تتبعٌ للأبعاد الاجتماعية والرمزية والمعاني الثقافية لسوقٍ أسبوعي مغربي يحضر في دراسة إثنوغرافية جديدة للباحث عثمان لكعشمي، اهتمت بسوق “الحَمْرا” بمولاي عبد الله في منطقة دكالة.
يتعلق الأمر بـ”إثنوغرافيا سوق معين؛ أي بوصفه وكتابته (…) لكن لا ينبغي أن يُفهم من دراسة حالة بعينها أننا أمام دراسة حالة بمعناها المنهجي الدقيق؛ أي حالة نموذجية لسوق أسبوعي قابلة للتعميم الاستقرائي على مختلف الأسواق الأسبوعية في المجتمع المغربي بعامة، وفي الأسواق الأسبوعية بدكالة خاصة، وإنما تقول شيئا ما عن السوق الأسبوعي وغير الأسبوعي، كما يمكنها أن تقول شيئا ما عن المجتمع المغربي”.
وينبه الدارس، في بحثه الذي نشرته مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، إلى “بداهة لا محيد عنها في البحث الإثنوغرافي”؛ “فليست هناك ذات اجتماعية أو موضوع اجتماعي ساكن، لا حركة فيه ولا تحولا، بالأحرى التعامل مع مجال خصب كالسوق يقوم أساسا على الحركة، حركة الأشخاص والبضائع والنقود والقيم.. ليس هناك وصف نهائي لواقع معين؛ ذلك أن الوصف بطبيعته يتضمن بشكل أو بآخر تأويلا ضمنيا له، أكان بواسطة اللغة نفسها أو عبر الذات الواصفة، ذات الإثنوغرافي وتجربته الشخصية”.
تنطلق الدراسة من مفهوم السوق، ومعانيه العديدة، بحمولاتها الضاربة في القدم في المجتمعات التقليدية، أو حمولاتها الحديثة: “سوق الشغل” “السوق الحرة” “سوق السلم”، لتقول: “السوق طالما شكل مرآة للجماعات والمجتمعات والثقافات والحضارات، لذلك فهو ليس مجرد موضوع للتاريخ، وإنما عامل مفسر للتاريخ، لتاريخنا الاجتماعي على وجه الدقة”.
ويهتم الباحث بالسوق الأسبوعي، بوصفه سوقا دوريا، يُعقد في يوم واحد من أيام الأسبوع (الأحد في الحالة المدروسة)، وهو طابع دوري يضمّن مثل هذه الأسواق “أبعادا اجتماعية ومعاني ثقافية ورمزية، ويحررها من طابعها الاقتصادي والتجاري المحض، إذ يضفي عليها طابعا طقوسيا، وهل الطقوس شيء آخر غير دوريتها؟ (…) “لِي مَا شْرَا يْتْنْزّْهْ” (أي مَن لم يشترِ يتنزه)”.
هذا الاهتمام بالسوق الأسبوعي نابع عن “حس سوسيو-أنثروبولوجي، يعبر بشكل أو بآخر عن إعادة الاعتبار للاقتصاد غير المهيكل، كما هو شأن اقتصاد الأسواق الأسبوعية، أكانت قروية أو حضرية أو على هامشهما، في الدراسات الاقتصادية لاجتماعيات الثقافة، بعيدا عن النظرة المحلية التحقيرية من جهة، وكذا السياسة الرسمية لكل ما هو مهيكل من جهة ثانية. على اعتبار أن غير المهيكل اقتصاديا، على مستوى التجهيز والرقابة والتحكم في المعروض من المنتجات في السوق، لا يسير وفقا لمنطق التبادل المادي القائم على “قانون العرض والطلب”، المُشَرعن قانونيا وسياسيا وفقت للنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي تتبناه الدولة، كما هو شأن الأسواق العصرية المهيكلة”.
