بعد أن هدأت “جعجعة” التقرير الأخير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش”، لنحاول أن نقدم قراءة موضوعية للمعطيات الواردة في التقرير الصادر يوم 28 يوليوز المنصرم؛ لنرى، على قول الشاعر، حين “ينجلي غبار الجعجعة”، “أفرس في التقرير أم حمار”.
استهداف الملك ومحيطه
تزامن نشر التقرير في تاريخ 28 يوليوز 2022 مع احتفالات المملكة يوم الـ30 من الشهر ذاته بالذكرى الـ33 لجلوس ملك المغرب على العرش قد يكون استهدافا للملك نفسه ومحيطه، وقد يكون مجرد صدفة لم تخطر على بال معدي التقرير البتة؛ غير أن “المعطيات الرقمية” المضمنة في التقرير تجعل الناظر فيه يقطع الشك باليقين، فهذه المعطيات شأنها شأن كل أمر مريب تكاد أن تقول خذوني.
فكلمة الملك ذكرت في التقرير 33 مرة، وكلمة القصر وردت 44 مرة، وكلمة محمد السادس تكررت 17 مرة، فيما أعيد اسم عبد اللطيف حموشي، المدير العام لمديرية الأمن الوطني والمدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني، 11 مرة، يأتي بعده محمد منير الماجدي، مدير الكتابة الخاصة للملك، بـ10 مرات.
ورود اسم الملك، بتعابيره المختلفة، وكذا اسم المسؤولين المقربين منه، بهذه الأعداد يتوخى ربط كل ما لا تراه المنظمة بعين الرضا بشخص الملك، وقديما قيل: “وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساوئ”، إلى درجة أن التقرير يحاول أن يوحي/ يوهم بأن الملك يتبنى الأحكام المختلفة الصادرة عن القضاء؛ فقط لأن القضاة يدبجون أحكامهم بالإشارة إلى عبارة “باسم جلالة الملك”، بحيث يحق التساؤل: “إذا كان الملك يتبنى كل ما يصدر عن القضاء من أحكام، فما معنى أن يطلق ورش إصلاح القضاء؟”.
يحدث خلط الأوراق نفسه عندما يتحدث التقرير عن “المعارضين”، فهو يعتبرهم معارضين للملك والنظام الملكي، وحين يتهم منابر إعلامية بذاتها بكونها موالية للمخزن، فهو يعرف المخزن بكونه “شبكة أصحاب السلطة المرتبطين بالملك وأعوانه، من خلال الولاء والمحسوبية”. والخلاصة ما يقوله أجدادنا “إذا ظهر المعنى، فلا فائدة من التكرار”.
العلاقات الرضائية.. الإجهاض والاعتقال الاحتياطي
درج الناس على القول بأن الشجرة أحيانا تخفي الغابة؛ لكن يحدث أيضا، بالنسبة للبعض، أن بعض الأغصان فقط كافية لكي تصبح الغابة “هشيما تذروه الرياح”.
تقرير منظمة “هيومان رايتس ووتش” يقف عند حالات عانت بسبب علاقات رضائية، أو بسبب عملية إجهاض (الريسوني والمنصوري)، وينتصر لها؛ لكنه يخرجها عن سياقها الوطني العام.
في المغرب، لمن لا يعلم، يبقى الإجهاض والعلاقات الرضائية من الطابوهات الاجتماعية عند الفاعلين المحافظين، و”الحق في الإجهاض” نقاش لم يحسم بشكل قطعي حتى في الولايات المتحدة التي تراجعت محكمتها الدستورية مؤخرا عن واحدة من أبرز ضماناته.
