موجة الحرائق التي اجتاحت مناطق عديدة شمال البلاد، خلال يوليوز الماضي، لم تثِر فقط اهتمام المسؤولين الرسميين والمؤسسات المعنية بالموضوع، بل امتدت رقعة تداعياتها لتسهم في خلق دينامية مدنية أعلنت تأسيسها مجموعة من الفعاليات المدنية والجمعوية بمدينة تاهلة، بإقليم تازة، باسم “تامورث” لدعم ومساندة ضحايا حرائق الغابات في جماعة الصميعة.
الدينامية، التي تحيل معاني أصل لفظتها الأمازيغية (تمّورْثْ) على مفهوم “الأرض أو الوطن”، جاءت بمبادرة من “جمعية أدرار للتنمية والبيئة”، لتضم فعاليات جمعوية محلية وإقليمية ووطنية، تحت شعار “جميعا من أجل مساندة مواطنينا بالجبل”.
في هذا الصدد، أصدرت تنسيقية “تامورث” للتضامن مع ضحايا حرائق منطقة “باب أزهار”، التابعة ترابيا لمدينة تاهلة، (إقليم تازة)، تقريرا أوّلياً عن الموضوع، أعدّه وأشرف عليه الفاعل الجمعوي الحسين خطار، والأستاذ الجامعي مصطفى اللويزي.
واعتبر مُعدو هذا التقرير أنه يأتي “تمهيدا لضبط وحصر مجموعة من المعطيات في أفق إعداد دراسة بحثية حول المنطقة تهم أساسا الجوانب التنموية ونواقصها”؛ بينما شكلت كارثة الحريق، بالنسبة لهم، “مناسبة لكشف مدى تفاعل المؤسسات المعنية محليا بإشكال التنمية مع أهداف رفع الهشاشة”؛ مسجلين أن التقرير ينطلق من محاولة فاعلين مدنيين غيورين على المنطقة “الإحاطة بمستواها التنموي”.
واعتمد التقرير، في جانب من إنجازه، على “استقاء شهادات لسكان الدواوير التي تضررت من الحريق، مع تخصيصهم بالذكر دواوير ومناطق ‘عين الرحى، لخزارية، دوار مرباط، دوار سيدي بولحسن، باب سوق شجرة، أغبال، مازر، الفريجة، آيت عبد الواحد، آيت عاشور’”.
تقرير التنسيقية، الذي تتوفر هسبريس على نسخة منه، أورد أن “أيّ دراسة جدية حول مطبات التنمية في هذه الدواوير لن تجد بُدا من الانطلاق من المفارقة سالفة الذكر كفرضية رئيسية لفهم النقص الحاد في تفعيل العدد الكبير من السياسات العمومية المهتمة بالمجال القروي والجبلي والغابوي، وبالتنمية بشكل عام”؛ ما يتضح معه أنها “سياسات لم تجد طريقا إلى هذه الدواوير، التي يلاحظ أنها بقيت على حالها من حيث بنية اقتصادها المعيشي التقليدي، المعتمد على فلاحة تقليدية وتربية تقليدية للمواشي وغرس بعض الأشجار بشكل تقليدي”.
وتضمن التقرير ملحقا مطولا عبارة عن “لائحة إحصاء وجرد الأضرار والخسائر بشكل تفصيلي وشامل وموضوعي؛ تم إعدادها لكل غاية مفيدة”، موضحا أنها تظل “رهن إشارة الجهات المؤسساتية الرسمية والسلطات المحلية والمجتمع المدني”.
وبعد أكثر من ستين سنة من “السياسات العمومية المتكررة، التي لطالما قيل إنها تصب في صالح هذه الفئة من ساكنة الجبال بشكل خاص، وساكنة العالم القروي بشكل عام”، سجلت الفعالية الجمعوية أنه “لم يُكتَب النجاح لعملية إخراجهم -على قلّة عددهم- من الهشاشة، حيث لم يكن بمقدور هؤلاء السكان توفير ما يمكن أن يلجؤوا إليه في مثل هذه الحالات الكارثية”.
وأثارت مضامين الوثيقة انتباه الفاعلين المؤسساتيين إلى أنه “كل هذه السياسات الضخمة لم تُتِح للساكنة القروية بالمنطقة أي إمكانية للولوج إلى خدمات التأمين أو إلى أي شكل من أشكال الضمان، ولم تمكنهم من تغيير طرق عيشهم التقليدية التي ظلت شبيهة تقريبا بما كانت عليه في القرن الماضي”.
ووقف الفاعلون المدنيون على “هشاشة” المتضررين من حرائق تاهلة، مسجلين أنها “كانت بادية عليهم أيضا من خلال حسرتهم”؛ شارحين أنه “لم يكن بإمكانهم أي قدرة على التواصل لوحدهم حول ما حل بهم مع أي جهة ممكنة دون الاستعانة ببعض المتطوعين من المجتمع المدني والصحافة وغيرهم”.
