قال محمد مزوز، أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن “الأستاذ سبيلا لم يكن سجين مذهب خاص، ولا حشر نفسه في ملة عقائدية بعينها، ولا نافح عن رؤية ضيقة”، موضحا أن “الأستاذ سبيلا كان منتسبا، بالفعل وبالقول، إلى ‘قبيلة الحداثة’، منافحا ومدافعا، مبشرا بنتائج احتضانها، منذرا بعواقب رفضها”.
وفصّل مزوز، ضمن مداخلة له في ندوة انعقدت بالدار البيضاء تكريما للراحل محمد سبيلا، في “ثلاثة أنماط رئيسية من التوتر الذي يميز حياة الترحال في أروقة الحداثة (النفس والنص والراقع)، بالرغم مما يبدو في الظاهر من استمتاع المتجول داخل تلك الأروقة بمظاهر الانجذاب الأخاذ”.
وختم محمد مزوز مداخلته بالإشارة إلى أن “الأستاذ سبيلا استخلص الدرس من التجارب عندما قلّب النظر في تلك الفترات التاريخية التي مرت منها دعوات التحديث، وانتهى إلى قناعة مفادها أن مجتمعاتنا تعيش وضعية بينية، وهي وضعية تاريخية مشوهة تتميز بورود حداثة وافدة من خارج لا تعطي أية مردودية بعدما تم تشغيلها في الداخل”.
هذا نص المداخلة:
طُلب من الأستاذ سبيلا – ذات حوار- أن يصنف نفسه “إلى أي القبائل الفكرية” ينسُب نفسه، فكان جوابه مقتضَبا وملخِّصا لجُماع تجربته؛ قال: “أنا جوّال فكريا”(ذاكرة عبور، 303). ومعنى هذا أن الرجل لم يكن سجين مذهب خاص، ولا حشر نفسه في ملة عقائدية بعينها، ولا نافح عن رؤية ضيقة؛ بيد أن هذا التجوال الفكري لم يكن هلاميا بدون معالم، ولا بوهيميا بدون هدف، ولا تنقلا بدون قصد؛ كما قد يوهمنا الجواب المختصر. لقد كان الأستاذ سبيلا منتسبا، بالفعل وبالقول، إلى “قبيلة الحداثة”، منافحا ومدافعا، مبشرا بنتائج احتضانها، منذرا بعواقب رفضها؛ غير أن هذا الانتساب لم يكن جارفا إلى حد التفكير في بناء مشروع أو صرح نظري، يكون بمثابة رمز أو نصب تذكاري ل”قبيلة الحداثة”. فالحداثة لا تثبت على الحال نفسه، ولا توحي بأنها سائرة إلى مآل أو إلى زوال؛ إنها في حالة جريان وسيلان دائمين، وهذا ما يعقّد أخذ صورة لها أو تجسيدها في مثال.
لعل خصوصية هذه القبيلة هي ما يساعدنا على فهم خصوصية الكتابة لدى الأستاذ سبيلا، حيث جاءت تواليفه على شكل مقالات وليس على شكل مصنفات. فكتبه لم تأت على الشكل المعهود لدينا، أعني البداية بطرح الإشكال أو تقديم الفرضية، ثم الانتقال إلى التحليل والتركيب، والانتهاء إلى خلاصة أو خاتمة. لقد كانت كل مقالة لديه تحمل مشروع كتاب، وهو المشروع الذي لا تخطئه عين القارئ المتبصر. ولذلك، فالرجل لم يكن مجرد واحد من كتّاب المقالات، وإنما كان من “أرباب المقالات”؛ وهي صنف من المقالات التي تحمل في طياتها هموما أكبر من حجمها. ولأن الهموم أكبر من الحجم، فإن أي منهج محدد سوف يكون محدودا في الإلمام بتفاصيل الموضوع. ولذلك، سيكون الترحال هو الحل، أي التجوال بين المناهج المختلفة التي تُعتبر بدورها من منتوجات الحداثة. وهكذا وجد الأستاذ سبيلا نفسه، وبدون إرادته، متنقلا بين المناهج؛ فهو “بنيوي إلى حد ما، وتحليلي نفسي إلى حد ما، وماركسي إلى حد ما، ووضعي إلى حد ما، وتجريبي إلى حد ما، وتفكيكي إلى حد ما”(ن م، ن ص).
