تعود سجالات المجتمع إلى الخوض في مدونة الأسرة بعد توقف مؤسساتي استغرق عشرين سنة تقريبا، فبعدما فتح خطاب الملك محمد السادس الباب أمام النقاش العمومي، يصطف حداثيون ومحافظون من أجل البت في التعديلات المرتقبة، وطرح تصوراتهم بشأن “مدونة المستقبل”.
وسيتجدد التشابك في نقاط خلافية بين التيارات المجتمعية، في انتظار حسم نهائي يصدر مؤسساتيا؛ وفي المقدمة مواضيع الإرث وتزويج القاصرات والعلاقات الرضائية والولادات خارج مؤسسات الزواج، والولاية على الأبناء ومسطرة الصلح ومساطر النفقة والطلاق.
سعيدة الإدريسي، فاعلة حقوقية نسائية، أوردت أن المغرب موقع على اتفاقية “سيداو”، وهو ملتزم بملاءمة التشريعات الوطنية مع نظيرتها الدولية، مؤكدة ضرورة استدراك التمييز الذي يطال المرأة باسم الخصوصية الثقافية، وزادت: “هذا منع للحقوق الإنسانية”.
وأضافت الإدريسي، في تصريح لهسبريس، أن “التغيرات يجب أن تكون جذرية في هذا الباب وليس فقط في مدونة الأسرة، بل كذلك في القانون الجنائي”، منبهة إلى أن “الآخر يرى المغرب بلدا مليئا بالتناقضات من خلال تحقيق تقدم تكنولوجي لكن العقليات جد قديمة”.
وسجلت الفاعلة الحقوقية ذاتها أن “الحديث عن الخصوصيات والأعراف والدين دائما ما يأتي عند الحديث عن حقوق النساء”، مشيرة إلى أن “الخطاب فتح باب الاجتهاد الفقهي في قضايا الإرث وتمتيع المرأة بحقوقها الاقتصادية، وتجاوز معضلة تفقير النساء”.
وطالبت الإدريسي بضرورة منع التعدد، “فالأسرة لا تتكون من رجل ومجموعة نساء وأطفال”، مسجلة أن “قبول التعدد يأتي من باب الإكراه، خصوصا من النساء غير المتوفرات على دخل مادي، إذ يصير القبول من باب ‘أش غندير’، وتصبح المسألة معيشية وليست حميمية”.
وأكدت الحقوقية ذاتها ضرورة سن تشريعات صارمة تحدد سن الزواج في 18 سنة، مشددة على “تجاوز معضلة سلطة القاضي التي أصبحت بابا لتزويج القاصرات و’زواج الكونطرا’”، وأكملت: “ما يجري اتجار بالبشر وبغاء مقنع ومساهمة في تدمير حياة الطفلات”.
نقاش حيوي
لحسن سكنفل، رئيس المجلس العلمي الأعلى الصخيرات تمارة، قال: “إن النقاش المجتمعي حول موضوع مهم وهو الأسرة دليل على حيوية المجتمع وقوته؛ ثم إن موضوع المدونة عرف منذ بداية الاستقلال نقاشا مجتمعيا كبيرا، حيث كانت هذه المدونة تعرف بمدونة الأحوال الشخصية التي أشرف على وضعها ثلة من كبار علماء المغرب في ذلك الوقت، وعلى رأسهم سيدي علال الفاسي”.
ووفق السكنفل فقد “كان مولانا الحسن الثاني رحمه الله صريحا وصارما في أمرين اثنين: الأول أنه لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال، والثاني أن العلماء باعتبارهم نوابا عن أمير المؤمنين في حفظ الشريعة فالعلاقة معهم هي من اختصاصه هو، باعتباره أميرا للمؤمنين حاميا لحمى الملة والدين، والحارس لشريعة رب العالمين”.
واليوم وقد مر على إخراج هذه المدونة ما يقارب العقدين، ظهرت للمتتبعين والمراقبين بعض الاختلالات، حصرها السكنفل في “اعتبار بعض النساء أن المدونة جاءت لتأديب الرجل والتنقيص من حقه باعتباره زوجا، ما أدى إلى تسارع وتيرة طلبات الطلاق للشقاق، وخاصة من طرف النساء؛ فأصبح التطليق للشقاق أكثر أنواع الطلاق شيوعا في مجتمعنا، وارتفعت بذلك نسبة الطلاق إلى درجة أكبر من التي كانت عليها قبل إخراج المدونة، وهذا عكس مراد واضعيها”.
وأردف المتحدث ذاته: “إلى جانب الملاحظة الأولى، تحايل بعض الرجال لمخالفة بعض بنود المدونة، وخصوصا في زواج القاصرات، ثم كذلك بعض الأزواج من الرجال يعانون عند تقديم طلب الطلاق للشقاق من عدم القدرة على أداء مستحقات الزوجة (العدة والمتعة)، نتيجة ضيق ذات اليد، ما يفرض عليهم البقاء في نفس الوضعية، واعتبار عدم قدرتهم على الأداء تراجعا عن طلب الطلاق، رغم استحالة العشرة واستمرار الحياة الزوجية؛ وفي بعض الحالات نتيجة تنمر بعض النساء وعدم احترامهن حقوق أزواجهن؛ فأصبح الزوج يعاني مما كانت تعاني منه الزوجة قبل صدور مدونة الأسرة، حيث كانت تتقدم بطلب التطليق للضرر فيرفض طلبها لعدم وجود الشهود وعدم كفاية الأدلة”.
وفي السياق ذاته، هناك بعض الأحكام المتعلقة بنفقة العدة والمتعة والحضانة والسكن فوق طاقة الأزواج، ما يجعل من المستحيل عليهم الزواج مرة أخرى، كما أن هناك تكاليف أخرى، كإحضار المفوض لاستلام الأبناء أثناء العطل؛ ففي كل حضور له كلفة مادية للزوج. أما ما يتعلق بدعوات تغييرات أحكام الشرع كأحكام الإرث، وأحكام الزواج وأحكام التعدد، فإنها ليست جديدة، بل قديمة متجددة، وهي الدعوات تصادم نصوص الشرع قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، يورد سكنفل، وزاد: “لا مجال للاجتهاد، ولا مجال للتبديل والتغيير، لأن القاسم هو الله، وليس لأحد بعد موت المالك أن يتصرف في تركته إلا بما يوافق حكم الله المالك الحقيقي لهذا المال”.