عاصمة للألم قائمة إلى اليوم غيرَ بعيد عن العاصمة السنغالية دكار، تشهد على توحُّشٍ إنساني يتكرّر كلما غُضّ الطّرف عن “إنسانية الآخر”، وكلما توُوطئ على التسليم بالقائم من الأوضاع أو بحسابات المنفعة دون اعتبار معيار أخلاقي.
جزيرة غوري، التي صارت اليوم مزارا عالميا، كانت لأزيد من ثلاثة قرون أكبر محطة لجمع “العبيد السود”، من القارة الإفريقية، قبل إعادة توزيعهم لأعمال السخرة والاستغلال، لا لشيء إلا للون البشرة، وأقدار الجغرافيا، والتاريخ الذي مكّن لغيرهم.
جرح الإنسانية الغائر هذا يتجسّد في السنغالِ جزيرةً، توالى على استغلالها برتغاليون وهولنديون وفرنسيون، نقلوا عبرها ما يتراوح بين 15 مليون إنسان و20 مليونا.
هذه الجزيرة المثقلة بالألم تحضر فيها “دور للعبيد” أو سجونٌ ضيقة بالأحرى، داخل سجن الجزيرة الأكبر؛ فقد اختيرت غوري لبعدها عن اليابسة، وكدّس البشر فيها بناء على “نفعهم” المادي، كأي بضاعة أخرى: الرجال في غرفة، الأطفال في أخرى، العذراوات لوحدهن، وللعصاة سجن مظلم لا نافذة له يتطلب دخوله الحبو. أما المرضى، في زمن الجائحة، فالبحر مثواهم الأخير.
في إحدى الزنزانات التي لا تكفي مساحتها لوضع سريرين منفردين، تكدس عبر قرون 15 إلى 20 شخصا، لا “يحررون” إلا مرة واحدة لقضاء حاجتهم، قبل إعادتهم إلى “قدرهم”.
زنزانة أخرى أطول، لكن عرضها لا يتجاوز المتر، تكدس فيها أطفال، لا ذنب لهم، في أعين بني جنسهم، إلا لونُ بشرةٍ وانتماء إلى أرض “أدنى قيمة”.
في “بوابة اللاعودة”، على بعد خطوات مِن زنزانات قطنَها غيرُ مُذنبِين، شهادة أخرى على المدى الذي يمكن أن يصله توحُّش الإنسان.
هذه البوابة المطلة على بحر الجزيرة رمي عبرها أناسٌ مرضى، أثقلت أقدامهم بكرة معدنية، حتى لا ينقلوا عدوى “الجائحة” إلى باقي “العبيد”.
هذا المرض لم يكن وراثيا، بل كان نتيجة ظروف غير صحية وغير إنسانية كدّست فيها أجيال من الناس، من دول مختلفة، ولون واحد.
وكلما ظن زائر الجزيرة أنه اكتفى من الألم، تزيده أسوارها “دقّات”… ففي مفارقة حية، شهادة أخرى على ما يمكن أن تصله اللاإنسانية؛ فمباشرة فوق “دار العبيد” المتبقية، كان مسكن المتاجرين بهم؛ فبينما تكدّس الأطفال والنساء والرجال في زنازين، كانت تُقرَع الكؤوس فوقهم، وتتوالى الأحاديث، وينام “إخوان في الإنسانية”.
ميناء غوري أعلنته، سنة 1978، منظمة “اليونسكو” موقعا للتراث العالمي، وتكثر فيه، اليوم، آثار عبور شعراء ورؤساء دول وسياسيين وفاعلين عالميين بارزين، صورا أو كلمات، لكن تبقى السجون الصامتة، والسلاسل، والأبواب التي عبرها أبناء للقارة الإفريقية لآخر مرة، أصخب صوتا.
صوت الألم المتردد عبر الجزيرة يحكي قصة: إنسانٌ استعبدَ إنسانا، عدّه بضاعة تقاد بالسلاسل، تباع، تشترى، تستبدل، أو تقتل.
لكن، رغم اعتبار “الجزيرة” موقعا للذاكرة، ذاكرةِ تاريخ مظلم للإنسان يحضر بأوجه متعددة في أنحاء العالم، إلا أن درس غوري ليس ماضيا، بل هو دعوة للتفكير في راهننا، و”هل نحن محصّنون من التوحّش؟”، وتذكرة مستمرة بما يمكن أن يصل إليه الإنسان إذا ما ترادفت المصلحة والعمى، وحضر التواطؤ، وغير قليل من القوّة.