وحول ما تشير إليه عبارة “حَمْرَا” في اسم السوق، قال الباحث إن التجار والزبائن يتحدثون عن سوق “لْحَمْرا”؛ أي “بإسقاط الهمزة التي تنتهي بها كلمة حمراء”، وهي كلمة تشير “بكل بساطة إلى معناها اللغوي، أي إلى اللون الأحمر. وتعود هذه التسمية إلى الأرض، أو بالأحرى إلى طبيعة تربة الأرض التي أضحت تحتضن هذا السوق، حيث نشأ وتطور”.
ورغم تضارب المعطيات حول مكان نشأة السوق، كتب الباحث: “لم يأخذ تلك التسمية، وطابعه الأسبوعي المنتظم، إلا مع انتقاله للأرض المعنية، أرض ‘الحَمْرِيّة’، حيث تشكلت هويته المجالية والزمانية، فصار ينظم كل يوم أحد (…) أما زمنيا، فتقدر نشأته الجديدة في موقعه القديم ما بين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن المُنصرم”.
وبعد نقل “لحمرا” إلى موضعه الثالث، صار انعقاده متزامنا مع سوق مولاي عبد الله الأسبوعي، الذي يبعد عنه بكيلومتر واحد، فصار التمييز بقول: “إلى أين أنت ذاهب؟ هل للسوق أم للحمرا؟”.
ورغم تغير المجال الجغرافي الأصلي للسوق إلا أنه “ظل وفيا لهُويته، لاسمه الذي يستمد منه تاريخه الخاص”. ويذكر الباحث في هذا الإطار أن السلطات لا تعتبر هذا السوق بمثابة “سوق أسبوعي، كما هو شأن الأسواق الأسبوعية التي تنعقد في جهة دكالة بصفة عامة، وفي إقليم الجديدة بصفة خاصة، وهو النفي الذي يتناقض مع رؤية مرتاديه الذين يعتبرونه سوقا أسبوعيا”.
ودوّن الدارس تجربة يحضر فيها الاتصال والانفصال داخل السوق، بين الانغماس في تجربة مألوفة وبين تدوينها بمسافةٍ، وكتب: “وإن كان يبدو السوق مفتوحا اجتماعيا فإنه في حقيقة الأمر منغلق على ذاته، ويستعصي على المرء فك انغلاقه أو اختراقه، خاصة في ما يتعلق بعلاقة التجار في ما بينهم، وما يقوم بينهم من صراع خفي على المجال وغيره، وكذا علاقة التجار بالسلطة المحلية التي تؤجر لهم الأرض”.
كما أشار الباحث إلى “الحضور الباهت جدا للنساء التاجرات”، فحتى لو حضرت “العديد من النساء المرتادات والمتسوقات” فإن من بينهن “عدد ليس قليلا من النساء الشابات المقبلات على الزواج” اللاتي “يرتدين لباسا يبدو ذكوريا إلى حد كبير، ومنهن من تخفي رأسها ووجهها، وبالتالي هويتها”.
ويتوقف الباحث عند خيم الألبسة المستعملة، كاتبا: “لها تقسيم اجتماعي للمجال، فمنها ما يقوم على الجنس، لمجال ‘البال’، وبعضها يعرض منتجات خاصة بالنساء، والبعض الآخر يعرض منتجات خاصة بالرجال، ومنها ما يقوم على متغير السن ومتغير الفئة الاجتماعية، في ما يخص أثمان السلع المعروضة؛ لكن ذلك لا ينفي وجود مجالات لـ’البال’ مفتوحة اجتماعيا، تستجيب لكل الفئات وتشبع رغبات الجنسين معا”.
وشرحت الدراسة الازدحام في هذه الخيم قائلة: “لا تفصل بينها إلا معابر ضيقة جدا، لا تستوعب مرور أكثر من شخصين أو ثلاثة، ما يلعب دورا مهما في خلق نوع من المؤانسة بين المرتادين، من خلال الاحتكاك والمواجهة وجها لوجه؛ فضلا عن الاختلاط الاجتماعي بين فئات اجتماعية متنوعة”.
