يعود الكاتب كاليب فايس، في تقريره تحت عنوان “الدليل الإمبراطوري لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي”، إلى العقود الثلاثة الماضية، واستطاعة التنظيم التوسع من شمال إفريقيا إلى غربها؛ وذلك في محاولة لإقامة إمبراطورية إرهابية واسعة النفوذ بالتعاون مع تنظيمات إرهابية أخرى.
وبحث التقرير في استغلال التنظيم هشاشة الجغرافيا السياسية للمنطقة التي تحوي أزمات أمنية وسياسية واقتصادية ومجتمعية. بعد نشأته في عام 2006 إثر إعلان “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” ولاءها لتنظيم القاعدة، إذ كانت أنشطة هذه الجماعة تتركز في شمال إفريقيا خاصة الجزائر. ومنذ ذلك الحين، تمدد هذا الفرع القاعدي جغرافيا لينضم إلى تحالف إرهابي تقوده جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في 2017 في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
في هذا الإطار، طرح كاليب فايس شرحا تفصيليا للآليات التي اتبعها التنظيم من أجل تحقيق هذا القدر من التوسع من دول المغرب الإسلامي إلى شمال وغرب إفريقيا؛ وذلك بالاعتماد على مجموعة من المصادر الأولية للدعاية الإرهابية والبحث التاريخي. وطرح التقرير خمس آليات للقاعدة وفروعها وحلفائها لتحقيق هذا التوسع الجغرافي، وهي:
1ـ إقامة علاقات صداقة أو إنشاء مجموعات مسلحة تعمل في خضم الصراع؛
2ـ دمج أنفسهم في المجتمعات التي يوجد فيها هؤلاء المسلحون؛
3ـ استغلال مظالم تلك المجتمعات لكسب التعاطف.
4ـ مواجهة المعارضة الداخلية أو الخارجية بشكلٍ سلبي أو عدواني.
5ـ التطلع إلى مجتمعات جديدة بمجرد ترسيخ قاعدتها.
ويستخدم التنظيم “الدليل الإمبراطوري لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” (أو بعض منه) للتوسع والانتقال من الجزائر إلى شمال وغرب إفريقيا، خلال خمس فترات تاريخية مختلفة، رصدها التقرير. ومن المرجح أن تستمر القاعدة والجماعات التابعة لها في المنطقة في استخدام هذا الدليل، بينما يواصلون توسعهم المعاصر في غرب إفريقيا، ويمكن تفصيل هذه المراحل على النحو الآتي:
المرحلة الأولى (1992- 1998): سمى التقرير هذه المرحلة بـ”وصول القاعدة”، حيث انتقل التنظيم لأول مرة إلى منطقة الساحل خلال عامي 1993 و1994، إذ دعم الجماعة الإسلامية المسلحة (GIA) في قتالها خلال العشرية السوداء في الجزائر، ونشأت الروابط بين هذه الجماعة وتنظيم القاعدة لأول مرة في أفغانستان؛ لكن تم توطيدها غالبا عبر السودان والنيجر. علاوة على ذلك، استخدمت الجماعة الإسلامية المسلحة شبكات القاعدة في الساحل والنيجر ونيجيريا في الحصول على قاعدة خلفية آمنة وإمدادات ثابتة من الأسلحة والمال والدعم؛ لكن تم الاستيلاء لاحقا على شبكات تلك الجماعة من قبل مجموعتها المنشقة، “الجماعة السلفية للدعوة والقتال”.
المرحلة الثانية (1998 – 2006): حملت هذه المرحلة عنوان “إنشاء فرع رسمي للقاعدة والتحرك جنوبا”، إذ برزت الجماعة السلفية للدعوة والقتال المنشقة بمساعدة القاعدة. ومثل سابقتها، فقد نظرت الجماعة، في البداية، إلى منطقة الساحل كقاعدة خلفية قابلة للحياة لمهمتها التي تركزت على الجزائر. مع ذلك، فعندما بدأ قادتها المتمركزون في الساحل بالزواج من القبائل والعائلات المحلية وتقديم الدعم الاجتماعي للسكان المحليين، وإقامة علاقات عميقة مع سماسرة السلطة والسياسيين والمجرمين المحليين، بدأت الجماعة السلفية للدعوة والقتال في استقبال قطعان من السكان المحليين المجندون والمتعاونون في الساحل.
