بعيدا عن الزاوية الضيقة التي يُنظر منها إلى الجريمة كفعل يقتضي التعاطي مع مرتكبه بمقاربة أمنية صرفة، باعتقاله وإحالته على القضاء ثم الزج به في السجن، أكدت مداخلات عدد من الخبراء في المناظرة الوطنية التوافقية حول البحث العلمي في خدمة إعادة إدماج السجناء، الثلاثاء، أن أسباب الجريمة مركبة ومتشابكة وأن محاربتها تقتضي التعامل معها بمقاربة شمولية.
رحال بوبريك، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، عاد إلى مرحلة ما قبل وجود الدولة المركزية، وكيف كان يتم التعامل مع مرتكبي الجرائم في المجتمعات التقليدية، منطلقا من التساؤل عن سبب عدم وجود السجون في الصحراء، في ذلك الوقت، رغم وجود الجريمة، وكيف يمكن الاستفادة في الوقت الحاضر من القيم التقليدية التي كانت سائدة آنذاك، للحد من الجريمة، حتى قبل وقوعها.
واعتبر أن سبب عدم وجود السجون، آنذاك، راجع إلى الطريقة تدبير العلاقة بين الجريمة والعقاب، في حال وقعت جريمة أو جناية من طرف شخص ما، لافتا إلى أن تدبير هذه العلاقة قائم على العرف الذي كان بنية قانونية وبنية تعكس تنظيما اجتماعيا وقيما ثقافية وأخلاقية في مجتمع تقليدي، تعود فيه السلطة إلى “الجّماعة” التي تسن القوانين العرفية وتسهر على تطبيق العقاب وتدبير شؤون المجتمع ككل.
وأشار بوبريك إلى أن أقصى عقوبة يمكن أن يتعرض إليها الفرد عند ارتكابه جريمة القتل، آنذاك، في عدد من المناطق الجنوبية للمغرب هو الطرد من القبيلة، ولم تكن هناك عقوبة الإعدام، مبرزا أن الجاني عندما يُطرد من قبيلته “يصبح ميّتا اجتماعيا، لأن القبيلة هي التي توفر له الحماية وتوفر له كل سبل الحياة”.
وأضاف أن العقوبات الجسدية أيضا لم تكن تطبق في مجتمع الصحراء، إلا في حالات وسياقات استثنائية، كالسرقة في السوق، ومقابلها كانت تُفرض العقوبة المالية، أو الدية في حالة القتل، لافتا إلى أن الدية في هذه الحالة “كان لها بُعد الشرف أكثر من البعد المادي، وهذا يعكس أن المجتمع تجاوز مرحلة الانتقام الذي كان موجودا في بعض المجتمعات التي تطبق قاعدة النفس بالنفس”.
ودعا بوبريك إلى الاستفادة من تجربة المجتمع التقليدي في تدبير مسألة الجريمة والعقاب، من أجل تفادي الوقوع في السجن، من خلال تفعيل بعض القيم التقليدية التي كانت سائدة في العصر القديم، بما يمكّن من تلافي ما يتطلبه إعادة تأهيل وإدماج السجناء من جهد وإمكانيات مادية وبشرية كبيرة، وتفادي الوصم الذي يلاحق السجين بعد خروجه من السجن.
إدريس الغزواني، أستاذ التعليم العالي في كلية علوم التربية بالرباط، سلط الضوء، في مداخلة له تناول فيها موضوع “السلوك الإجرامي بين القطيعة والصمود”، على التمفصلات والدوافع الكامنة وراء الانخراط في السلوك الإجرامي، انطلاقا من سؤال: “كيف يمكن فهم مقاومة الجريمة رغم تواجد بعض الأطفال والمراهقين في بيئة ترتفع فيها شروط وعوامل الخطر؟”.
وتساءل: “كيف يمكن الحديث عن القطيعة مع الفعل الجرمي في ظل استمرار شروطه؟ وكيف يمكن الحديث عن الصمود إزاء هذا الفعل الجرمي في الوقت الذي يكون فيه المجتمع بمختلف أفراده، خاصة المراهقين والشباب، منتجا لهذا الفعل؟”، مشيرا إلى أن الجريمة تتداخل فيها مختلف المتغيرات، الثقافية والسيكولوجية… وتتفاوت بحسب تفاوت الظروف والأزمنة والأمكنة.
