تحول قطاع التكنولوجيا الحيوية إلى أحد مجالات التنافس بين القوى الكبرى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، لاسيما مع ما يحققه هذا القطاع من فوائد اقتصادية وتكنولوجية وطبية، فضلاً عما يسهم به في تأمين مصالح الأمن القومي للدول. ويأتي في هذا الإطار ما طرحته الكاتبة كارول كونتيز في تقرير نشره مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية CSIS تحت عنوان “التحرير الهادف للجينات الوراثية”.
وتناول هذا التقرير التقدم التقني الحاصل في تحرير وتطوير الحمض النووي بشكلٍ هادف لإنتاج مكونات جديدة ذات سمات مرغوبة ومحددة، والتي يمكن من خلالها خلق جزيئات “مفيدة” تؤدي لإنتاج مواد جديدة يمكن استخدامها مثل، الأقمشة ذاتية الإصلاح أو البلاستيك غير المصنوع من المنتجات البترولية أو أجهزة الاستشعار الحيوية، كما يمكن استخدامها لإنتاج علاجات مخصصة للأمراض الجديدة أو القضاء على الأمراض الوراثية.
وتعتمد تلك التقنيات على استخدام خوارزميات الطب الدقيق والتعلم الآلي لتحسين استراتيجيات العلاج، وتحديد السبب الجيني وراء الأمراض أحادية الجينات والأمراض متعددة الجينيات وهي الأكثر تعقيداً، هذا بجانب علاج الأمراض الوراثية والأمراض السرطانية.
وأكدت الكاتبة أهمية أن يصبح للولايات المتحدة الأمريكية دور في تطوير التقنيات الحيوية الحاسمة وأنظمة التعلم الآلي، والتي تساهم بشكل كبير في فهم أسباب الأمراض الوراثية من خلال قطاع تجاري وأكاديمي معولم لسد الفجوة لديها في تحرير الحمض النووي لتصبح قطاعاً اقتصادياً مهماً يساهم في استمرار دورة الابتكار وتمكنها من تشكيل مستقبلها الاستراتيجي بشكلٍ إيجابي على المستويين الداخلي والخارجي.
عوائق أمريكية:
تناولت كونتيز في تقريرها فشل البرامج الأمريكية الحالية في الاستفادة بشكل كامل من التقدم العلمي الحالي، مؤكدة أنه على الرغم من مكانة الولايات المتحدة كدولة رائدة في الاكتشاف والابتكار، فإنها تفتقر إلى وجود قواعد بيانات قوية ومنظمة من الجين البشري يمكن الاستعانة بها، وكذلك للخبرات الفنية اللازمة للحفاظ على ريادتها والمساهمة في ترجمة الاكتشافات العلمية المختلفة إلى تطبيقات متطورة.
وأبرزت الكاتبة الحاجة المُلحة لدى وزارة الدفاع الأمريكية لإجراء إصلاحات هيكلية للتكنولوجيات الناشئة في نهجها، لا سيما من خلال إنشاء مسارات وظيفية لموظفيها، وإلا فإنها ستستمر في الفشل في جهودها الساعية لدمج التقنيات الناشئة في مفاهيمها التشغيلية وميزانياتها وبرامجها، وبالتالي سيؤدي إلى تقلص القدرات الأمريكية، لا سيما بالمقارنة مع الصين، وقد تناولت الكاتبة بعض المعوقات التي تحد من الإمكانات الأمريكية في هذا القطاع الحيوي، ومنها:
1) صعوبة إنشاء قواعد بيانات يمكن استخدامها في التجارب والمشاريع التكنولوجية الهادفة لعدد من العوامل، منها، نظام الرعاية الصحية المجزأ وحقوق الخصوصية وحقوق الملكية.
2) الافتقار لإطار عمل سياسي مناسب يحمي بعض البيانات المهمة للمستهلكين التي تحصل عليها الشركات الخاصة مقابل تقديم خدمات “مجانية”، كما لا تتيح هذه الشركات أنواعاً أخرى من البيانات للمنظمات غير الربحية المسؤولة عن تطوير الشأن العام داخل البلد.
3) عدم وجود إمكانية لمشاركة بيانات العملاء المعنية بقطاع التكنولوجيا الحيوية مع دول الحلفاء مثل الاتحاد الأوروبي، والذي تخضع بياناته للوائح حماية البيانات العامة (GDPR).
4) سعي الكيانات الأمريكية بشكلٍ روتيني الحصول على خدمات التسلسل الجيني منخفضة التكلفة لصالح منشآتها، في الوقت الذي يمكن لشركات التكنولوجيا الحيوية الصينية في كثير من الأحيان توفيرها بفضل الإعانات الحكومية الصينية.
5) الرفض الشعبي الأمريكي لفكرة تحرير الجينات الوراثية (HHGE) أو إحداث تغييرات فيها واعتبار ذلك قضية أخلاقية وثقافية مثيرة للقلق، وفي ظل تباين استجابة الحكومات والمجتمعات المختلفة لهذه القضية، فإن بعض البرامج الوطنية الهادفة، بما في ذلك الأبحاث التي يُسمح بها بموجب معظم المعايير العلمية الموصي بها، تصبح مقيدة.