حياة التجوال والترحال تتناقض مع حياة الاستقرار أي المكوث في مكان واحد، والأستاذ سبيلا يعلنها بوضوح: “حرصت على ألا أقع وأمكث كليا ومطولا في إناء واحد” (ن م، ن ص). ولعل هذا المكوث هو ما يميز المشاريع النظرية الكبرى المعروفة بتماسكها وبنسقيتها، أي مكوثها المطول في “إناء واحد” منذ الإعلان الأولي عن بداية المشروع حتى الانتهاء إلى خلاصاته وخواتمه. وقد يكون التدثر برداء المقالة واحدا من الأسباب التي تساعد على الخروج من الإناء، وإحدى إمكانيات التحليق فوق “هذه الحديقة الغناء”، حديقة “الحداثة والعصور الحديثة والفكر الحديث والحداثي”.
يقدم الأستاذ المصباحي الصورة التالية عن هذه الحياة الفكرية المتميزة بالترحال: “لم يشأ محمد سبيلا، إذن، أن يكثف اهتمامه بالحداثة على بؤرة حداثية معينة، بل أبى إلا أن يبدد اهتماماته بالحداثة في كل الاتجاهات؛ فجمع بين ثورية ووقار ماركس ونزق وطيش نيتشه؛ بين نقدية مدرسة فرانكفورت وجنسانية فرويد وفوكو وإيريك فروم؛ بين وجودية وتفكيكية هايدجر وديريدا وبنيوية فوكو..إلخ.. بيد أنه رغم تشتت موضوعات اهتمامه بالحداثة، في تجلياتها السياسية والاجتماعية والنفسية والفكرية والتقنية.. إلخ، كانت تطفو على السطح بعض القضايا الحداثية أكثر من غيرها، كقضية الأيديولوجيا، وقضية العقل-التنوير، والحرية-الليبرالية، والتغيير السياسي والثقافي.. إلخ” (الفلسفة، الحداثة والفكر النقدي، دراسات وشهادات في أعمال الراحل محمد سبيلا، ص:267).
لكن بقدر ما تكون حياة التجوال والترحال دليلا على الحرية ودليلا إليها في الوقت نفسه، بقدر ما تكون أيضا دالة على التوتر والتوجس والقلق.. نظرا لما يطبع تلك الحياة من عدم اطمئنان للحلول التي توفرها الأنساق والمذاهب والمشاريع الكبرى.
ويمكن أن نرصد ثلاثة أنماط رئيسية من التوتر الذي يميز حياة الترحال في أروقة الحداثة، بالرغم مما يبدو في الظاهر من استمتاع المتجول داخل تلك الأروقة بمظاهر الانجذاب الأخاذ.
1ـ توترات في النفس
يستغل الأستاذ سبيلا منهج التحليل النفسي في عودته إلى بداية البدايات، أي عندما يتعلق الأمر بالنبش في أسرار انشغاله بقضية الحداثة بالعودة إلى مراحل طفولته المبكرة؛ فقد كانت سنوات التعليم الأولي حاملة لآثار تلك المعالم الضبابية التي سوف تنجلي بالتدريج مع التقدم في الدراسة وفي السن، والتي ستكشف عن الصورة الأولى لملامح الصراع بين التقليد والحداثة في نفس الطفل محمد سبيلا على شكل توتر غامض لم يجد له من تفسير مقنع آنذاك. إنه التوتر الذي نجم عن تجربة مزدوجة: تجربة الرعب من جهة، وتجربة الإعجاب من جهة أخرى. تمثلت تجربة الرعب في المرور من التعليم التقليدي الذي كان يلقن في “المسيد”.
وعن هذه التجربة وما خلفته من آثار نفسية وجسمية، يقول سبيلا: “بدأتُ دراستي في الكتاب، وكان الفقيه في المسيد رجلا شرسا، وكان يستعمل قضيبا للضرب، لا تزال آثاره على رأسي، وعلى رؤوس كل من درست معهم. لقد كان هذا العنف شائعا في التعليم الديني الذي كان تعليما قهريا وقمعيا ويترك جروحا نفسية عميقة، بالإضافة إلى الجروح الجسمية التي يتركها”(ذاكرة عبور، ص:29).
