طالما ارتبطت أفلامه بمدينته الصغيرة “بجعد”، وجعل من حكايا والدته والقصص الإنسانية تيمات أعماله السينمائية، فرسم لنفسه مساراً خاصاً زاوج فيه بين الروائي والوثائقي حدّ الالتباس.
إنّه أحد أبرز الأسماء المغربية ذات الخصوصية السينمائية، المخرج حكيم بلعباس، المولود في المغرب، والمُقيم في شيكاغو، حيث يُدرّس السينما في “مدرسة شيكاغو للفنون”.
بمناسبة عرض فيلمه الأخير “لو كان يطيحو لحيوط” في القاعات السينمائية المغربية، يتحدث المخرج المغربي حكيم بلعباس عن ارتباطه بمدينة بجعد، ورؤيته للسينما كوسيلة للاهتمام بقضايا الهامش.
“لوكان يطيحو لحيوط” فيلم يحكي عن قصص إنسانية مرتبطة بالموت والفقدان، ماذا تريد أن تقصد؟ ما هي الرسائل التي يحملها الفيلم؟.
عندما نتحدث عن فيلم تيمته الأساسية الموت والفقدان يُخيل للمشاهد تلك النظرة السوداوية الحزينة، لأنّ الناس تخاف من الموت، وبالتالي نبتعد ونهرب من مشاهدته.. لماذا لا نقول إنّه فيلم يحكي عن الحياة.
طالما اعتبرت أن منبع أوجه التعبير الإنسانية، بما فيها السينما، أو الشعر، أَو التشكيل، هو معاناة الإنسان وسعيه المتواصل إلى عيش حياة مطمئنة وكريمة. لو لم تكن المعاناة، عن ماذا سنكتب؟ وماذا سنصور؟ الفيلم عبارة عن حكاية تترجم وجدانياً الشرط الإنساني، وتذهب إلى حميمية بعض المواقف. حين يخلو الإنسان بنفسه، ماذا يتبقى؟.
للعنوان دلالات متعددة مرتبطة بفضاء الحكاية، مدينة بجعد.. ما هي الصور البلاغية التي أردت رسمها عن مدينتك؟.
عادة العناوين أقتبسها من حكايا والدتي. خلال التحضير لأطروحتي بدأت أنظر لوالدتي “زبيدة” كشكسبير؛ عندما سألتها عن طريقة تعاملها مع فقدان والديها أخبرتني بأنّ الموت علينا حق، وعند زيارة قبريهما كل اثنين وخميس تقوم بغسلهما، وتتحدث معهما وتبكي، وقالت لي: “كلما تتيبس القبور قلوبنا تتيبس، ونتونسوا بوليداتنا وبحبنا ليهم..”.
إذن، عنوان “لو كان يطيحوا لحيوط” وصلت إليه منذ سنوات، حين كنتُ أتجوّل ليلاً بعد عروض الليل في قاعة والدي السينمائية، رفقة مصطفى الشباني، مُشغِّل آلات عرض قاعة “سينمانا” في بجعد.. كان في بعض الأحيان يتعرض للسب والشتم من طرف رواد السينما عندما يعرض الفيلم ناقصاً، وكان يُعبّر عما يعيشه بقوله: لو كان يطيحو الحيوط لرأيت نسبة العنف الذي يُمارسه الإنسان تجاه أخيه، ومدى أذيّتنا وجرحنا لبعضنا البعض. فهمت من هذا الرجل هذا الشرط الإنساني الذي أتحدث عنه، وبالتالي العنوان يوحي بانهيار ما هو محجوب وإظهار ما هو داخلي لم نتمكن من البوح به.
تهتم دائماً بتصوير أعمالك في مدينتك الأم بجعد، التي غادرتها باكراً، ما هي الدوافع التي تجعلك تعود إلى هذه المدينة كلما فكرت في تصوير فيلم؟.
مازحا: لأنني عند الانتهاء من التصوير أعود إلى والدتي.
