حول قراءات تاريخ “الغرب الإسلامي” المتعددة، وخلاصاتها التي تحكم التصورات والبحث، أبرزت الباحثة فائزة البوكيلي مراحلها، قُبيل الاستعمار وفي المرحلة التي تلت الاستقلال، مقسّمة الأبحاث إلى “استشراقية” و”عربية” و”مغربية”.
هذه الدراسة المعنونة بـ”تاريخ الغرب الإسلامي بين الطرح الاستشراقي والطرح العربي – مقاربة نقدية” تضمنها كتاب “إفريقيا تفصح عن نفسها”، الصادر عن الجمعية المغربية للبحث التاريخي، وتقول إن “التجربة العربية” في مقاربة تاريخ هذه المنطقة “تبقى حديثة وفي مراحلها الأولى لبناء مسار كتابة مغاير للكتابات الاستشراقية”.
ورغم أن “السياق العام الموجّه للكتابات الاستشراقية ظل محكوما بهواجس عنصرية، وإثنية، ودينية”، إلا أن الباحثة ميزت بين أصناف من المستشرقين، ولو أنها أكدت أن استنتاجاتهم، أيا كانت، بفعل “امتياز السبق في البحث في تراث الإسلام، شرقه وغربه”، بصمت هذا التراث “بشكل وجه مسارات البحث إلى غير رجعة؛ فكانت النتيجة، عن قصد أو غير قصد، تشويه ماضي الشرق والغرب الإسلاميين على حد سواء، وذلك بتقطيع أوصال مراحل هذا التاريخ، وتدمير وحدته وحيويته حتى صار مشوَّها ومجزّءا ومفتقدا لعناصر التماسك والموضوعية”.
وحول المستشرقين، ميزت الباحثة بين ثلاثة أصناف، فمنهم من “اهتم بتراث الغرب الإسلامي وبتاريخه لدوافع دينية تنصيرية، وهو صنف متعصب وحاقد على الإسلام والمسلمين وعلى تراثهم ولغتهم، بل ووجودهم، ومرتبط ارتباطا وثيقا بالدوائر السياسية الاستعمارية وبالكنيسة”، والصنف الثاني “توجهه دوافع سياسية استعمارية، وهو على العموم تيار معتدل يزاوج في أبحاثه بين الموضوعية والانحياز المغلَّف”؛ أما ثالث أصناف المستشرقين فـ”رهاناته علمية وأكاديمية صرفة، وقد أخذ على عاتقه الدفاع عن حضارة الغرب الإسلامي وتاريخه دفاعا مستميتا”.
ورصدت الدراسة قراءاتٍ استشراقية لسيرورة تاريخ الغرب الإسلامي، سمتها الغالبة وسمه بـ”طابع البداوة، والعروبة، والخشونة”، ولم ترَ في نتائج “الحركة الهلالية” إلا “نكبة كبرى ابتلي بها المغرب وأثرت سلبا على تاريخه”، كما تناثرت فيها “الأحكام القاسية عن دولة المرابطين”، مع اتهامات طالت يوسف بن تاشفين، وخلفه عليا بن يوسف وغيرهما من المرابطين، بأنهم “اضطهدوا رموز الحضارة العربية، وطاردوا العلوم الفلسفية والكلامية، وحظروا قراءة الكتب وأحرقوها علنا”.
وحول الدراسات الشرقية لتاريخ الغرب الإسلامي، قالت الباحثة: “لا يمكننا إنكار فضل وأهمية الدراسات العربية الشرقية لتاريخ الغرب الإسلامي، خاصة في ميدان التحقيق”، وأضافت: “على الرغم من أن بعض هذه الدراسات لا تتسم بالعمق والدقة المطلوبين في تحليل الوقائع التاريخية فإنها، على كل حال، كانت سباقة للعناية بتراث المغرب الإسلامي، إذ استفادت من الزخم الموجود في المكتبات الغربية للوقوف على المخطوطات النادرة والنفيسة من أجل تحقيقها ونشرها؛ وبذلك تكون قد شكلت أرضية خصبة ستفيد لا محالة المؤرخين المغاربة”.