الحرائق تعيد “سؤال التنمية” إلى الواجهة
بالنظر إلى “طبيعة ما تحقق من التنمية ومن قيمة المعيش لدى الساكنة” في هذه المنطقة خلال السنوات الأخيرة، أكد تقرير تنسيقية “تامورث” للتضامن مع ضحايا حرائق باب أزهار- تاهلة أنه “المحدد الأساسي لمدى سهولة أو صعوبة إعادة الحياة إلى طبيعتها وإعادة تأهيل الدواوير التي عانت بشكل مباشر من ويلات الحريق”.
وكان لافتا أن يشير المصدر ذاته إلى “نمطية وصرامة” العلاقة بين المؤسسات وسكان هذه الدواوير، إذ “لم تُبْنَ أي علاقة تواصلية مفتوحة أو موسومة بالمبادرة والاقتراحية، وهو ما جعل المواطن ينزوي داخل أدوار الشريك غير القادر والشريك غير الفاعل والشريك غير المنفتح”.
واعتبر التقرير أن الحديث عن التنمية في المنطقة في علاقته بالحريق هدفه هو “فهم صيرورة العملية التنموية في المنطقة، لفهم العوامل المؤسسة للهشاشة محليا، وبالأحرى العوامل التي تعيد إنتاج الهشاشة والفاقة باعتبارها السمة التي طفت وبدت على السطح حين اندلاع الحريق وبعده”.
فداحة المفارقات التنموية
مصطفى اللويزي، فاعل جمعوي وأحد معدّي التقرير سالف الذكر، اعتبر في تصريح لجريدة هسبريس أن اشتغالهم على الوثيقة ميدانيا، مع التواصل مع الساكنة والمتضررين من الحرائق، “أثبت مفارقات تنموية فادحة تتعلق بعدم استفادة الفئات المتضررة من ثمار المشاريع والأوراش الكبرى بالمغرب، في مجالات التجهيز الطرقي والفلاحة والمياه والغابات”، موردا مثال بعض الفلاحين “الذين مازالوا لم يلمسوا وجود مخطط للمغرب الأخضر، إلا من خلال متابعتهم لهم في التلفاز”.
اللويزي، الأستاذ الجامعي بكلية تازة، قال إن “التقرير ينبه إلى ضرورة اهتمام السلطات والأطراف المتدخلة مؤسساتيا بسياسات عمومية بنيوية تتعلق بتجهيز المسالك الطرقية، ونقط تجميع الماء، وكذا برامج التنمية القروية ذات الصلة بالتجهيزات والخدمات الأساسية”، ما سيعود بـ”النفع والإنصاف” على الساكنة ووضعها لتجاوز آثار الحريق.
سياسات عمومية “متقاعسة تجاه المناطق الجبلية”
وسبق لدينامية “تامورث”، في بلاغ سابق، توصلت به هسبريس، أن رصدت “التهام الحرائق 500 هكتار من الغابات، أتت على محاصيل الفلاحين وعلف بهائمهم ومساكن العديد منهم”، مؤكدة أنها “تفضح مرة أخرى طبيعة السياسات العمومية المتقاعسة تجاه المناطق الجبلية”؛ قبل أن تلفت إلى أن “سكان الدواوير المتضررة من الحرائق يعيشون على إيقاع إهمال كبير على الرغم من تعدد المؤسسات المتدخلة محليا في الشأن التنموي، إضافة إلى المصالح الحكومية الخارجية والمركزية”؛ وهو الأمر نفسه الذي خلص إليه التقرير المذكور.
أمام هذا الوضع، كانت “تمورث” دعت الحكومة المغربية إلى اعتبار المنطقة “منكوبة”، وتحمل مسؤولياتها، كما طالبت السلطات المحلية والجماعات الترابية وغرفة الفلاحة بـ”التحرك العاجل والضروري لحل إشكالات الماء والكهرباء وأعلاف المواشي، لتستطيع الساكنة العودة لجزء من حياتها اليومية المعتادة في هذا الفصل الحار”.
وشددت الدينامية ذاتها على “ضرورة إخراج قانون للجبل إلى حيز الوجود من أجل تحقيق عدالة مجالية عبر سياسات عمومية خاصة، تمكّن هذه المناطق من الاستفادة من تنمية مناسبة لطبيعتها ومجالها”، داعية أبناء المنطقة ومختلف المواطنين إلى “المشاركة في عملية دعم ومساندة السكان كنوع من التعبير عن التضامن والتآزر معهم، ولإعادة معالم الحياة العادية إلى دواويرهم”.