تنافس صيني:
تناولت الكاتبة موقف الصين وظهورها كمنافس استراتيجي للولايات المتحدة في قطاع التكنولوجيا الحيوية، حيث تتمتع الحكومة الصينية بإمكانية كبيرة في الوصول لبيانات مواطنيها بسهولة، إذ استطاعت جمع وتوحيد قواعد البيانات الخاصة بسكانها البالغ عددهم 1.4 مليار فرد، خاصة أنها لا تعترف بحقوق الملكية لبيانات مواطنيها مقابل احتياجات الحكومة، كما لا تهتم بحقوق الملكية الفكرية الأجنبية.
وفي الوقت الذي تقدم فيه الصين صورة استبدادية في التعامل مع بيانات مواطنيها وخصوصياتهم عكس سياسة الولايات المتحدة، إلا أنها تدمج جميع أنواع البيانات الشخصية في قواعد البيانات الحكومية لعدة أغراض، بما في ذلك نظام “الائتمان الاجتماعي”. وأفادت الكاتبة أن الصين قامت أيضاً بجمع مجموعات كبيرة من بيانات الرعاية الصحية من الولايات المتحدة وأمن عدد من الدول حول العالم باستخدام كل من الوسائل القانونية وغير القانونية لتعزيز اكتشافاتها الطبية الجديدة وتطوير إمكانات الطب الدقيق واستخدامات الذكاء الاصطناعي لديها، إضافة إلى تطوير العلاجات التي قد يكون لها عائد تجاري كبير، مستشهدة بما ورد عن الاستخبارات الأمريكية أن اختبار ما قبل الولادة المستخدم في جميع أنحاء العالم أتاح للصين الوصول إلى الجين الوراثي الخاص بثمانية ملايين امرأة.
وأكدت الكاتبة أنه على الرغم من الرفض الشعبي لفكرة تحرير أو التلاعب في الجين البشري، فإن الصين تسمح بإجراء أبحاث عن الجينات الوراثية (HHGE) وهو الذي لا يُسمح به حالياً في أماكن البحث الرئيسية في الولايات المتحدة، مشيرة لواقعة معاقبة الصين للعلماء الذين قاموا بتعديل الجينات الوراثية للتوائم، في حالة مثيرة للجدل عام 2018.
وأشارت الكاتبة إلى أن كلاً من الصين والاتحاد الأوروبي لديهم أطر سياسات قائمة معنية بإنشاء قواعد بيانات قابلة للاستخدام في الأبحاث العلمية، وأشارت إلى أن الولايات المتحدة مستبعدة من قاعدة البيانات تلك، خاصة في الاتحاد الأوروبي بعد وضعها القانون العام لحماية البيانات (GDPR) الذي يمنع مشاركة البيانات مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وأكدت أنه بالرغم من السياسة المتساهلة للولايات المتحدة إلى حدٍ كبير فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، فإن الاتحاد الأوروبي والصين يقومان ببناء مجموعة شاملة من القواعد والمعايير على المستوى المحلي، تزيد من الاستبعاد المفروض ذاتياً في الولايات المتحدة بسبب فشلها في صياغة بيئة سياسية تسهل إنشاء قواعد بيانات تتسق مع القيم الوطنية.
كما أبرزت الكاتبة الجدل الدائر حول ما إذا كانت قضية التلاعب في الجينات أمر وراثي أم غير وراثي وإذا كان ينعكس ذلك في الحمض النووي الموجود داخل خلايا البويضة أو الحيوانات المنوية أو الجنين، وإذا كان يتم تمريرها إلى النسل فيما بعد، مشيرة إلى أن التعديلات الجينية غير المتوارثة، والمعروفة أيضاً باسم التعديلات على الخلايا الجسدية، تحمل وعداً هائلاً لعلاج الأمراض البشرية وتسمى عموماً “العلاج الجيني”، وهو الذي يُعد أمراً مناسباً، إذا استمر بما يتفق مع معايير البحث الطبي الصارمة لعلاج البشر، وأكدت أن مثل هذا التقدم في هذه المجالات سيفيد المرضى الذين يعانون الأمراض السرطانية، كما من المتوقع أن تكون هذه العلاجات مصدراً مهماً للربح وفرصة لتعزيز الابتكار لدى شركات الأدوية العالمية.
لكنها عادت وأثارت بعض المخاوف من تهرب مختلف الدول من الالتزام بالمعايير الطبية المنصوص عليها في الاتفاقيات حال فشل عمليات التفتيش الدورية أو التدابير التقنية الأخرى لضمان الالتزام بأي معايير بشكل موحد عالمياً، وأكدت أنه من غير المضمون أن تتخلى بلدان أخرى عن استخدام تقنيات التكنولوجيا الحيوية حال قررت الولايات المتحدة لأسبابها الخاصة التخلي عن استخدام هذه التكنولوجيا.
