في سنته التاسعة بعد السبعين، رحل محمد عمراني حنشي، بعدما كان باحثا، ومثقفا، وفقيها، حمل لواء التجديد، بعيدا عن الانتماءات المغلقة، وبعدما عاش ورحل بعيدا عن الأضواء، إلا من اسمه الذي يعلو مشاريع وكتابات تتضمن أطروحات حادة، ومجددة، ومختلفة، وفق مهتمّين بفكره.
عمراني حنشي، الذي حصل منذ ما يقرب من 40 سنة على شهادة الدكتوراه في تخصص علمي من جامعة أمريكية هي “فلوريدا ستيت يونيفرسيتي”، كان موسوعي التكوين؛ فعلى الرغم من تخصصه في الأرصاد الجوية الديناميكية الذي أهّله للإشراف على مشاريع مرتبطة بالمناخ والماء داخل المغرب وخارجه، فإنه بحث وكتب في مفهوم العلم عبر التاريخ، والهندسة الحديثية، والفكر المعاصر بالمنطقة المغاربية والعربية، والتأويل.
أول ما يميز الفقيد، وفق الباحث والأستاذ الجامعي سلمان بونعمان، “موسوعيته”؛ فقد جمع “بين التكوين في العلوم التقنية الدقيقة، وما بين العلوم الشرعية والفقهية، وما بين العلوم الإنسانية، وله كتب في التاريخ وتاريخ الأديان ومقارنتها، وفي الاستشراق والفكر الإسلامي”.
وأضاف بونعمان، في تصريح لـ هسبريس، أن تميز عمراني حنشي لا يتجلى فقط في “تكوينه الموسوعي”؛ بل أيضا في “انفتاحه على العلوم الأخرى عن طريق تمكنه من اللغات، لأنه كان يتكلم الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، والعربية طبعا”.
ثاني ما ميز الراحل، حسب المصرح، هو “أنه كان يحمل مشروع التجديد، ويعتبر عملية التجديد التي مورست غير أصيلة ومنتحلة، سواء في العلوم الشرعية أو الفكر الإسلامي؛ وبالتالي كان يقود عملية إعادة بناء الإسلام من جديد وفق منظور أصيل ومتحضّر”.
وفي هذا الإطار، استحضر بونعمان كتاب “الخراصون.. أصنام المشاريع الفكرية”، قائلا إن فيه “انتقادا عاما للجميع بالأدلة، إلى درجة العدمية، من الحداثيين إلى الإسلاميين والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، والشيعة… بتصور مستقل لعملية التجديد وإحياء الأمة، مختلف عن التيارات الإسلامية والسلفية وغيرها؛ وهو ما جعل في خطابه نوعا من الحِدّة والصلابة، والشجاعة في الدفاع عن آرائه مع سَوق الأدلة والحجج والاستدلالات القوية”.
ثالثة المسائل التي تميز بها الراحل محمد عمراني حنشي، وفق المصرح، تكمن في “المسألة الأخلاقية؛ فالرجل كان ممتلئا بأخلاق الزهد والتواضع والإخلاص، فبعد سفره إلى الخارج، وعلى الرغم من الإغراءات الهائلة لتخصصه التقني ومشاريعه التي أشرف عليها في المغرب والسعودية، فإنه قرر فجأة وقف مساره، والتفرغ النهائي للكتابة والتأليف، وفي هذا زهدٌ وتواضع وإخلاص لمشروعه الفكري والعلمي، بشكل يميل إلى شكل العزلة الصوفية”.
وواصل المتحدث: “الغريب هو أنه مع هذا الجسد المليء بالأمراض، ومع الروح القوية المتألقة بالكتابة، والإخلاص والتواضع، عندما تقرأ كتبه تحس بأن لهذا الرجل المتواضع شجاعة أدبية وفكرية هائلة، في لغته ومراجعه وإقناعه وفي نقد المشاريع الأخرى التي يراها وبالا على الأمة”.
وفضلا عن إسهامات الباحث الراحل في “العلوم الكونية” و”تاريخ الأديان” و”العلوم الاجتماعية”، قدم بونعمان مثالا بـ”الهندسة الحديثية” التي “أثار بها ضجة، وكانت عملا هائلا استعمل فيه الحوسبة، وأحدث انقلابا رهيبا في علم الحديث، حيث أخذ الرواة والمتون وحوسب كل ذلك، ودققه، وأخرج من “البخاري” عددا من الأحاديث غير المضبوطة علميا”.
رغم كل هذا، تأسف سلمان بونعمان لكون الفقيد قد “ظل مغمورا، ولم يُكتشَف، وكان يعاني أشكالا من الإقصاء والتهميش، فقد قمتُ بمحاولات مع دورِ نشر لكنها لم تنجح لغرابة أفكاره، وقوة طرحه، ونقده للجميع إلى درجة العدمية. وهو ما يضاف إليه أنه لم يكن ينتمي إلى تيار إيديولوجي أو طائفي، وهو ما أثر على تسويقه والتعريف به، علما أن رموزا معروفة قد اكتسبت الشهرة عبر حواريّيها وأتباعها، بالمنطق الطائفي في الدعم”.
بقاء هذا الباحث مغمورا فسره بونعمان بأمرين “فمن جانب هناك شخصيته الغامضة والمركّبة، فهو لم يكن يريد أن يحسب على أي هيئة، ومن جانب آخر لم تبذل المؤسسات مجهودا لتخرجه وتعرّف به”.
ثم استرسل قائلا: “من المؤسف أننا نتحدث عن الناس، ونعرف بهم، ونتألم لإقصائهم بعد رحيلهم. نحن مبدعون في الحديث والبحث عن الاعتراف بعد رحيل الكبار، بدل أن نكرمهم ونحتفي بهم وهم أحياء”.
وأجمل سلمان بونعمان قائلا في ختام تصريحه إن المغرب في حاجة إلى “مبادرات مدنية وعلمية وثقافية، تخصصها الأساس اكتشاف هذه الطاقات والكفاءات المغمورة في المغرب التي لها حساسية من الأضواء، ككنز وطني ورأسمال لا مادي، وكعقول إستراتيجية ذات خبرة وقدرة على البحث والتنقيب، ولم لا يتحول هذا من عمل مدني مجتمعي إلى عمل رسمي لاستقطابهم، والتعريف بهم، وإعادة طبع أعمالهم في حلل أنيقة، ويكون هذا الأمر خارج دوائر الإيديولوجية الضيقة وخارج آفاق الحسابات السياسية المغلقة وخارج المنطق الطائفي؛ لأن هذا كنز مغربي مهم ومفيد كمصدر لمواجهة التحديات الفكرية والحضارية والثقافية التي تواجه المغرب كثقافة وأمة”.