجية لأشجار الأرگان بسبب فتح مجال غطائها النباتي أمام المئات من رؤوس الإبل التي تعود لمقاولات استثمارية، كما تزايد الطلب على ثمارها من طرف التعاونيات النسائية والصناعات التجميلية، ما جعل أثمان زيت الأرگان تتجاوز 500 درهم للتر الواحد هذه السنة”.
“يشكل عرف ‘تافگورت’ مثالا جيدا لاعتماد العرف الأمازيغي مصدرا للتشريع، شريطة تجويد مضامينه وملاءمته للتحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع المغربي، وذلك باستقراء النصوص الشفوية والكتابية التي تناولته، وإعادة النظر في بعض المفاهيم (كمفهوم الرعي والترحال الرعوي) التي لم تعد بنفس الحمولة الثقافية والأنتربولوجية، جراء زيغها عن دلالاتها الأولى المرتبطة بسياق اجتماعي وتاريخي من مغرب القرن العشرين أو قبله”، يستطرد المتحدث ذاته.
وختم الأستاذ أوبلا تصريحه لهسبريس بالقول إن “تسويق المنتج التجميلي أو الغذائي لأرگان يجب أن يوازيه تسويق آخر على المستوى الثقافي والبيئي والإيكولوجي، يهم نقل المعارف التقليدية المرتبطة بمختلف العمليات التي تهم العناية بالشجر والجني وجمع الثمار واستخراج الزيوت ومواد التجميل؛ وذلك عن طريق تكوين العنصر البشري المشتغل في إطار التعاونيات النسائية والشركات التجارية المهتمة بالمجال”، مستدركا: “لكن واقع الحال يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الغطاء النباتي لشجر الأرگان في حاجة إلى قوانين في مستوى عرف ‘تافگورت’، لحمايته من قطعان الإبل والماعز، ومن الهوس التجاري الذي يستغل عوز الأسر في تحقيق أرباح مادية دون الاستثمار في الثقافة المحتضنة للأرگان”.