أما تجربة الإعجاب فتمثلت في البصمات التي خلفتها المعلمة الفرنسية في نفسية الطفل سبيلا، بعد الانتقال إلى الدراسة في المدرسة العمومية. يستعيد الرجل ذكرى تلك العلاقة التي نُسجت بين الطفل ومعلمته، منقبا فيها عن بعض أسرار ميله نحو الانجذاب لإغراءات الحداثة. يقول: “كنت محط عناية خاصة من طرف المعلمة الفرنسية، فقد كانت تسكن في جناح من أجنحة المدرسة، وكانت تدعوني إلى بيتها وتقدم إلي الخبز والشكولاطة، وتعرض علي بعض الصور. وأول ما رأيت كتب الرسوم المتحركة رأيتها عندها، وكنت أجمع كل ما تعطيني إياه بنوع من الشغف الميتافيزيقي بالصورة وبالحرف وبالكلمة، وهذه المسألة لم أجد لها أي تفسير”. ثم يستجمع من كل هذا مدى التأثير الذي سيحصل فيما بعد، ويضيف: “كان هذا جانبا مهما من المدرسة العمومية يتعلق بالنظام والنظافة والتنظيم واحترام الوقت، وكان هناك جانب آخر سيؤثر فيّ طيلة حياتي، وهو أن المعلمة كانت تستعمل باستمرار النظارات والراديو وآلة التصوير. وهذه الأدوات والآلات كانت تبهرني وتسحرني وأقف أمامها مشدوها، وربما هي التي هيأتني للارتباط بالتقنية والتفكير في التقنية وسحر التقنية، بل أكاد أقول جلال التقنية. هذه معطيات موازية، وهذه التأثيرات سترافقني طيلة حياتي”(ن م ص:32).
هذه التأثيرات سترافق الأستاذ سبيلا خلال مشواره العلمي والأكاديمي، وستفرز تلك التأثيرات شيئا فشيئا ملامح الإشكالية التي ستشغل باله وتأخذ بلبه، ألا وهي إشكالية الحداثة والتقليد. كما سيرافق الأستاذ سبيلا مختلف الحلول التي تقدم بها ثلة من المفكرين العرب في شكل مشاريع نظرية في المشرق كما في المغرب، وهي الحلول التي ظهرت بعد هزيمة 67 والتي امتد طرحها على مدى عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بالخصوص. وقفت تلك المشاريع النظرية على إبراز قوة التقليد في كبح مبادرات التحديث، وبينت مسؤولية العقل التراثي عن الهزيمة وصده لأبواب الحداثة، نتيجة انشداده إلى الماضي وتحصينه لثقافة الأمس تحت ذريعة حماية الهوية ومواجهة ثقافة الغرب الغازي. ولذلك، أعملت تلك المشاريع النظرية معول النقد لتشريح كتب التراث، بغية الكشف عن الجوانب المظلمة والجوانب المشرقة لبيان كيفية التحرر من الأولى وكيفية استثمار الثانية قصد تعبيد الطريق نحو الحداثة. إلى جانب هذه المشاريع المنشغلة بالتراث، كانت هناك أخرى منحازة إلى جانب الحداثة وداعية إلى نبذ التقليد جملة وتفصيلا.
عندما يسترجع الأستاذ سبيلا مسارات الفكر العربي المعاصر من خلال هاتين المدرستين، أعني مدرسة المشتغلين على التراث من جهة ومدرسة المشتغلين على الحداثة من جهة أخرى، يتريث في الحكم ويتردد في اتخاذ موقف منحاز إلى أحد الطرفين. يقول: “في فترات معينة، كان من السهل اختيار رأي وتوجه واحد، إما تراثي أو حداثي؛ ولكن تدريجيا تبين، من خلال تمثل تجارب التاريخ، أن هذه الحلول غير ممكنة، وبدأت تتشكل فكرة أنه لا يمكن التجديد بما هو آت مستعار من الخارج، بل يتعين أن تجدد انطلاقا من المعطى ومن الموروث، خاصة أن هناك نظريات سوسيولوجية وتاريخية دعمت هذه الفكرة”(ن م، ص:348).
إذا كان الاحتياط المنهجي يستدعي أن نأخذ في الحسبان مسألة التراث بشكل موازٍ أو مساوٍ لمسألة الحداثة، أثناء الاشتغال على إشكال العلاقة بين التقليد والتحديث، فإن الملاحظة التي تفرض نفسها على الناظر في أعمال الأستاذ سبيلا هو ترجيحه لكفة الحداثة على كفة التراث. فعلى الرغم من اقتناعه – نظريا – بضرورة الاشتغال على طرفي العلاقة، فإنه انحاز – عمليا – إلى طرف على حساب الطرف الآخر. وقد يكون هذا الانحياز علامة دالة على أقصى درجات التوتر النفسي الذي فرضه التعاطي مع قضية الحداثة، ما دام الاقتناع في النظر لا ينعكس في العمل. فعلى مستوى النظر، يبدو أن موقف الرجل محسوم سلفا ولا يتردد في الجهر به، بل وصل به الأمر إلى اعتبار هذا الاقتناع “خلاصة علمية، لأن الثقافة ليست شيئا ماديا وملموسا يمكن إزاحته، بل هي معان وتأويلات ودلالات أو فيما يمثلها أو يعكسها ماديا، هذا هو قانون التاريخ. إن الثورة هي إعادة تدوير وتثوير لمعطيات سابقة، والثورات الأنجح هي التي لا تتحدث عن قطائع وتحولات مطلقة، بل هي تحويلات لما هو واقع. ولذلك، حتى بعض المثقفين العرب الذين قالوا بالقطيعة المطلقة والقذف بالتراث إلى سلة المهملات تراجعوا فيما بعد؛ لأنهم فهموا أن الثقافة ليست بضاعة قابلة للرمي Jetable ، بل على العكس فإن تأويلها وتدويرها وإعادة استعمالها هو الأنسب”(ن م، ص:349).
