تصريحات أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، حول تاريخ المنطق، والزحف نحو تندوف أثارت الكثير من ردود الفعل المتباينة.
البعض اعتبرها تصريحات مستفزة، والبعض صرح أنها خارج السياق الديبلوماسي، وهناك من اعتبر أنها خطاب الفتنة، وممثل النظام الجزائري ذهب إلى أبعد الحدود حين اعتبر أنها نتيجة مفعول المخدرات.
بيان هيئة الاتحاد العالمي اعتبرت أنها تصريحات فردية، مع الحرص على احترام الحق الشخصي في التعبير.
أمام كثافة ردود الفعل ثمة سؤال أساسي ينبغي أن يطرح هل أخطأ الدكتور أحمد الريسوني؟
هو بلا شك تصريح كثيف وعميق، وأن أي قراءة سطحية ستكون مضللة ومنتجة للغموض والارتباك، وهو ما هو يستدعي قراءة متعددة الأبعاد تفاديا لأي انزلاق.
يمكن التوقف على الأقل عند لحظتين أساسيتين (المعرفة والاعتراف) من أجل الفهم والإمساك بطبيعة التصريح، وإدراك التمايز بين عتبتي المعرفة والاعتراف داخل التصريح.
معرفة تاريخ المنطقة كلحظة أولى، والاعتراف بسيادة البلد الشقيق موريتانيا كلحظة ثانية.
الريسوني في لحظة المعرفة تحدث عن واقع تاريخي قبل المرحلة الاستعمارية وقبل الحدود الاستعمارية. هنا الريسوني يستحضر تاريخا معروفا، لا يمكن نسيانه، أو حتى مسحه وتجاهله لأنه ليس فعلا سرديا، وإنما هو تاريخ معروف يستمد شرعيته من مرجعيات الآثار المادية والشواهد التاريخية ونتائج الأبحاث والدراسات الأنتروبولوجية.
من يهاجمون تصريحات الريسوني -حين استعاد جزءا من تاريخ المنطقة- عليهم إثبات العكس. من خلال كشف تاريخ مغاير! بعيدا عن الخطابات والتواريخ السردية للمنطقة، وبالتالي تقديم تاريخ جديد للمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين والعلويين في علاقتهم بالمنطقة من فاس ومراكش إلى حدود نهر السنغال؟
قبل الاستعمار الفرنسي كانت الحدود ذات طابع ديني وثقافي، حيث اللغة والدين أساس الهوية والدولة، وبالتالي أساس بناء الحدود بين الدول
أن الحداثة الغربية ومنتجاتها جعلت التاريخ علما، واستبدلت الحدود الثقافية بخطوط الخرائط ورسوماتها. مما يعني أن الدولة هي منتوج الحداثة في المجال السياسي حسب نظريات فلاسفة العقد الاجتماعي.
أن لقاء الحداثة مع بلدان شمال إفريقيا كان عبر مرحلة الاستعمار، أي أن حدود الدول أثناء هذه المرحلة وبعدها لم تعد محددة بأسس الهوية الدينية، وإنما بقرارات سلطة وإرادة وخرائط المستعمر، حيث الخريطة مجرد تمثيل رسومي أنتجته القوة الاستعمارية. في هذه اللحظة الريسوني يعلن حنينه إلى الدولة قبل الحداثة، تلك التي تبنى على أساس ديني.
اللحظة الثانية في تصريح الريسوني والتي أعتقد أنه افتقد فيها فقه الواقع حين انتصر للماضي وتجاهل الواقع الدبلوماسي مع موريتانيا.
اليوم نحن في حاجة إلى فقه الواقع أي فقه واقعي يتعايش مع الواقع ولا يلغيه، فقه يجعل من الماضي شرطا لإضاءة الواقع من أجل حسن الإقامة فيه، وليس الغاء الحاضر من أجل استعادة الماضي، فالماضي تتحدد قيمته وقيمه ليس في استرجاعه وحضوره، وإنما في الاستفادة من إحداثه.
