يتساءل المتتبعون عن مآلات واتجاه العلاقات بين الرباط وباريس “الحليفيْن التقليدييْن”، بعد خطاب ملكي قوي أعاد رسم الخطوط واضحة عن ضبابية المواقف التي قد يتبناها بعض شركاء المملكة؛ مشددا على ضرورة “توضيح مواقفهم” بشأن الوحدة الترابية للمملكة وقضية الصحراء المغربية.
كما جاءت الرسائل الملكية المتضمنة في خطاب ذكرى 20 غشت بخصوص “القضية الوطنية الأولى” قبل زيارة رسمية تحمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، وتستمر يوميْن (بدءا من الخميس)؛ بينما تنصبّ الأجندة، وفق بيان الإليزيه، حول “تداول الأوضاع الإقليمية” ومراجعة مختلف الأمور التي تحبط العلاقات الثنائية بين باريس والجزائر منذ مدة.
وكان لافتا أن يُفهَم “التلميح” الرسمي المغربي إلى فرنسا، التي طالما لازمَت “المنطقة الرمادية” في مواقفها من أغلى قضية على قلوب المغاربة جميعا، في سياق مواقف دول وازنة راكمتها الدبلوماسية المغربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة؛ لاقت إشادة وترحيبا من أعلى سلطة في البلاد.
“الكرة في ملعب باريس”
تعليقا على هذه التطورات ومآلات العلاقة المغربية الفرنسية، اعتبر الموساوي العجلاوي، المحلل السياسي الباحث في مركز إفريقيا والشرق الأوسط، أن “مضامين الخطاب الملكي، الذي جاء ذكيّاً منبّهاً إلى تراجع الموقف الفرنسي، كانت صارمة في اتجاه تجديد التأكيد على مغربية الصحراء والإشادة بالمواقف الداعمة للمغرب، وكذا في مسألة كرامة المواطنين المغاربة، لاسيما المقيمين منهم بالخارج”، غيْر أن الكرة تظل في “ملعب فرنسا” لالتقاط الرسالة كما يجب.
وأضاف العجلاوي، في حديث مع جريدة هسبريس، أن “الخطاب الملكي الأخير وضَع الفرنسيين أمام اختيارات إستراتيجية لمراجعة مواقفهم، في ظل تحوّل الموقف الإسباني المرجعي والتاريخي نحو دعم الوحدة الترابية للمغرب”، وزاد: “حاليا توجد 8 دول أوروبية من أصل 27 أعلنت بصراحة اصطفافها إلى جانب مقترح الحكم الذاتي، بينما يظل التردد أو الدعم المحتشم يطبع مواقف باقي الدول”، مشيرا أنه “لا يجب إغفال المساندة الفرنسية في أغلب قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن الصحراء المغربية”.
وأردف الأستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية بالرباط بأن “قرار الإدارة الأمريكية والاتفاق الثلاثي، في عهد الرئيس ترامب، غيّر من المعادلات الجيو-سياسية التقليدية للمنطقة، إلا أن فرنسا لم تستوعب ذلك بنوع من الرضا”، مشيرا إلى “خوف باريس من الدعم الخليجي المتزايد عبر فتح قنصليات بالأقاليم الجنوبية المغربية، الذي شكل ضغطا عليها للاندماج في السياق الدولي”.
“العلاقات بين باريس والرباط موْسومة بمنطق الثابت والمتحرك”، سَجل العجلاوي، الذي أكد أنها تظل علاقات صامدة على كل حال، “رغم تراجُع فرنسا إلى المركز الثاني ضمن الشركاء التجاريين للمغرب (بعد إسبانيا) في ولاية ماكرون، وتسجيل إقامة أكثر من 70 ألف فرنسي فوق التراب المغربي كأكبر جالية فرنسية بالمغرب، والتنسيق العسكري والأمني”.