هذا على مستوى النظر، فماذا عن مستوى العمل؟ على المستوى العملي، أي على مستوى المنجز من أعمال الأستاذ سبيلا، يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: لماذا يخلو هذا المنجز من عملية تأويل التراث وتثويره وإعادة استعماله، مادام هذا هو الأنسب؟ لا أجد لمثل هذا السؤال من جواب عدا جملة من التخمينات التي لا ترقى إلى مستوى اليقينيات، وهي تخمينات يمكن تقديمها في صيغة مبررات. ويمكن أن تتخذ هذه المبررات أشكالا ثلاثة تصلح – كلها أو بعضها – لتقديم تفسير ما لأسباب هذا الانحياز الذي حظيت به قضية الحداثة على حساب قضية التراث في ذاك المنجز. وأقصى ما يمكن للمرء أن يقوم به – في هذه الحالة – هو محاولة الفهم، بناء على عناصر يركبها من جُماع الاجتهادات التي قدمها المرحوم سبيلا خلال مرافعاته عن قضية الحداثة.
ـ التبرير الأول: قد يكون عنّ للأستاذ سبيلا أن مسألة الخوض في التراث أمر محفوف بالمخاطر، لأن خوض مثل هذه المغامرة قد يستغرق العمر كله. كما أن الدخول في هذه المغامرة يمكن أن يستنفد الجهد في الوسيلة قبل الوصول إلى الغاية، ما دام النظر في كتب التراث ليس غاية في حد ذاته وإنما هو مجرد وسيلة للوصول إلى تحقيق غاية محددة هي الحداثة. ومن ثم سيغرق الفاحص في كتب الأقدمين وتستغرقه مختلف الإشكالات التي تطرحها تلك الكتب في مجالاتها المتعددة، من أصول دين وأصول فقه وتفسير وتصوف.. إلخ. ناهيك عن كون دراسة كتب التراث قد تؤدي إلى نتيجة معكوسة، ألا وهي نشر هذا التراث على نطاق واسع إلى حد يصبح معه مهيمنا على المجال الثقافي ويمسي حجر الزاوية فيه. فالدخول إلى التراث سهل، ولكن الخروج منه صعب.
ـ التبرير الثاني: قد يكون بدا للأستاذ سبيلا أن إشكال العلاقة بين التراث والحداثة يستلزم نوعا من توزيع الأدوار بين المفكرين المنشغلين بمعالجة هذا الإشكال، كأن يهتم فريق بمسألة التراث ويهتم الفريق الآخر بمسألة الحداثة. ومن على الرغم أن توزيع تلك الأدوار أمر غير معلن عنه وغير مصرح به، فإنه ساري المفعول – بحكم الواقع – فيما يشبه العرف أو التواطؤ المضمر، ومع مرور الزمن يتكرس ذلك الأمر تحت عنوان التخصص.
ـ التبرير الثالث: قد يكون الأستاذ سبيلا لاحظ أن العلاقة بين التراث والحداثة هي علاقة مختلة وغير متوازنة، لأن كفة التراث أثقل من كفة الحداثة؛ فالتراث يستقوي على الحداثة بالهوية، ما دامت جذوره ضاربة في الماضي: التراث ابن الأمس أما الحداثة فهي ابنة اليوم. معالم الأمس واضحة ومكتملة، في حين أن معالم اليوم لا تزال في طور التشكل، وعبارة هابرماس الشهيرة تلخص هذا الأمر: “الحداثة مشروع لم يكتمل بعد”. وإذا كانت هذه الملاحظة هي التي استأثرت باهتمام الأستاذ سبيلا، فقد تكون هي التي قادته إلى التركيز على أشكال المقاومة والمعاندة التي تقف في وجه الحداثة.