ووفقا للتقرير، أدى هذا التدفق من سكان الساحل إلى تحول كبير في شخصية الجماعة السلفية للدعوة والقتال، حيث تحولت من منظمة تركز على الجزائر إلى جماعة تتمدد أنشطتها في شمال إفريقيا وتوظف مظالم دول الساحل بشكل عام. ومع هذا التحول، رأت قيادة الجماعة أن منطقة الساحل مساحة قابلة لتطبيق العمليات الحركية؛ بدءا من هجماتها في موريتانيا في يونيو 2005.
المرحلة الثالثة (2006-2012): هي مرحلة توسع القاعدة في غرب إفريقيا، والتي يشار إليها باسم “التوسع الأولي في الساحل وبناء الدولة”، إذ أصبحت الجماعة السلفية للدعوة والقتال رسميا تسمى بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وفي عام 2007، تم تكثيف الجهود المحلية لإنشاء فرع موريتاني، بينما بدأ التنظيم في استهداف قوات مالي في عام 2009. كما أدى الاندماج الاجتماعي المتزايد داخل منطقة الساحل إلى مزيد من المجندين المحليين؛ وهو ما انعكس في قيام تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بإنشاء كتائب محلية عديدة في أواخر هذا العقد، وبداية الألفية الجديدة.
مع اندلاع تمرد الطوارق، أشار الكاتب، إلى انتهاز تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الفرصة لزيادة الاندماج في شمال مالي، حيث دعم الطوارق بالسلاح للاستيلاء على نصف البلاد في منتصف عام 2012.
في نهاية المطاف، انقلب تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على حلفائه في السابق، وحكم شمال مالي. وفي الوقت نفسه تقريبا من عام 2012 ساعد التنظيم في إنشاء جماعة “أنصار” الإسلامية المؤيدة للقاعدة داخل نيجيريا.
المرحلة الرابعة (2013-2017): تميزت هذه المرحلة بـ”إعادة بناء القاعدة في الساحل” وتشكيل قواتها بعيدا عن مناطق عملياتها التاريخية في مالي، خاصة في دولتي كبوركينافاسو والنيجر وما وراءهما، وتم ذلك من خلال اندماج تنظيم “لواء الملثمين” و”حركة التوحيد والجهاد” في غرب إفريقيا لتشكيل مجموعة جديدة، ألا وهي “المرابطون” في عام 2013. وبين عامي 2014 و2015، برزت “حركة أنصار الدين”، أحد التنظيمات الموالية للقاعدة في شمال مالي. وفي عام 2016، ساعد أعضاء القاعدة في مالي الجهاديين المحليين في بوركينافاسو على تشكيل أول منظمة جهادية، وهي جماعة “أنصار الإسلام”.
المرحلة الخامسة (2017-2021): شهدت هذه المرحلة، التي يسميها التقرير باسم “تحول القاعدة إلى مشروع ساحلي بالكامل”، أكبر توسع للقاعدة حتى الآن؛ فبحلول عام 2017، اندمجت جماعات أنصار الدين ومجموعاتها الفرعية، والجناح الصحراوي لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والمرابطون علنا (باستثناء جماعة أنصار الإسلام) لتشكيل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM). منذ ذلك الحين، توسعت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى مناطق أبعد عبر وسط وجنوب مالي، من خلال ترسيخ نفسها في المجتمعات والنزاعات المحلية من أجل بناء الدعم العام.
واقترح التقرير العديد من الأمور لصانعي السياسات والقرارات المحليين والدوليين للتعامل مع الآثار السياسية المترتبة على توسع القاعدة من المغرب العربي إلى شمال وغرب إفريقيا، من أبرزها:
1ـ إدراك النموذج التوسعي: أي أن نجاح جماعة نصرة الإسلام والمسلمين –كأحد فروع القاعدة- في التوسع إلى غرب إفريقيا يمثل نموذجا لفروع القاعدة الأخرى في العالم؛ منها “حركة الشباب المجاهدين” في الصومال الموجودة بشكلٍ مباشر داخل نظام العشائر. أما طالبان باكستان، فقد استدعت العديد من العشائر القوية في المناطق القبلية بالبلاد التي عملت لصالحها، فيما أعطت العلاقات مع القبائل المحلية “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” (AQAP) نفوذا كبيرا بدرجات متفاوتة طوال فترة وجودها. ومن ثم تمثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نموذجا لطريقة انتشار القاعدة الأكثر عالمية، حيث يتم تسليح القضايا، والشكاوى، والسياسة، والمظالم المحلية واستغلالها لمصلحتها الخاصة.