وقدمت الدراسة مثالا بدراسات حسن محمود، ومحمد شعيرة، وعصمت دندش، وإحسان عباس، وعبد الله عنان، وغيرهم من “رواد الكتابة في تاريخ الغرب الإسلامي”.
وأبرز المصدر ما حضر في هذه الدراسات من نفي لصفات “الجهل والبربرية” عن المرابطين والموحدين والمرينيين، وتفنيد لـ”الطرح الاستشراقي نقطة نقطة”؛ فـ”لم تعد محاربة المرابطين للبدع والموبقات تدميرا للحضارة الأندلسية، بل تطهيرا ورُقيا؛ كما أن إحراق كتاب الغزالي (…) صار لازمة من لوازم حزم السلطة وصيانة للوحدة الفكرية والمذهبية للعدوتين المغربية والأندلسية”، وغيرها من القراءات.
أما في الدراسات المغربية فذكرت الدراسة أن “حداثة مراكز البحث والجامعات بالمغرب” قد “جعلت اهتمام الدارسين المغاربة بتاريخ الغرب الإسلامي متأخرا”، وكانت “نقطة البداية مع بداية زوال مخلفات الاستعمار، ما أنعش الحركة الثقافية والفكرية الحديثة في المغرب”، علما أن “قاعدة البيانات الأولى في هذه الدراسات كانت قد تأسست على رصيد الكتابات العربية الشرقية”.
وتقول الباحثة إن “الكتابة في المغرب عن تاريخ الغرب الإسلامي جاءت (…) كنتيجة لتصفية الحسابات مع المستعمِر ومن يدور فلكه من أقطاب الحركة الاستشراقية”، عندما “شعر الرواد من المؤرخين المغاربة بأن الدفاع عن الهوية الوطنية لن يتأتى إلا بإنصاف المسار التاريخي المغربي برمته”.
هكذا، “تنوعت الحقول المعرفية بين المضامين الأدبية والفكرية، على نحو ما كتبه العلامة عبد الله كنون، وعباس الجراري، وابن تاويت، ومحمد بن شريفة، والبدراوي وغيرهم؛ وهي كتابات غطت جوانب مختلفة من النهضة الثقافية والأدبية التي عرفها الغرب الإسلامي (…) والمضامين التاريخية المؤَسِّسة ككتابات العروي، والقادري بوتشيش، ومحمد القبلي وغيرهم؛ بالإضافة إلى كم هائل من الأطاريح الجامعية التي تنوعت مواضيعها ولونت مقارباتها”.
هذه الأبحاث “ساهمت بشكل وافر في تطويق الصورة النمطية والدونية التي رسمتها الكتابات الاستشراقية عن تاريخ الغرب الإسلامي”، فلم تعد “قضايا مثل ترحيل المعاهدين المسيحيين يلفها كل هذا التهويل (…) بل حتى الصورة الباهتة التي رسمتها الدراسات الاستشراقية عن حكم المرابطين خفت بريقها (…) ثورة ابن قسي وابن مردنيش، مثلا، وما رافقها من مبالغات، خضعت للتأطير النسبي حتى غدت حدثا من الأحداث التي أثثت سيرورة المرحلة، لكن دون أن تحدث انقطاعا في البنية التاريخية”.
ورغم هذا الغنى البحثي الأكاديمي إلا أن الدراسة نبهت إلى أن “من الدراسات المغربية ما انحاز بشكل من الأشكال إلى طروحات المستشرقين، لكنها قلة”، ثم أجملت القول: “وعلى كل حال فهي ظاهرة حيوية تُبقي الشعلة متقدة لمزيد من الحذر والاحتياط”.