2ـ توترات في النص
بالإضافة إلى هذه التوترات التي خلقتها علاقة الحداثة بالتراث في نفسية الباحث من جهة، وعلاقة التعليم التقليدي بالتعليم العصري أيام الطفولة بما شكلته من ميول وانعطافات كانت وراء الاختيارات اللاحقة للانتصار للحداثة من جهة أخرى؛ كان هناك تأثير آخر خرج من صلب النصوص التي تعرف عليها الأستاذ سبيلا، هذه المرة، وهو يتجول بين منتجات الفكر الغربي الحديث والمعاصر. كان لهذا التأثير ميسمه الخاص الذي تجلى فيما دعاه الأستاذ سبيلا بـ”الفكر الجنائزي”، وهو تعبير مركّز عن روح التحولات والتغيرات التي آل إليها العصر الحديث بوصفه “عصر النهايات”. و”استجماع صورة هذه النهايات.. تعبير بلاغي جميل عن سرعة التحول والانتقال في كل مستويات العصر الحديث؛ فموت المقدس، الذي يشير إليه نيتشه والذي يضرب بجذوره في فكر هيجل ويعود إلى مارتن لوثر رائد الثورة البرتستانتية في المسيحية، يشير إلى تحولات فكرية كبيرة حدثت على مستوى النخبة الغربية فكريا وبدأت تنحو بها نحو المزيد من العدمية وأفول للأصنام وللقدسية وارتماء في أحضان التاريخ الحي.. موت الفلسفة هو أيضا صيغة بلاغية للتعبير عن هذا التحول المفصلي المتعلق بنهاية الأيديولوجيات الثورية، وانتصار الليبرالية كأفق وحيد ونهائي للتاريخ. أما موت مقولة الإنسان فترتبط بالبنيوية، إذ إنها ازدهرت وشاعت مع ذروة تطور البنيوية كمنظور وأفق فكري يعطي الأولوية للبنيات والسيرورات الموضوعية والحتميات المختلفة على حساب الصبوات والطموحات والإرادات والذاتيات. موت المؤلف لا يخرج عن هذا السياق، فهو يعكس روحا بنيوية على مستوى النص، أي أن الآليات النصية اللسانية هي الفاعل الأساسي في النص”. من هذه المآلات كلها يستنتج الأستاذ سبيلا الخلاصة التالية، وهي “أن هذه البلاغة “الجنائزية” المتعلقة بالموت وبالنهايات لا تخرج عن إطارين: إطار التحولات النوعية المفصلية السريعة التي تخص وتيرة تطور الحداثة، وتعكس الأزمة الدورية والتحول الدوري المستمر، كما تعكس فكرة أساسية تجمع بين كل هذه النهايات والموتات؛ وهي غياب الفاعل المفرط، أو غياب الفاعل المطلق، وسيادة السيرورات والصيرورات”(دفاعا عن العقل والحداثة، ص:45).
لنلاحظ كيف يربط الأستاذ سبيلا هذا الفكر الجنائزي بالحداثة وبالعصر الحديث، بينما درج مختلف الباحثين على ربطه بفكر ما بعد الحداثة الذي يعتبر في نظرهم فكر النهايات، أي نهاية السرديات الكبرى. فما سر هذا الربط؟يبدي الأستاذ سبيلا تبرما واضحا من مصطلح “ما بعد الحداثة”، لأنه مصطلح “خصوصي ومضلل” في نظره؛ ويفضل بدلا عنه مصطلح “الحداثة البعدية”. لماذا؟ لأن “الكثير من النقاد والصحافيين في عالمنا العربي-الإسلامي يأخذون مفهوم ما بعد الحداثة مركزين بالدرجة الأولى على حرف: “ما” وكأن ما بعد الحداثة تخلٍّ كامل عن الحداثة ودخول في مرحلة أخرى وفي نظام آخر. وهذا الأمر غير صحيح ولا دقيق. الأمر لا يتعلق بانفصال كلي وطلاق مطلق بل فقط بتجاوز وبسرعة أخرى للحداثة، في إطار مراجعة الحداثة الغربية لذاتها” (دفاعا عن العقل والحداثة، ص:50). ويورد بهذا الصدد قولة لسوسيولوجي بلغاري يقول فيها “ما بعد الحداثة هي الحداثة وقد تخلت عن أوهامها” (الشرط الحداثي، ص:116).
