إذا كانت التحولات التقنية المعلوماتية لم تستثن المغرب من تأثيرها، فإن ذلك قد حتم عليه الاٍنخراط في التحول الرقمي منذ سنوات، وذلك بتبنيه جملة من الاستراتيجيات الوطنية، وما زاد من ضرورة التحول الرقمي ما عرفه العالم جراء تفشي وباء كوفيد 19، الذي ألزم سكان العالم منازلهم ضمن التدابير المتخذة لمنع اٍنتشار هذا الفيروس، وتطبيقا لتدابير الحجر الصحي في المغرب والوضعية الناتجة عن الطوارئ الصحية وتقييد الحركة، أصدرت السلطات الوصية مجموعة من النصوص التنظيمية تقرر فيها اعتماد الرقمنة والتكنولوجيا في الإدارات العمومية حفاظا على استمرارية المرفق العام في أداء وظائفه وخدماته للمرتفقين بشكل متساو. في هذا السياق، لم يكن قطاع العدل بمعزل عن المتغيرات التي أحدثتها النكسة الوبائية، إذ أن تداعيات الجائحة امتدت حتى مست هذا القطاع، الشيء الذي حتم عليه وقف نشاطاته والتفاعل مع جميع الإجراءات الٍاحترازية التي تتخذها الحكومة، بالإضافة إلى تسخير الثورة الرقمية لحماية صحة المتقاضين وجهاز العدالة من قضاة وموظفين ومحامين ومتهمين، وذلك بالحد من التنقل بين المحكمة والمؤسسات السجنية، وما يمكن أن يكون ذلك سببا في نقل عدوى هذا الفيروس أو إصابتهم به، خاصة بعد ظهور العديد من البؤر الوبائية داخل السجون بالمملكة.
ولأن مرفق القضاء لا يمكن أن يتوقف عن العمل، فقد عمل على البدء بتفعيل التقاضي الإلكتروني بواسطة توظيف المحكمة الرقمية كوسيلة بديلة للتنقل الفعلي والسفر إلى المحاكم، علاوة على إجراء المحاكمة عن بعد بالنسبة للمعتقلين، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات قانونية وتنظيمية أخرى حماية للحقوق من الضياع وفوات فرصها وأجالها أهمها اٍحداث خدمات قضائية إلكترونية عن طريق تكنولوجيا المعلومات لتيسير الخدمات الإدارية والقضائية للمرتفقين المتقاضين.
هكذا، فلا مناص من الوقوف عند الإشكالات التي تطرحها المحكمة الرقمية، كإجراء مسهل للوقاية من انتشار وباء كورونا، من خلال دراسة مدى اٍنعكاس حضور الثقافة الإدارية على تحديث الخدمات الإلكترونية في المحاكم، بحيث أن للمعطى الثقافي والسوسيولوجي دورا هاما في تحديث الإدارة الإلكترونية، لذلك أصبح من اللازم مقاربة هذه المتغيرات المتداخلة في ما بينها، باعتبار أن عدم -اٍلمام الإداريين- بوصفهم موارد بشرية بالثقافة الإدارية الإلكترونية، ناهيك عن ضعف رصيدهم المعرفي والتكويني من شأنه أن يعطل مهمة تحديث الإدارة القضائية بما فيها تبسيط المساطر والإجراءات وتقديم الخدمات للمرتفقين والمتقاضين، وبالتالي فسح المجال لسيادة مظاهر التقليدانية من علاقات الهيمنة وتوظيف سلبي للسلطة في التنظيم الإداري القضائي.