المملكة المغربية تحرص على سيادة موريتانيا وتعترف بذلك وتحرص على حسن الجوار ووحده التاريخ والمصير المشترك. لدرجة أن تصريحا مخالفا للأعراف الدبلوماسية لأمين عام حزب الاستقلال سنة 2016 حول موريتانيا قوبل بالرفض والإدانة، وفي أقل من أسبوع الملك أرسل الملك رئيس الحكومة ووزير الخارجية إلى نواكشوط من أجل التعبير عن الموقف الرسمي للمملكة.
حينها وصفت وزارة الشؤون الخارجية المغربية تصريحات الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط، بأنها “خطيرة وغير مسؤولة”، و”تضر بالعلاقات مع بلد جار وشقيق وينم عن جهل عميق بتوجهات الدبلوماسية المغربية”.
الريسوني لم يخطئ في اللحظة الأولى، وأخطأ في اللحظة الثانية حين تجاهل ثوابت الديبلوماسية المغربية ورؤية جلالة الملك تجاه الشقيقة موريتانيا. طبيعة الخطأ تكمن في رؤية حاضر العلاقات مع الشقيقة موريتانيا، عبر بوابة الماضي حتى ولوكان هذا الماضي صحيحا.
الريسوني لم يخطئ في التذكير بجزء من تاريخ المنطقة، وأخطأ في إدراك طبيعة اللحظة السياسية الراهن، وأن سيادة موريتانيا خط أحمر للمملكة.
أما بخصوص السعار الجزائري من التصريحات فهي متوقعة
لأن النظام الجزائري جعل المغرب شأنا جزائريا يوميا، مئات المواقع والصفحات وجيش افتراضي مدعم من المخابرات والجيش لمهاجمة المغرب وبطرق فجة وبالكثير من الانحطاط والانحدار، لا سيما بعد الخطاب الملكي الداعي إلى بناء الجسور والتعاون وتقوية المشترك.
حجم التشنج والحقد غير قابل للتحديد، وصل إلى درجة السعار، أن أي نقاش ينبغي أن يكون هجوما على المملكة.
البارحة حالة استنفار غريبة بعد تصريح رئيس رابطة علماء المسلمين حول تاريخ المغرب قبل الحدود الاستعمارية
أعدت الاستماع إلى التصريح أكثر من مرة، لم أجد فيه ما يثير الغضب والسعار الجزائري بخصوص الزحف إلى تندوف، فالتصريح مسبوق بشرط واقف،
أي دعوة الملك إلى الجهاد من أجل تندوف، فإن استجابة المغاربة فورية وبالنفس والمال (هنا تكمن قوة التصريح).
السعار الجزائري وصل إلى درجة اتهام الفقيه أحمد الريسوني بتناول المخدرات. هو ما يكشف حجم الأزمة التي يعيشها نظام الجنرالات، لأنهم يدركون أن قوة التصريح وخطورته لا تكمن في مضمونه، ولكن في قائله ومرجعيته الإسلامية. لم يستوعبوا كيف يتحقق الإجماع الوطني بالمملكة، وكيف لممثل حركة بمرجعية إسلامية إن يعلن جاهزيته لتلبية أي دعوة ملكية بالنفور، في حين أن الجنرالات خاضوا حربا ضد الشعب الجزائري في العشرية السوداء، والتي كلفت ربع مليون قتيل فقط لأن الشعب صوت للإسلاميين سنة 1992.
في حين بالمغرب فتحت لهم الأبواب للوصول إلى السلطة، والنتيجة تلاحم بين الملك والشعب بكافة أطيافه.
لذا، تبدو فرضية الخوف من الإسلاميين قوية وراء سعار النظام الجزائري، الذي لم يستوعب كيف يعلن الإسلاميون ولاءهم للملك واستعدادهم الفور بمجرد دعوة الملك.
اما عن الشقيقة موريتانيا فإن التاريخ معروف، ولا يكمن تغييره، والحاضر معترف به حيث الدولة المغربية تعترف بموريتانيا كدولة إسلامية ذات سيادة.
تصريح العلامة الريسوني أزعج جنرالات الجزائر لسبب بسيط لأنه كشف لهم قوة المملكة التي تكمن في قوة الترابط بين الملك والشعب. وأنه إذا دعا الملك استجاب الشعب.