إن الأمر لا يتعلق هنا باستبدال مصطلح بآخر، ولا بمجرد انحياز إلى فهم محدد ومدقق؛ بل يتعلق الأمر بإغلاق الباب في وجه من يريد تحريف النقاش عن أهدافه الحقيقية. فما دام التمسك بمصطلح “ما بعد الحداثة” يعطي الانطباع بتجاوز الحداثة في موطنها الأصلي، وبكون الغربيين نفضوا أيديهم من القيم والمبادئ والوعود التي بشرت بها تلك الحداثة؛ فماذا تبقى لنا – نحن الذين نعيش في مجتمع قبل حداثي – من قول أو فعل؟
لقد استشعر الأستاذ سبيلا عواقب التمسك بمثل هذا المصطلح وانعكاساته على النقاش الدائر بين مثقفينا، ورصد مظهرين سلبيين لذلك النقاش يتحتم مواجهتهما بنوع من المسؤولية النقدية. يقول: “المسؤولية النقدية للفلسفة تواجه اليوم اتجاهين كبيرين: أولهما يميل نحو تفسير وتأويل تطورات الحداثة على أنها تتجه أكثر نحو الارتداد إلى ما قبلها كما يتجلى ذلك لدى الاتجاهات التي تستغل مفهوم ما بعد الحداثة لتقول إنها عودة مستمرة إلى ما قبلها، وأنه في الوقت الذي ترتد فيه الحداثة إلى ما قبلها نجد فئات اجتماعية وهيئات ثقافية تتمسك بها وتدعو إليها؛ في حين أنها أشبه بخرقة بالية يطرحها ويمجّها أصحابها ويُلقون بها في حين تتسارع الفئات الداعية لها إلى لبسها والتدثر بها.. أما الاتجاه الثاني فيميل نحو توسيع مفهومها وتصورها ليشمل ويطال تجارب وأنماط ما قبل حداثية جعلها التطور التقني تبدو أنماطا حديثة رغم أن بنيتها الفكرية تنتمي إلى ما قبل الحداثة”(الشرط الحداثي، ص:148-149).
هذا الاستغلال لمفهوم “ما بعد الحداثة” من طرف التيارات التقليدية لضرب الحداثة هو ما دفع الأستاذ سبيلا إلى إغلاق هذا الباب الذي تدخل منه تلك التيارات وطرح بديل آخر هو “الحداثة البعدية”؛ فالمجتمع التراثي بفكره التقليدي لا يعاني من تبعات الحداثة حتى يعكف مفكروه على النظر في انعكاساتها والخوض في تطوراتها ومساراتها، بل هو يعاني من التأخر التاريخي أي من خصاص كبير ومهول في مجالات الحرية والعقلانية والديموقراطية والتقنية والعلم ..إلخ. ولذلك، سيكون الدخول في مناقشة الإشكالات التي طرحتها أفكار ما بعد الحداثة بمثابة نقلة غير مبررة لجوهر الخلاف، ونصب للدليل في غير محل النزاع. وكأن لسان حال الأستاذ سبيلا يقول: لنتخلص من التخلف والتقليد والتأخر أولا، وبعد ذلك سيكون لكل حادث حديث.
3ـ توترات في الواقع
لعل أقسى وأقصى التوترات التي خلقتها الحداثة هي تلك التي تتعلق بالواقع الاجتماعي، لأن “أنماط السلوك والقيم والعادات الساكنة المتناقلة بثبات كلها تتعرض لهزة قوية؛ فالعائلة تأخذ في التقلص، والعلاقات العائلية والعصبيات الدموية والإقليمية والعشائرية الراسخة تتفكك تدريجيا لتحل محلها روابط عمودية قائمة على الموقع الطبقي والدور الإنتاجي.. حيث يأخذ التنظيم يحل محل التلقائية، والقانون محل الأعراف. بيد أن ضبط وتقنين مظاهر الحياة الاجتماعية قد أفقد هذه الحياة صميميتها وتلقائيتها ودفئها، بل أدخل أحيانا عنصر التشيؤ فيها”(مدارات الحداثة، ص:95). هذا يعني أن الحداثة ليست اختيارا وإنما هي نتيجة لتحولات حصلت على مستوى الواقع، فأعادت بذلك رسم معالم المجتمع الجديد. لم يكن المخاض سهلا بل كان عسيرا، تم فيه التخلي عن جزء من الوعي ومن الهوية ومن الذات. لقد تم التخلي عن الجزء الاستبدادي في المعتقد الديني والسياسي، وتم استبداله بوعي تحرري على مستوى الفرد كما على مستوى الجماعة.