وأوضح الغزواني أن الصمود ينقسم إلى صمود أولي، يمكّن الفرد من التكيف بشكل إيجابي في ظروف غير مواتية، وبالتالي يتفادى الوقوع في حضن الجريمة؛ وهناك صمود ثانوي يأتي بعد ارتكاب الفعل الجرمي، حيث يقطع الفاعل مع ذلك الفعل، ولا يسقط في حالة العود.
وأبرز المتحدث ذاته أن عدم قدرة بعض مؤسسات التنشئة على القيام بأدوارها من شأنه أن ينعكس على مختلف الممارسات الاجتماعية، خاصة لدى المراهقين والشباب؛ ما يفضي بهم إلى الدخول في مسار الانحراف وإتيان أفعال إجرامية، نتيجة حرمان عائلي أو فشل دراسي.
في السياق ذاته، دعا مصطفى الرزرازي، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد السادس متعددة الاختصاصات، عند حديثه عن المداخل التي تدفع المراهقين إلى الانتقال من حالات اللاتوافق الاجتماعي إلى حالات الانفلات المفضي إلى مخالفة القانون والدخول إلى عالم الجريمة، إلى التخلص مما سماه “وهْم دور الأسرة الذي نبالغ فيه كثيرا؛ لأن هناك انسحابا للأسرة من أدوارها التقليدية”، معتبرا أن “كثيرا من القيم والمسؤوليات الوهمية التي نتوقع أن تلعبها الأسرة لم تعد ممكنة”.
وسجل الرزرازي أن هناك عددا من القطائع التي تؤدي إلى السقوط في أتون الانحراف في أوساط المراهقين والشباب؛ منها اختلال الأسرة، والقطائع المدرسية، وصرامة الدولة، موضحا أن التعاطي بشكل صارم مع المخالفات التي يرتكبها المراهقون ومقابلتها بالسجن “يعد إشكالا حقيقيا، وليس حلا مثاليا”.
وأضاف أن المراهق أو الشاب في هذه الحالة “يقبل بعروض حياتية أخرى، ربما تبدأ بالتمرد على سلطة الأسرة وسلطة المدرسة، والاحتراف الذي يرافق إما بتعاطي المخدرات أو ممارسة العنف”.
وتروم المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج من المناظرة الوطنية التوافقية حول البحث العلمي في خدمة إعادة إدماج السجناء أن تكون بمثابة “آلية تشاركية لإثارة النقاش قصد معالجة إشكالية إعادة إدماج السجناء، ووضع تصورات مبنية على أسس ومناهج علمية وواقعية لإيجاد حلول واقعية ومندمجة لإنجاح عملية الإدماج”، حسب محمد بوزلافة، عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، رئيس لجنة تحكيم المناظرة.
ونوّه المتحدث إلى أن هذه المناظرة، التي يحتضنها المركز الوطني لتكوين الأطر بتيفلت الثلاثاء والأربعاء، “اختارت منهج الحياد من خلال التزم المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج بالحياد إزاء مخرجات المناظرة”.
وأضاف: “ليس هناك أي توجيه لمجريات أشغال المناظرة، وكانت للأساتذة الحرية المطلقة في ما يتعلق بعملية التشخيص والاقتراح وتقديم الحلول في عملية إعادة الإدماج؛ لأننا نود أن تكون هناك مصداقية لتوصيات ومخرجات المناظرة، وأن تكون قادرة على أن تنتقل بنا من التشخيص للأسباب والمعيقات والظروف الحالية إلى تقديم الحلول العملية التي من شأنها أن تُنجح عملية الإدماج”.
وستُمكن المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج مختلف المؤسسات على المستوى الوطني والقطاعات الحكومية، أضاف بوزلافة، من توصيات المناظرة من أجل تنزيلها على مستوى السياسات العمومية مستقبلا، معتبرا ان التوصيات والاقتراحات “ستؤثر لا محالة في الخيارات التشريعية والخيارات المؤسساتية وستشكل حلولا مستقبلية”.