وعلى هذا الأساس سنحاول مقاربة هذا الموضوع والإحاطة بكل هاته المؤشرات من خلال الاٍعتماد على التصميم التالي:
المحور الأول: المحكمة الرقمية كأساس لاستمرارية مرفق العدالة في ظل الجائحة
المحور الثاني: آليات تحسين الخدمات القضائية اٍلكترونيا وسؤال الثقافة الإدارية الإلكترونية
تحتل الرقمنة والثقافة الإدارية الإلكترونية ثنائية مفاهيمية مرتبطة في ما بينها، فبدون حضور ثقافة إدارية مكتملة، لا يمكن استخدام الوسائل التي توفرها الرقمنة سواء من جانب الموظفين والمرتفقين، فأغلب المعيقات التي تواجهها الإدارة المغربية والإدارة القضائية بالخصوص تعود أسبابها إلى البيروقراطية المفرطة التي تكتسح جل الإدارات وغياب مستوى معين من الثقافة الإدارية، وعليه سنتطرق إلى المحكمة الرقمية كأساس لاستمرارية مرفق العدالة في ظل الجائحة (المحور الأول)، وسنتناول متغير الثقافة الإدارية الإلكترونية في علاقته بالخدمات القضائية الإلكترونية (المحور الثاني).
المحور الأول: المحكمة الرقمية كأساس لاستمرارية مرفق العدالة في ظل الجائحة
تتجلى أهمية المحكمة الرقمية في كونها تضمن استمرارية هذا المرفق في ظل الجائحة، عن طريق اعتماد اٍجراء التقاضي عن بعد، وهو ما سيكون له دور فعال في حماية الحريات والحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين، بٍاعتبار أن القضاء هو الساهر على حمايتها وضمان الأمن القضائي والتطبيق السليم حسب منطوق الفصل 117 من دستور 2011.
وما يؤكد كذلك أهمية المحكمة الرقمية ودورها في استمرارية مرفق العدالة، هو البلاغ الصادر عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية حول نتائج الأسبوع الأول من اعتماد عملية التقاضي عن بعد بمختلف محاكم المملكة، اٍذ أكد البلاغ على إيجابية النتائج المحققة خلال الأسبوع الأول منذ بداية هذه العملية، حيث تم عقد ما مجموعه 240 جلسة عن بعد بمختلف الدوائر القضائية بالمملكة بمعدل يومي وصل إلى 903 قضايا.
وقد استفاد من هذه المحاكمات عن بعد خلال هذا الأسبوع الأول 4005 معتقلين بمعدل يومي وصل إلى 1001 معتقل، وقد قامت محاكم المملكة سواء الابتدائية أو الاستئنافية بالبت في 1222 قضية بمعدل وصل إلى 306 قضايا يوميا.
الأمر نفسه أكده البلاغ الثاني المتعلق بتتبع المحاكمات عن بعد بمختلف محاكم المملكة خلال الفترة الممتدة من 4 إلى 8 من شهر ماي، حيث تم عقد 306 جلسات عن بعد، أدرجت خلالها 4786 قضية وتم البت في 1868 منها، وقد استفاد من هذه العملية 5216 معتقلا، تمت محاكمتهم عن بعد دون الحاجة إلى نقلهم إلى مقرات المحاكم، تفاديا لكل المخاطر الصحية المحتملة في هذه الظرفية الاستثنائية، كما تم الٍافراج عن 225 منهم لأسباب مختلفة.
بناء على المعطيات الإحصائية سالفة الذكر، يتضح جليا أن المحكمة الرقمية في ظل جائحة كورونا تساهم بشكل فعال في تكريس الأمن القضائي والقانوني، من خلال ضمانها لاستمرارية مرفق العدالة، والمساهمة في احترام شروط الصحة والسلامة للمعتقلين ولكل مرتفقي العدالة.
المحور الثاني: آليات تحسين الخدمات القضائية إلكترونيا وسؤال الثقافة الإدارية الإلكترونية
بهدف عصرنة أساليب الإدارة القضائية، اشتغلت وزارة العدل على مشروع كبير يهدف إلى إقامة إدارة قضائية احترافية ومؤهلة، وإرساء مقومات المحكمة الرقمية وتحديث الخدمات القضائية، وتوفير التجهيزات والبرامج المعلوماتية بالإضافة إلى تتبع نتائجها بالمحاكم، ووضع وإنجاز المشاريع الهادفة إلى تحديث الإدارة القضائية وتطويرها وكذا تحسين خدماتها، وذلك في ظل جائحة كورونا التي فرضت ضرورة وضع رؤى رقمية لتدبير الأزمات.