التعبير عن العالم من حولي بالصورة والصوت لا أحتاج فيه إلى مُعاينة أماكن التصوير؛ أذهب مُباشرة إلى الأماكن التي وقعت فيها الأحداث. الأماكن تظل دائماً حاملة للأرواح التّي سكنتها من قبل، ومن سيسكنها في المستقبل. مثلا، في الفيلم هناك حكاية رجل يدعى “كرمومة”، كان يمتهن صباغة الجير، وكان يرتدي الكثير من الملابس ويقوم بطلاء كل ما يصادفه أمامه، وبعدما يتعب ينام فوق السلم. كيف يُمكن ألا أحكي قصة هذا الرجل؟.
مدينة بجعد ليست ديكورا للتصوير، بل فضاء أولا. الرجوع إلى منبع الحكايا، وسهولة التعامل مع الناس والفضاء، لهذا أعود إلى بجعد في كل عمل فني.
نلاحظ في أعمالك أنك تهتم بالهامش، وتسلط الضوء كل ما هو منسي، ما السبب الذي يجعلك تركز على قضايا الهامش؟.
إذا لم أهتم أنا بسكان الهامش من سيهتم؟ الهامش هو الكنز، أو الكهف الذي نخاف منه. يجذبني الأبطال التراجيديون، ولا أؤمن بالبطل كمفهوم ينتصر فيه الخير على الشر، كما أميل أكثر لحكايات الناس البسطاء، الذين يجدون أنفسهم في ظروف أقوى منهم، ويحاولون على الأقل أنْ يجدوا لحظات طمأنينة في خضم عواصف الحياة.
صنعت لنفسك أسلوباً سينمائياً خاصاً بك، يمزج الروائي بالوثائقي. لماذا تتمرد على الفوارق بين المتخيل والوثائقي؟.
لا أقبل الاشتغال على شيء بأفكار مُسبقة، ولا أقول إنني سأهيكل هذا المشروع بطريقة ما، أو أتناول هذه الفكرة أو هذه التيمة بهذا الشكل. أعتقد أنّ الحكايا التّي أحكي هي التي تُملي طريقة حكيها. لا مُتخيل هو الذي يهديك لحظات شعر حقيقية.
ألا تعتقد أنّ هذا الأسلوب الفنّي البعيد عن السينما التجارية سيجعلك بعيداً عن الجمهور؟.
أنا أتساءل بطريقة أخرى حول ما يجب أنْ يكون وما لا ينبغي أن يكون حتّى نخرج من أزماتنا السينمائية؟. السؤال الذي أطرحه اليوم، ماذا يمكنني أن أقدم للسينما المغربية؟ لو لم يكن هناك دعم المركز السينمائي المغربي، أي بمعنى دعم المغاربة، لن أحلم بإنتاج فيلم مغربي؛ لذلك على المسؤولين الارتقاء بذوق المواطن والطفل في المغرب، وإعادة النظر في منظومتنا التعليمية، لما من شأنه أنْ يضيف شيئاً لجماليتنا. لم يعد لنا حق الاختيار.. كل المدارس أصبحت تشتغل بالصورة وأصبحت هي المتحكمة فينا، لذلك يجب أن نربي أجيالنا على التمييز بين الزيف والحقيقة، ومعرفة من يحكي لهم؟ ولماذا؟ وكيف يحكي؟.
ما رأيك إذن في الأعمال السينمائية المغربية؟ وما وصلت إليه اليوم؟.
أنا لست في موقع لتقييم الأعمال الفنية، لأنني أعيش خارج المغرب وأتابع أعمالاً قليلة أتوصل بها من أصدقاء مخرجين؛ لكن أنوه بمستوى كمّ الإنتاجات السينمائية، خاصة منها الأفلام القصيرة، لأنّه ليس من السهل أنْ نحكي عن لحظة إنسانية بشرية في وقت قصير.