مقترحات أساسية:
على أساس ذلك السباق الأمريكي – الصيني في مجال التكنولوجيا الحيوية، ذكرت الكاتبة بعض المقترحات لسد تلك الفجوة في القدرات التكنولوجية الأمريكية الحالية، منها:
1) أهمية توافر استراتيجية لدى وزارة الدفاع الأمريكية حول التكنولوجيا الحيوية، بحيث تتضمن أولاً، إجراء إصلاحات هيكلية تُمكِّنها من دمج التقنيات المتطورة من القطاعين الأكاديمي والتجاري في مفاهيمها التشغيلية وبرامجها وميزانياتها بشكلٍ سريع، وثانياً، أن تسعى جاهدة لضمان صلابة وصحة القطاعين المدني والأكاديمي داخل الولايات المتحدة.
2) خلق بيئة تسهل إنشاء قواعد بيانات للمواطنين، مع الحفاظ على القيم الوطنية للدولة، هذا بجانب تغيير القوانين والحوافز التي تحول دون إتاحة البيانات المهمة والتي يتعذر الوصول إليها حالياً، وإنشاء نماذج تنظيمية جديدة للشراكات بين القطاعين العام والخاص لإدارة البيانات الحساسة، وتعيين جهة حاكمة رفيعة المستوى للفصل في المشكلات التي تم تحديدها حديثاً وحلها بشكل صحيح.
3) وضع معايير دولية لتحرير الجينات الوراثية (HHGE)، لتتمكن الأبحاث الأمريكية من المُضي قدماً في الاستخدامات المشروعة لتلك المعايير، ومقاومة الاستخدامات غير المشروعة من قبل الآخرين.
4)عقد اتفاقيات قانونية تنص على إمكانية مشاركة البيانات وتوسيع نطاق الاستفادة منها مع دول الحلفاء كالاتحاد الأوروبي.
5) تحتاج حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى تنفيذ سياسات جديدة تعمل على تطوير تقنيات التعلم الآلي والتكنولوجيا الحيوية، ولكن بطرق تتفق مع قيمها كدولة وهي القائمة على الحرية والمساواة والتنوع.
6) توفير التدريب التقني للباحثين من الدول الأقل تقدماً مع تعزيز المعايير المتفق عليها بشأن الاستخدامات المناسبة للتكنولوجيا الحيوية لضمان الالتزام بالمعايير الصحيحة للعلاج الطبي، ويمكن للمنظمات الفنية ومنظمات المجتمع المدني أن تلعب بعد ذلك دوراً في رصد مدى تنفيذ الدول للمعايير.
7) طرح حزمة من السياسات والحوافز الخاصة بشركات القطاع الخاص مثل؛ براءات الاختراع وإتاحة اللجوء إلى قواعد بيانات كبيرة من بيانات المرضى المحمية وأيضاً حق “الملاذ الآمن” لحقوق الملكية الفكرية، وذلك لتحفيزهم على مشاركة هذه البيانات مع المنظمات غير الربحية التي تبني وتدير قواعد بيانات علوم الحياة.
وأشارت الكاتبة أيضاً إلى المنظمات غير الربحية على غرار البنك الحيوي في المملكة المتحدة والمعروف باسم “بنك بيوبنك” كأحد الخيارات التي ينبغي النظر فيها والتي تمتلك قاعدة بيانات للجينات الوراثية القابلة للاستخدام، مشيرة إلى أن هذه واحدة من أنجح مصادر البيانات الطبية ومخزون للجينات الوراثية، فهي تحتوي على حوالي 500000 جين وراثي، وتاريخ طبي واسع النطاق، وكلها متاحة على نطاق واسع للبحث، واقترحت الكاتبة إمكانية تأسيس مختبر وطني أو اتحاد من الجامعات البحثية الكبرى في الولايات المتحدة يمكنه إدارة إنشاء واستدامة قاعدة بيانات مماثلة للصحة العامة داخل الولايات المتحدة.
كما أفادت الكاتبة بأهمية تنفيذ العديد من هذه الإصلاحات حتى في غياب الصين كمنافس استراتيجي، مؤكدة أنه مع وجود مثل هذا المنافس، فإن التأخير والخطأ في صياغة وتنفيذ هذه السياسات يمكن أن يكون خطيراً، حيث إن العديد من هذه التقنيات حالياً في مسار مقلق والوقت ينقضي لجعل هذا المسار أكثر ملاءمة للولايات المتحدة.
واختتمت الكاتبة تقريرها بأن جمع وتحليل مجموعات كبيرة من بيانات الحمض النووي من قبل مجموعات سكانية متنوعة يساعد في تعزيز الاكتشافات الطبية الجديدة والعلاجات التي يمكن أن تكون لها قيمة تجارية كبيرة، كما أنها تعزز تقنيات الذكاء الاصطناعي والطب الدقيق، وهو ما يستوجب على وزارة الدفاع الأمريكية العمل على تحسين قدراتها للاستفادة من أي تقدم في العلوم الدولية ودعم بنيتها التحتية في مجالات التكنولوجيا الحيوية المختلفة من خلال قاعدة بيانات قوية وجيدة التنظيم لتسهيل الوصول للمعلومات الصحية اللازمة.