ومن الجهود المبذولة لتحديث الإدارة القضائية اعتماد بعض التطبيقات والبرامج المعلوماتية بما فيها المواقع الإلكترونية التي تشكل محور المنظومة المعلوماتية للإدارة القضائية ومن بينها:
1- على مستوى البرامج والتطبيقات الإلكترونية نجد:
– برنامج تدبير القضايا المدنية والزجرية وصناديق المحاكم “الساج” système automatisé des juridiction “:
الذي يعتبر أهم مشروع معلوماتي لوزارة العدل إذ سيساهم بشكل فعال في تقليص المعاملات الورقية وتسريع العمل الإداري والقضائي.
– تطبيق الخدمات القضائية الإلكترونية الخاصة بالهواتف الذكية: justice mobile الذي يقدم مجموعة من الخدمات كخدمة تتبع القضايا، خدمة الاطلاع على مآل طلبات السجل العدلي. خدمة الاطلاع على لائحة الإعلانات القضائية، خدمة السجل التجاري:
على مستوى المواقع المخصصة للخدمات الإلكترونية نجد:
– الموقع الرسمي للوزارة على شبكة الأنترنيت www. justice .gov.ma
الذي لعب دور المنصة الإخبارية لتتبع أنشطة القطاع، ونشر البيانات والبلاغات ومختلف المستجدات المرتبطة بمنظومة العدالة.
– موقع محاكم www.mahakim.ma الذي يقدم مجموعة من الخدمات على سبيل المثال لا للحصر: التعريف بالخريطة القضائية لمحاكم المملكة، خدمات إلكترونية عبر الخط، تحميل نماذج مطبوعات طلبات.
– البوابة القانونية والقضائية للإدارة لوزارة العدل http/adala.justice.gov.ma
باعتبارها خزان المعطيات والبيانات القانونية والقضائية، إضافة إلى تمكينها من وضع المعلومة القانونية والقضائية رهن إشارة العموم، وخيارات متعددة للبحث في نصوص قانونية من اجتهاد قضائي… إلخ.
نستنتج مما سبق أن الحديث عن أهمية تقديم الخدمات القضائية بصفة خاصة إلكترونيا، مازال يطرح العديد من التساؤلات بغض النظر عن جملة المقترحات التي قدمتها السلطات المعنية لتنزيل هذا الورش الجديد المتعلق بالإدارة الإلكترونية ويتمثل أساسا في المحكمة الرقمية، نظرا لعدة اعتبارات لها علاقة بجودة الخدمات الإلكترونية المفترض أن تقدم لفائدة المرتفق أو المتقاضي، تتجلى في مدى حضور الثقافة الإلكترونية بما فيها الثقافة الإدارية المطلوبة في صفوف الإداريين، فغياب حد أدنى من الثقافة الإدارية والقضائية من شأنه بلا شك أن يعيق عملية التقاضي برمتها في صفتها الحضورية أو المقامة عن بعد، مما قد يستوجب تأهيل القدرات التقنية والمعلوماتية، ليس فقط للعاملين داخل المحكمة ولكن لكافة مكونات العدالة، لا سيما المحامين والمفوضين والخبراء القضائيين، بهدف مواكبة هذا التطور التكنولوجي، لاستخدام الوسائط الإلكترونية بشكل فعال.
فلا أحد بإمكانه أن ينكر فداحة الجهل بالقواعد المعمول بها بالمحاكم على حقوق المرتفقين المتمثلة في تيسير وقضاء خدماتهم. علاوة على الأهمية البالغة التي يحظى بها مؤشر الثقافة الإدارية في التدبير الإلكتروني للشأن القضائي كمدخل لتحقيق متطلبات العدالة، وفي المقابل أبانت الجائحة عن دور المحكمة الرقمية ليس فقط في تجاوز السلبيات التي تطبع عمل المحكمة الاعتيادي، بل حتى على مستوى ضمان استمرارية الجهاز القضائي في تقديم خدماته للمرتفقين، ما أحيا سؤال رقمنة الإدارة القضائية وأعاده من جديد إلى الواجهة، فأصبح بذلك على رأس النقاشات المصاحبة لأزمة جائحة كورونا العالمية ورهان استمرار عمل مرفق العدالة انسجاما مع معايير الممارسة الديمقراطية في الحقل العدلي.