بيد أن الحرية التي بشرت بها الحداثة رافقتها مظاهر جديدة من الاستبداد، سواء تعلق الأمر بأشكال القمع الداخلي المتجلية في تنميط الحياة المعاصرة وتعميم ثقافة الاستهلاك، أو تعلق بالقمع الخارجي المتمثل في استعمار البلدان التي تعيش في زمن ما قبل الحداثة مع ما رافق ذلك من نهب لثرواتها وإبادة لثقافاتها. وهذا يدل على أن للحداثة سيئاتها كما أن للتقليد سيئاته، مع وجود فارق بينهما في درجة الضرر الذي يلحق بالمجتمع من خلال مؤشر التقدم والتخلف. الحداثة، إذن، لها وجهان: “الجانب الأول هو الحرية، والجانب الثاني هو السيطرة والاستبداد. فالغرب عندما ابتدع الحداثة لم يكن ذلك حبا فيها ولا حبا في التاريخ، بل عندما اكتشفها وعرف قوتها وقدراتها استعملها للسيطرة على الآخرين. فالحداثة بصفة عامة تتضمن المعطى التحرري، مثل حرية المرأة وحرية الإنسان وحرية المعتقد وحرية الاقتصاد.. لنقل إنها حرية بلا حدود؛ لكنها في جانبها الآخر تتحول إلى أداة سيطرة داخل المجتمع الواحد، بما في ذلك المجتمعات الغربية” (ذاكرة عبور، ص:113).
عندما تفرض الحداثة نفسها على المجتمع تتحول إلى تحديث، والتحديث يصطدم بالمقاومة؛ هذه طبيعة بشرية راسخة لدى جميع الشعوب. وأشكال المقاومة عديدة ومتباينة، تتراوح بين الرفض المبدئي إلى الالتفاف، أو التكييف، أو القبول المحتشم لبعض المظاهر والاعتراض على أخرى، أو الدعوة إلى التشبث بالقيم التقليدية صونا للهوية.. إلخ. وهذا الاصطدام بين قوى التقليد وقوى التحديث حدث بطريقتين: إما أن الاصطدام وقع بفعل الاستعمار، وإما أنه وقع بفعل التحدي. وقد بينت التجارب التاريخية أنه “ليست هناك أمة أو ثقافة على استعداد لأن تتخلى عن هويتها الثقافية المكتسبة وعن رأسمالها الرمزي لقاء امتلاك العلم والتقنية، لأن التخلي عن الهوية الثقافية المتوارثة أو التنكر لها هو، بالنسبة لأية أمة من الأمم، نوع من الانتحار الحضاري”(مدارات الحداثة، ص:110)؛ ذلك أن إرادة التخلي عن الإرث الثقافي، حتى لو فرضنا إمكانية حصولها فعليا، فإنها سوف تصطدم بما يسميه الأستاذ سبيلا بـ”المجال الإدراكي والذهني”، حيث أفضى التحديث إلى “نزع لمعالم الديكور البصري والسمعي والشمّي التقليدي، وتم إحلال ركام آخر من الألوان والمشاهد والروائح، مما يحدث صراع رموز في نفسية الفرد.. ويولد ردود فعل سلبية، مما ييسر الارتداد إلى دفء الرموز التقليدية” (ن م، ص:112). هذا يعني أن الاصطدام بين التحديث والتقليد ليس مجرد اصطدام بين نظامين اجتماعيين، بل هو أيضا اصطدام بين الرموز بوصفها عناوين بارزة لأفعال وردود أفعال، لتمثلات ولتأثيرات، إما إدراكية وإما حسية.
وهذا “الارتداد إلى دفء الرموز الثقافية” هو ما ميز رد فعل المجتمعات العربية الإسلامية إبان اصطدام ثقافتها وبنياتها التقليدية بالغرب الغازي، إذ أسفر ذلك الاصطدام عن “تناقض حاد بل جارح بين تمثلاتها الذاتية، أي بين صورتها عن ذاتها وبين واقعها العيني.. هذا التناقض بين الصورة التمجيدية عن الذات ونقيضها المتمثل في التأخر والتبعية والدونية وسَم الوعي العربي العام، وعي النخبة ووعي الجماهير، بنوع من الوعي الشقي وبنوع من التمزق والتيهان؛ لأن الواقع يكذب في كل لحظة ما هو مسطور الأذهان” (الشرط الحداثي، ص:224).
