قلمٌ متخصص يفصح عما علق بذاكرته من مشاهدات طبية وشخصية تقدم نماذج وتوجيهات وصورة عن المجتمع المغربي وتحولاته وإشكالاته، الجمعية والفردية.
يضم هذا كتاب جديد معنون بـ”انتفاض ذاكرة”، صدر عن دار “أفريقيا الشرق”، وقعه المكي التهامي، طبيب معالج نفساني وأستاذ للطب النفسي، وقدمته الباحثة فاطمة الزهراء ازريول.
بأسلوب حكائي غير مفعم في الأكاديمية، يدون المتخصص بعض ما علق بذاكرته حول الطب النفسي، مهنته، والآثار النفسية والاقتصادية للاعتقاد في أثر مس الجن وما في حكمه، كما يدون أمثلة عاشها وعلاجات وصفها حول الاكتئاب، والاضطرابات الجنسية، والحياة الزوجية، وصولا إلى فترة كورونا التي أدخلته الإنعاش.
ومن بين المواضيع التي يسلط الكتاب الضوء عليها إشكالات تشخيصات من يمتهنون ما يسمى بـ”الرقية الشرعية”، مقدما مثالا بفتاة “شُخصت إصابتها” بـ”الجن العاشق” وهي في عمر الخامسة عشر، في حين إن التشخيص الطبي كان “اكتئابا خفيفا، وتوترا وقلقا عند هذه الفتاة التي تعيش مراهقة صعبة بأزماتها وتعقيداتها وتناقضاتها”.
ويستحضر الطبيب مثال امرأة حلت بعيادته وقد جاوزت الخمسين، بعدما ألمت بها أعراض فقدان تدريجي للنوم، مع كوابيس وضيق في التنفس، تطورت إلى رهاب أفقدها القدرة على الاختلاط بالناس، فذعر شديد، ثم حالات ارتجاف وارتعاش، فتغير لنبرات صوتها وكأنها طفلة تتهجى حروف كلماتها، دون تذكر لما تقوله، ولا قدرة على التفاعل مع محيطها الذي تسمع كلماته.
وذكر الكاتب أن مريضته هذه قد عرضتها عائلتها على رقاة شخصوا إصابتها بـ”الجن العاشق” مع اختلاف في “طرق العلاج”، ومنهم من تفاوض مع الجني عبر تطبيق “واتساب”، وفق ما صرحت به لطبيبها النفسي! حتى ترسخ لديها اعتقاد بأنها “مسكونة” من جني، دون تحسن في حالتها.
وشخص الطبيب حالة السيدة بكونها “شخصية عصابية مكتئبة تختلط عندها تعبيرات اضطرابات المزاج مع خرجات اللاشعور من خلال التعبيرات الجسمية والصوتية، والهلوسات الحسية البدنية، وتحويل الأحاسيس الباطنية المختلفة إلى أعراض نفسية عقلية عضوية ملموسة”.
وهكذا “عولجت بمضادات للاكتئاب ومزيلات للقلق وحصص من المعالجة النفسانية”؛ فـ”تحسنت الحالة الصحية لهذه المريضة كثيرا، وصارت حياتها عادية”.
وحول الممارسات الشعبية في ميدان الطب النفسي العقلي في البلاد، يقول المتخصص: “إذا كان هناك ميدان استعملت فيه البشرية الروحي والديني والخرافي والمقدس، فهو بلا شك فن الطب الذي يتصدى للخوف الأزلي الإنساني تجاه المرض والموت. والمغرب لا يستثنى من هذه القاعدة”.
طرق “التداوي” الشعبي هذه تحاول، وفق المصدر نفسه، “مواكبة أو منافسة الطب الحديث. وتواجه الطبيب النفسي كل يوم، بحيث إن عددا لا يستهان به من مرضى هذا الأخير استعملوا، يستعملون، أو سيستعملون هذه الممارسات الشعبية لوحدها أو مع أو بعد العلاج”.
الطبيب الذي من أجل محاولة الفهم قطن في ثمانينات القرن العشرين في “بويا عمر” (وهو مغلق حاليا بعدما كان موئل الباحثين عن العلاج النفسي والعقلي الشعبي)، يتذكر أحاديث تُرجع أكثرُها الأمراض النفسية والعقلية إلى “الجن والسحر والعين”. ويفصل الكتاب في هذا المقطع في طرق العلاج المقترحة، ووضع المرضى، والجو العام لهذا المزار.
ورغم تحولات وتطورات الأفكار والعقليات والتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فإن “الجو الروحي السحري مازال له دور قائم في تربية وسلوك فئات لا يستهان بها من بني بلدي”، حسب التهامي، و”الخوف من عدوى الإصابة بالجن والأفعال الشريرة لهذا الأخير يجد منشأَه في هذا الجو”.
هكذا؛ “يجد الفرد نفسه غير قادر على تحليل وصياغة أجوبة منطقية ومفسرة لسوء حظه وفواجعه وقلقه، فيضطر بطريقة لا شعورية أو بالسليقة إلى معانقة آليات الإسقاط التي تتهم قوة خارجية في خلق متاعبه وأزماته، وهكذا فالجن هو المسؤول عن المعاناة، ولا داعي للبحث عن جميع عوامل وحيثيات ومسببات هذه المعاناة”.
ويواصل الطبيب النفسي قائلا: “من السهل أن يُنسب فشل زواج إلى عين حسود أو سحر ساحر، مقارنة مع البحث عن كل العناصر التي قوضت هذه العلاقة الزوجية وجعلتها غير متلائمة ومنسجمة”.
ثم يضيف: “الإيمان بعالم الجن بديهي في تفكيري. لكن إعطاءه دورا في خلق وظهور معاناة نفسية وجسدية أمر خاطئ. الخوف والتخوف من الإصابة بشر الجن ما هو في الحقيقة إلا أحد تعابير القلق البشري أمام إشكاليات وتعقيدات الكون ومن يسكنه”.
وجوابا على سؤال سبب استمرار هذه الاعتقادات والممارسات، يقول: “من الصعب تجريد الفرد والجماعة تماما من الإرث الثقافي والاجتماعي، كان صالحا أو طالحا، خصوصا وأن هذه الطرق تحاول تأقلمها مع تطورات ميكانيزمات اشتغال آليات المجتمع. فإذا تم إغلاق “التطبيب” في الولي بويا عمر، فالرقاة يزيد عددهم باستمرار”.
ويتابع: “يمكن لهذه الطرق أن تعين في بعض الحالات العصابية والتوترات الآنية التي يمكن أن تستفيد من آليات التنفيس، وربما التعبيرات الجسدية تعين المريض على إفراغ ما قد يكون توترا وقلقا خفيا لا شعوريا وكبتا لا يعترف الشعور بوجوده”، قبل أن يسطر على لعب “قلة المؤسسات الطبية المختصة، وشح عدد الأطباء الاختصاصيين والأخصائيين النفسانيين (…) دورا مهما في الإبقاء على هذه الممارسات”.
ورغم تأكيد الطبيب على أن للمريض وعائلته “الحرية للبحث عن العلاج الملائم”، إلا أنه يربط “هذا الاختيار الحر” بالاستفادة من “التوعية الطبية الصحية والاجتماعية”، مع تسجيله أن “هذه الممارسات الشعبية يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة على الصحة النفسية، العقلية وحتى البدنية، خصوصا وأن عددا لا يستهان به من مزاولي هذه الطرق لا يزالون متيقنين بأن هناك تناقضا بين ما يسدونه للمريض والطب الحديث”.