وبخصوص زيارة ماكرون إلى الجارة الشرقية للمملكة قال المتحدث ذاته إنها تأتي في ظل “سياق تقهقُر النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية عموما؛ ولاسيما بمنطقة الساحل والصحراء والمغرب الكبير، وذلك لأول مرة منذ خمسينيات القرن الماضي”، لافتا إلى أن ماكرون لم يَسْلم من “اضطراب وهَوَس ورقة العلاقات الخارجية، بعدما شكّلت ليبيا عُقدة لساركوزي، وهولاند مع دولة مالي”، وزاد: “التنافس مع إيطاليا وألمانيا على النفوذ في شمال إفريقيا يظل هاجسا كبيرا في ذهن ماكرون”.
في هذا الصدد، قدّر العجلاوي أن “الرئيس الفرنسي يفضّل الورقة الجزائرية على المغرب وتونس؛ لأسباب عديدة منها ارتباط وزير خارجيته السابق (جون إيف لودريان) بعلاقة وطيدة مع جنرالات الجزائر، ودعم هذه الأخيرة لفرنسا في قضية ليبيا وإعمارها”، قبل أن يخلص إلى أن “الخطأ الكبير مع المغرب كان هو المساس بالرأي العام حينما تم تخفيض عدد التأشيرات، وما تلا ذلك من ردود فعل متشنجة من طرف بعض الفرانكفونيين بالمغرب”.
وختم المحلل ذاته تصريحه لهسبريس بالقول إنه “في ظل المعطيات الحالية فإن الموقف الفرنسي لا يبدو أنه سيشهد تغيّرا على الأقل خلال السنوات الثلاث القادمة”.
ماكرون يخالف الأعراف
المعطي قبال، كاتب وصحافي مغربي متتبع للشأن الفرنسي والعلاقات المغربية الفرنسية، قال إن “المغرب حظيَ على الدوام، ومنذ عهد ديغول، بعلاقات عريقة مع فرنسا ورؤسائها المتعاقبين الذين طالما قدّروا الشراكة مع المملكة”، معتبرا أن “الزيارة الخارجية الأولى لأي رئيس فرنسي يُنتخب حديثا كانت صوب الرباط؛ لكن يبدو أن ماكرون تغيب عنه بعض الحقائق التاريخية حينما قرر في أول نشاط رسمي له بشمال إفريقيا في ولايته الثانية أن يزور الجزائر”.
المثقف المغربي المقيم بفرنسا وضَع، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس، زيارة ماكرون إلى الجزائر في “سياق برودة العلاقات بين الرباط وباريس”، قائلا إن المغرب “طالما تعامَل ببرودة أعصاب مع استفزازات فرنسية متكررة في قضايا عديدة؛ تحرّكها في الأغلب أطياف اليمين المتطرف، مثلا في ملف ترحيل القاصرين المغاربة والمهاجرين دون أوراق إقامة في فرنسا”.
وأضاف قبال أن “المغرب كان على حق حين رفض استعادة مهاجرين وقاصرين مجهولي الهوية؛ وهو ما لم تَسْتَسِغه فرنسا فلجأت إلى الضغط من خلال تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة”؛ لافتا إلى أن كل ذلك يُحيل على “تشنج غير مسبوق في العلاقات الثنائية مع صمت فرنسي”.
وذهب الخبير المغربي في الشأن الفرنسي إلى تأكيد أن “التحالفات الإستراتيجية للمغرب مع دول قوية في المنطقة أزعجت الفرنسيين في السنين الأخيرة”؛ قبل أن يستدرك: “إلا أن زيارة ماكرون للجزائر ليس قصدُها استفزاز المملكة، بقدر ما هي تعبير عن أنه رئيس مهوُوسٌ بقضايا الذاكرة؛ مع إرادة لكسب علاقة رابح- رابح مع الجزائر، لاسيما الاستفادة منها في ملف الطاقة”.
ودعا قبال، في ختام حديثه مع هسبريس، إلى ضرورة “طيّ الصفحة وفتح قنوات حوار بنّاء بشأن قضايا مشتركة”، وهو ما دعا إليه الخطاب الملكي “بذكاء وتلميح حول قضية مصيرية بالنسبة للمغرب”، خالصاً إلى أن “المغرب مطالَب بتعزيز نخبته الثقافية والإعلامية التي يمكنها أن تمثل أوراق ضغط وتأثير في السياسة الخارجية الفرنسية، على غرار الجزائريين المدافعين عن طرحهم بقوة في المحافل الفرنسية”.