أبحاث عديدة للأنثروبولوجي البارز ديل أيكلمان ترجمت إلى اللغة العربية في كتاب جديد، يعترف بـ”باحث كرّس مساره البحثي لفهم عدد من بلدان العالم الإسلامي”، ويعرّف بـ”منهج مختلف للتفكير”، يتوسع وينفتح “على التحولات المتسارعة في المجتمعات الإسلامية، ويجسد الصلة الحيوية والدائمة لأيكلمان مع جغرافية الإسلام وتاريخه ومجتمعاته”.
صدرت هذه الأبحاث عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بعنوان “ديل أيكلمان، أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية”، بتحرير يونس الوكيلي، وترجمة كل من اضريوي بوزكري، وفيصل الأمين البقالي، وحسن أحجيج، ومصطفى الوجاني.
وفي تقديم الباحث يونس الوكيلي، ورد أن ديل أيكلمان “من طينة الباحثين الذي مارسوا الأنثروبولوجيا على نحو خلاّق ومتجدد بوصفها رسالة في التعارف الإنساني، وضربا من الترجمة بين الثقافات، ووسيلةً لوعي المجتمعات الإسلامية لذاتها”؛ فـ”عمِل في المغرب والجزيرة العربية والاتحاد السوفياتي، وزار قرى بيرو وإثيوبيا ومساكن الرحل المغول وسط آسيا وخيام البدو في الصحاري والمدارس الدينية في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وجُزر الأورْكيني بالساحل الشمالي لاسكتلندا وتركيا واليابان وأوروبا”.
هاته التنقلات المتعددة والمتكررة “بين أماكن غير متشابهة ولغات مختلفة وثقافات متنوعة” كانت مصدرا “لحس أنثروبولوجي عميق وفريد، بقدر ما جعلته يدرك ما يُميز بين الناس جعلته يدرك ما يجمعهم”، قبل أن يزيد أن غاية مشروع أيكلمان أن تكون “الأنثروبولوجيا قاطرةً للتعارف الثقافي والإنساني”.
وكتب الوكيلي أن ديل أيكلمان يشتغل “على الإسلام بمفهومه الشامل، تاريخا ومجتمعا وسياسة”، ومقتضى هذا الاشتغال أن “الإسلام لا يصبح ذاك الجوهر الإيماني والخزّان الرمزي والقيم الموجِهة الموجودة داخل النص المؤسِس والمحمولة في لغته فحسب، وإنما فاعلية تاريخية، جماعية وفردية، ممتدة وحيوية، يتحول باستمرار ويتأقلم مع السياقات والتواريخ، ويلتحم بمصالح ورهانات القوى الاجتماعية، ويتجسد في بنيات ومؤسسات وفاعلين يصنعون حركية التاريخ، سواء في الزمن الماضي أو في الأزمنة الحديثة”.
الإسلام بهذه الرؤية “ليس حكرا على المستشرقين الفيلولوجيين فقط، الذين لم يفوّت أيكلمان مناسبة دون نقد قصور وحدود تصوراتهم ومناهجهم، بل هو حقل مفتوح تبحث فيه حقول معرفية متعددة من تاريخ وفلسفة واقتصاد ولغويات وعلم اجتماع وعلوم سياسية وعلم النفس وعلوم الدماغ، وغير ذلك من حقول…”.
من هذا المنطلق، يرى ديل أيكلمان أن “أهمّ تحدٍ يواجهه الباحثون في دراسة الإسلام”، أو يواجه “لقاء الأنثروبولوجيا بالإسلام”، هو “وصف كيفية تحقق مبادئ الإسلام الكونية المجردة في سياقات اجتماعية وتاريخية متنوعة، دون تقديمه كجوهر متجانس من جهة أولى، أو كمجموعة مطاطية لا متجانسة من المعتقدات والممارسات من جهة أخرى (…) أي دراسة إمكانات الإسلام للتأقلم في فضاءات ثقافية مختلفة”.
وتوقّف يونس الوكيلي عند مسار ديل أيكلمان، مستشهدا بأطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول “الإسلام المغربي” سنة 1976، التي خلص فيها إلى أن “المغاربة يتقاسمون رؤية عالم واحدة مهما اختلفت أنشطتهم، وهي ما يعبرون عنه من خلال مفاهيم مكثفة من قبيل: قدرة الله، والعقل، و’الحشوميّة’، والحق، والعار، والحس المشترك (لْقاعِدة)”، قبل أن تتوسع “المغامرة” في عمل آخر هو “المعرفة والسلطة بالمغرب” (1985) الذي “بحث من خلاله في تيارات دينية أخرى سائدة عند الفئات المثقفة، ساعيا إلى فهم أسس التربية الدينية ودور المثقف الديني القروي في تطوير المجتمع والعالم العصري (…)، معتبرا أن “المثقفين الدّينيين في مقدمة المجددين وأجهزة فعّالة في ربط الماضي بالحاضر، وتطوير المجتمع (…) وهو في ذلك مُصرّ على نقد تعريف نظرية التحديث للدين التي سادت خلال منتصف القرن العشرين باعتباره قوة متراجعة في المجتمع والحياة العامة”.