في المغرب، لمن يجهل ذلك، تقدم تقارير رسمية لا تتوانى في المطالبة بتبني المرجعية الدولية وتوسيع مجال الحريات الفردية؛ لكنها تواجه بحائط صد شاهق شيدته تيارات تنتمي إلى مرجعيات يتقاسمها عدد من الذين استشهد بهم تقرير “هيومن رايتس ووتش”.. وعلى معدي التقرير أن يبحثوا عن عدد الأشخاص الذين يقبعون خلف القضبان، اليوم في المغرب، على خلفية هذه الأسباب عينها. ودفاعا عن حقوق هؤلاء جميعا (من منظور المرجعية الحقوقية الدولية)، لا تكل المؤسسات والتقارير الرسمية من الترافع والدفع بعجلة التغيير إلى الأمام، ليس في مواجهة الدولة أو الملك؛ بل بالأساس في مواجهة الفاعل السياسي الحزبي والجماعاتي المحافظ.
الأمر نفسه بالنسبة لمعضلة الاعتقال الاحتياطي. هل تخص إشكالياته الريسوني والراضي وحدهما؟
بلغت حالات الاعتقال الاحتياطي 46 في المائة من مجموع نزلاء المؤسسات السجنية في المغرب، أي 40 ألف معتقل من أصل 96 ألفا. وعليه، فقضايا مماثلة لا يمكن أن تعالج بانتقاء حالات بهدف توظيفها خدمة لسردية معينة؛ بل تعالج في مجملها ليكون لذلك أثر في المنظومة. كل الفاعلين الوطنيين في المغرب لا يكلون ولا يملون من الدعوة إلى ترشيد الاعتقال الاحتياطي.
تتحدث المنظمة عن خطورة التحرش والاعتداء الجنسي، وهي تعالج قضايا بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي؛ لكنها لم تكلف نفسها عناء رصد حملة التشهير ضد المشتكيات في قضية بوعشرين والراضي، والمشتكي في قضية الريسوني.
التواصل مع واحدة من المشتكيات، وفقا لما جاء به “تقرير” هيومن رايتس ووتش، لم يكن بمبادرة من المنظمة؛ بل المعنية بالأمر هي من بادرت إلى الاتصال بالمنظمة. أما البقية الباقية، فلم تر المنظمة حاجة حتى إلى الاستماع لهن.
ويستشف من حديث المنظمة عن عدم اعتقال المشتكي في قضية الريسوني على خلفية اعترافه بمثليته تحريض مبطن ضده، لأنها تعتقد أن بقاءه حر طليق كان بهدف خدمة أجندة معينة؛ في حين أن الحقوقيين يمكن أن يعتبر هذه الخطوة، عدم الاعتقال، مدخلا حقيقيا للدفاع عن مجتمع “الميم”.
أنا الأصل والوهم بعدي
يزعم التقرير أن الصحافة المغربية انتهت مع خروج أحمد رضا بنشمسي من المجال، والتحاقه بمنظمة هيومان رايتس ووتش، مديرا للتواصل بقسم الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وهو أحد معدي التقرير، فهل يستقيم أن يسود شخص في العالم بياض القرطاس بمزاعم تجعل رحيله “نهاية التاريخ”؛ بله أن ينشر ذلك على رؤوس الأشهاد؟ أليس في ذلك مسا خطيرا بالموضوعية المفترضة في منظمة دولية؛ بل الأدهى هو أن ترد مقاطع في التقرير مقتبسة من المدونة الشخصية لبنشمسي؟.
قلب الحقائق
تزعم المنظمة أن إغلاق جريدة “أخبار اليوم المغربية” كان بسبب توقف الدعم، الذي تقدمه السلطات لمختلف المؤسسات الإعلامية. وهذا لم يقل به حتى مسؤولو هذه الجريدة الذين صرح بعضهم بأن توقفها وليس إغلاقها كما تزعم المنظمة كان قرارا لمالكها، متسائلين عن المصير الغامض للدعم الذي تلقته الجريدة في سنوات بعينها.
يبدو أن المنظمة كلما غزلت غزلا عادت ونقضت غزلها. وهكذا سمعنا جعجعة ولم نر طحينا.