2ـ فهم طبيعة العلاقات المتداخلة: إذ يدعو التقرير صانعي السياسات إلى بذل جهد أكبر لفهم الهياكل الهرمية والعلاقات شديدة التعقيد بين تنظيم القاعدة في الساحل وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وكذلك مع شبكة تنظيم القاعدة العالمية؛ فعلى الرغم من أن هذه التنظيمات تعمل بشكلٍ سري نسبيا، فإن ذلك لا يعني ضعف الروابط بينهم، على سبيل المثال، فعند تعيين أبو عبيدة يوسف العنابي أميرا للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بعد وفاة عبد المالك دروكدال في يونيو 2020، والذي كان أحد كبار قادة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، أعلن قتيبة أبو النعمان الشنقيطي (وهو أيضا مسؤول ديني في القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) عن تعيين العنابي. علاوة على ذلك، يواصل المقاتلون المحليون تمجيد قادة القاعدة العالميين في مقاطع فيديو دعائية، تُظهر التقارب الأيديولوجي والجذب اللذين تطالب بهما القاعدة داخل المجموعة. وأخيرا، تواصل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الحصول على الإشادة من قبل الفروع الرسمية الأخرى للقاعدة، مثل القاعدة في شبه الجزيرة العربية. كما تواصل تعريف نفسها على أنها فرع من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في إصداراتها الرسمية.
3ـ متطلبات نهج التفاوض: يثير تقرير فايس جدلا يتعلق بالتفاوض مع جماعات القاعدة، إذ يقول إن العديد من الدول، مثل مالي وبوركينافاسو، بل وحتى فرنسا، إما أنها فكرت أو تفاوضت بالفعل مع القاعدة لكبح الإرهاب في منطقة الساحل.
من جانبها، أشارت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى نفسها باعتبارها مستعدة للتفاوض، وإن كان ذلك بشرط مغادرة فرنسا للمنطقة. وبغض النظر عن رغبة هذه الجماعة في التفاوض على اتفاق لتقاسم السلطة مع دول الساحل؛ فمن الواضح أن العديد من الدول المحلية مستعدة لمتابعة هذا الطريق مع فرع القاعدة المحلي.. وفي الوقت نفسه فضلت دول أخرى، مثل الأعضاء الأوروبيين في فرقة العمل العسكرية الفرنسية (تاكوبا) والولايات المتحدة، نهجا يركز بشكل أكبر على الجيش لمحاربة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.
وفي كلا المسارين، أوصى التقرير صانعي السياسات بأخذ تاريخ القاعدة الطويل في منطقة الساحل في الحسبان، خاصة في ظل مغادرة القوى الأوروبية، بما في ذلك فرنسا وحلفاؤها في فرقة العمل تاكوبا لدولة مالي. في هذا الصدد، من المهم النظر في كيفية استخدام جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لاتفاقيات السلام المحلية، والتي قد تكون بمنزلة نموذج لكيفية استخدام اتفاق سلام أوسع وأكثر شمولا لتعزيز قوتها. فعلى سبيل المثال، منذ عام 2017، وثقت مجموعة الأزمات الدولية ما لا يقل عن 12 اتفاقية سلام محلية بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين والمسلحين والميليشيات الطائفية أو غيرها من الجهات المسلحة.
وطرح التقرير، في ختامه، أسئلة يرى أنه من الأهمية الإجابة عنها من قبل صانعي السياسات المحليين والدوليين؛ وهي: هل تشكل اتفاقية سلام وطنية أو دولية مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نجاحا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الشروط التي يجب الوفاء بها، وكذلك الحفاظ عليها، حتى يتم اعتبار أي اتفاق ناجحا؟، وهل النجاح محض في الإنجازات العسكرية أم إبعاد بعض القادة الجهاديين عن ساحة المعركة؟ هل النجاح هو بناء قدرة الحكومة في منطقة الساحل لمعالجة العديد من الدوافع الجذرية للصراع؟ أم أن النجاح يؤدي إلى تدهور جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من خلال عمل انشقاق هادف و/ أو رسائل مضادة لمنع المجندين الجدد؟
وذهب التقرير ذاته إلى أن المجتمع الدولي لم يتفق على أي تعريف موحد لما سيبدو عليه “النجاح”، مع ذلك، ذكر كاتب التقرير بأن أي مقاييس لتحديد النجاح ضد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين يجب أن تأخذ في الاعتبار تاريخ عملياتها وأنشطتها وجداول أعمالها في منطقة الساحل وما وراءها، والتي شكلت مسارها اليوم بشكلٍ مباشر.