وتابع الوكيلي: “إن تجربته لم تقتصر على المغرب الذي كان مهد اشتغاله الأكاديمي، فقد أدرك أن عليه التحرك للمقارنة في مجتمعات إسلامية أخرى، مقتفياً أثر أستاذه في جامعة شيكاغو جليفورد جيرتز، الذي قارن بين إسلام المغرب وإسلام إندونيسيا، حتى يستطيع ملاحظة نماذج ومظاهر متعددة للإسلام تمكنه من القدرة على تأويل الأحداث في أماكن أخرى، وهكذا اختار عاصمة إقليمية قبلية تُدعى ‘حمراء العَبريين’ تقع في الشمال الداخلي لسلطنة عُمان وأقام فيها من 1979 إلى أوائل 1981، فانصبّ اهتمامه على أساسيات فهم التنظيم القبلي.. ثم استمرت رحلة ديل للبحث في المجتمعات الإسلامية خلال التسعينيات مسكونا دائما بسؤال طبيعة التحولات في المجتمعات الإسلامية عقب التحولات الكبرى التي مست العالم الإسلامي، مثل: الثورة الإيرانية عام 1979 وتداعياتها، وسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1989 واستقلال بلدان مسلمة كانت ضمن نفوذه، وما نجم عن ذلك من إعادة تعريف للحدود الدينية والجغرافية والقومية واللغوية، وانتشار التعليم على الصعيد الجماهيري من بضع مئات إلى مئات الآلاف، وتأثير الثورة الإعلامية على مختلف مناحي الحياة في نهاية التسعينيات، وما جرى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وعولمة الإرهاب والتطرف العنيف”.
في هذه المرحلة “تخطى أيكلمان أسوار التخصصات، مشاركاً اهتماماته مع باحثين من حقول قريبة في الأنثروبولوجيا والدراسات الشرق أوسطية والدراسات الإسلامية والإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وأنتج كتبا عديدة عن الرحالة المسلمين، وحدود روسيا الإسلامية، والإعلام الجديد في العالم الإسلامي، والإسلام والمسيحية والعلمانية في بلغاريا، والصلات والحدود بين إفريقيا ودول الخليج”. في كل هذه الأعمال، سجل الوكيلي “تمكّن أيكلمان من حمل منهجه الأنثروبولوجي التاريخي إلى مساحات معرفية جديدة ونطاقات جغرافية واسعة والدفع بالنقاش حول الإسلام ليكون جزءا من انشغالات الفكر الاجتماعي العالمي وأسئلته”.
كما كتب الباحث ذاته أنه “على النقيض من تهميش الدين في سيرورات الحداثة، رأى أيكلمان أن ‘التقاليد’ مجموعات من المفاهيم الثقافية والتصورات المشتركة والممارسات التي تجعل الحياة السياسية والاجتماعية ممكنة؛ وهي عاملٌ حاسم في تكوين ما يطلق عليه اليوم بـ ‘الحداثات المتعددة’، أي إمكانية وجود مسارات أخرى للحداثة تختلف عن اتجاهات الغرب وتتميّز بقدرات هائلة على التصحيح الذاتي المستمر (…) لا تنفي الدين بالضرورة (…) ولا تُخيّر المسلمين بسذاجة بين ‘مكة أو المكننة’ (…) وهي الافتراضات التي اعتبرها في جميع الأحوال تحجب وتشوّه الحراك الفكري في العالم الإسلامي”.
وفي تقديمه أكد يونس الوكيلي أن تجربة أيكلمان تنبه إلى الحاجة إلى إعادة التفكير في “التمييز الكلاسيكي بين الباحث الأجنبي والباحث المحلي في إنتاج المعرفة العلمية”؛ لأن “ممارسة البحث بحس إيتيقي تجعله ممارسة كونية ما دامت تنفَذ إلى المعيش المحلي في تاريخه الخاص وعقلانيته المتفردة وتجليه الجمالي الفذ، والأهم هو شعور الباحث بجدارة الحياة الجماعية للفهم ضمن الأفق الطوباوي للمشترك الإنساني”.
وواصل المقدّم: “أبلغ وصف جامع لنجاح هذا الرهان في مسيرة ديل هو عبارة نقلتها كريستين أيكلمان بتأثّر مرهف عن أحد سكان الحمراء في سلطنة عمان عندما قال عن كتابها ‘المرأة والمجتمع في عُمان’: هذا كتابنا “نحن” (…) ولا أتردد في أن أصف كل أعمال ديل أيكلمان بأنها كتاباتنا “نحن”، بل إنه، في هذا الكتاب، كاتبنا “نحن”، ناطقاً باللغة العربية”.