وفي تأويل لما عاشه الباحث بـ”لحمرا”، كتب: “لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار الطابع الاقتصادي لهذا السوق، كما هو شأن جميع الأسواق التجارية، أكانت أسبوعية أو يومية، مهيكلة أو غير مهيكلة. (…) لكن لا يعني ذلك (…) اختزال السوق في منطقه الاقتصادي المحض؛ لأنه ليس ثمة سوق، بما في ذلك أحدث الأسواق الحضرية، لا يتضمن شيئا اجتماعيا، في بنيتها الداخلية، ما دامت تقوم على التبادل، وإن كان يبدو تبادلا اقتصاديا”؛ وهكذا فإن هذا السوق وإن لم يكن “مهيكلا اقتصاديا” فإنه “مهيكل اجتماعيا”.
ويميز الباحث “بين فعل التسوق وفعل ارتياد السوق”؛ لأنه “ليس كل مرتاد للسوق متسوق بالضرورة، وإن كان متسوقا فإنه يتسوق شيئا آخر غير المعروض في السوق من منتجات وسلع وبضائع مادية، أكان بوعيه أو بلا وعيه. هذا الشيء الآخر، قد يتمثل في “التْفْواج”، والمؤانسة السوقية (…) فضلا عن القيم الثقافية للسوق، التي تتضمن القيم المادية للسوق وتتخللها، كقيمة المساومَة أو “التشطار”، وقيمة “الهوْتَة”، وغيرها من القيم الثقافية الناجمة عن المعاملة التجارية السوقية”.
وحول البضائع المستعملة المعروضة، يكتب الباحث أن مرتادي خيمها لا يمكن حصرهم في دور “خلق نوع من التوازن الاجتماعي في نظام التراتب الاجتماعي، بين من لديه الإمكانية المادية لشراء ملابس ذات قيمة سوقية عالية ومن لا يملك ذلك”، نظرا لـ”الانفتاح الاجتماعي للسوق”، أي استيعابه منتمين إلى الطبقات الاجتماعية المتوسطة.
هنا يستدعي الباحث مفهوم “الهَوتَة” الذي “وإن كان يعبر هنا عن اختيار عقلاني اقتصادي فإنه لا ينبغي أن نغض النظر عن كونه قيمة ثقافية تُحيل على رجولة صائد ‘الهَوْتة’، ولو كانت امرأة، وشطارته، فتتحول إثر ذلك إلى ميسم اجتماعي مميز لصاحبه، ضمن الجماعة أو المجموعة الاجتماعية التي ينتمي إليها”.
وتعتبر الدراسة “السوق الأسبوعي” بمثابة “مجال اجتماعي للمقاومة”؛ أي “مقاومة الاقتصاد الليبرالي والليبرالي الجديد، الذي تتبناه الدولة المغربية بأجهزتها الاقتصادية الحديثة وسياساتها التحديثية والتنموية، بما في ذلك سياسة إعادة تأهيل الأسواق الأسبوعية، فضلا عن مقاومة فعلية لرتابة الحياة اليومية”.
هذه المقاومة، بالنسبة للباحث؛ ليست “فعلا سلبيا بالضرورة”، بل هي شكل من أشكال “الإبداع والخلق الثقافيين”.
كما أن هذا السوق “مجال اجتماعي للمقاومة”، لكونه “يزخر بإبداعات ثقافية”، مثل مسرَحة بيع الأثواب المستعملة، التي قدم مثالا عليها بالدراسة، إضافة إلى عبارات ذات طابع رمزي وديني من قبيل “بسم الله” و”الله يخلف” “الملازمتين لأي فعل تبادلي في السوق، كفعل تواصلي في العمق، من طرف البائع والمشتري معا، لكي نؤكد على الطابع الثقافي والرمزي للسوق، أو على الأقل للسوق المعني بالدراسة”.
ويترك الباحث سؤال مفتوحا في ختام دراسته هو: “ألا يمكننا اعتبار تفضيل شراء منتجِ الآخر المستعمل على المنتج المحلي الجديد بمثابة تعبير ثقافي ضمني عن هشاشة الصورة التي يرسمها المغربي عن نفسه، في علاقته بالآخر؟”.