ولفهم التمزق الذي يعانيه هذا الوعي الشقي، يستعين الأستاذ سبيلا بالاجتهاد الذي قدمه دريوش شيغان، إذ يوجد “هناك تمزق عميق وشرخ عميق في العقل العربي الإسلامي، وفي الوعي واللاوعي الإسلامي. شرخ وتمزق وتوتر بين جاذبيتين ومنظورين، وذلك تحت تأثير انصهارنا في تقليدنا وتراثنا وديننا من جهة، ونتيجة اندماجنا في الحداثة في بعض مستوياتها التقنية والسياسية والفكرية من جهة أخرى” (دفاعا عن العقل والحداثة، ص:73). وبما أن هذا الواقع المتوتر والممزق لا يرتفع بمجرد إبداء النية في تغييره، من طرف هذا التيار أو ذاك، فإن التعايش معه هو الذي يفرض نفسه على الجميع. فإعلان الانتماء إلى تيار التقليد لا يلغي تيار الحداثة، كما أن إعلان الانتماء إلى تيار الحداثة لا يلغي تيار التقليد. ونتيجة لاقتناع الطرفين بضرورة التعايش، فقد اصطدما معا بالسؤال البرغماتي التالي: “كيف نكسب الحداثة دون أن نخسر أنفسنا؟ كيف نكسب العالم دون أن نخسر ذواتنا؟”. هذا سؤال وقف أمامه الأستاذ سبيلا حائرا، ولم يعثر له عن جواب؛ فاكتفى بتسجيله بنوع من الأسى والحسرة. يقول: “هذا رهان أتحدث عنه بلغة التراجيديا والتمزق والتوتر والكآبة، لأننا نعيشه في كل لحظة من حياتنا، على المستوى السياسي وعلى المستوى الفكري” (ن م، ص:75).
خلاصة
توترات ثلاثة ظهرت معالمها على مستويات ثلاثة، أفضى تشخيصها إلى التأكد من جذور أعراضها الضاربة في أعماق النفوس وفي أعماق النصوص وفي أعماق الوقائع. وماذا بعد؟ هل من حل؟ ما العمل؟
لاحظ الأستاذ سبيلا، وهو يتتبع مآلات تلك التوترات، أن حدتها تزداد تأججا مع مرور الزمن وتوالي الأحداث؛ فكلما ظهر لرواد النهضة وزعماء الإصلاح ومفكري المجتمعات التابعة أنهم عثروا على الحلول، إلا ظهر فيما بعد أن النفق طويل والخروج منه مجرد أمل ورغبة ونية فقط. هل يتعلق الأمر بما يشبه القدَر، كأن يكون قدر الشعوب التابعة أن تعيش بجرعات الاستبداد بدل الديمقراطية، وبجرعات العبودية بدل الحرية، وبجرعات الفكر التقليدي بدل الفكر التنويري؟
لم تستطع مجتمعاتنا أن تنفك من إسار التقليد ولم تستطع أن تنخرط في سلك الحداثة، جربت كل شيء ولم تحقق ما سطره القادة والساسة والمفكرون. جاءت دعوات الإصلاح من القمة في فترات معينة من التاريخ أحيانا، كما جاءت من طبقة الدعاة والمفكرين في أغلب الفترات أحيانا أخرى؛ بيد أن النتائج كانت محبطة ومخيبة للآمال. مَن المسؤول عن وضع العصا في عجلة التاريخ؟ لماذا فشلت مشاريع التحديث في بعضٍ من بلداننا رغم الحماس الذي أبداه القادة والساسة من خلال الاحتفاء بمثل تلك المشاريع؟ لماذا لم تنجح مشاريع الإسلام السياسي في التوفيق بين التقليد والتحديث رغم التمكين الذي توفر لها في ظروف سياسية لم تكن وراء تهييئها أو بالأحرى التهيؤ لها؟ وينطبق السؤال ذاته على مشاريع اليسار وعلى مشاريع اليمين، وعلى ما بينهما من ألوان وتوجهات وتيارات وتشكيلات.
اعتقد الجميع، ولا يزال يعتقد، أن تطبيق مشاريع الإصلاح – سواء في لويناته التحديثية أو التقليدية – يمر عبر امتلاك مفاتيح السلطة السياسية، ما دامت الغاية في حاجة إلى الوسيلة؛ بيد أن امتلاك الوسيلة أبان عن فقدان الغاية، أي أن من يمتلك مفاتيح السلطة لا يعني بالضرورة أنه يمتلك مفاتيح الإصلاح.
استخلص الأستاذ سبيلا الدرس من هذه التجارب عندما قلّب النظر في تلك الفترات التاريخية التي مرت منها دعوات التحديث، وانتهى إلى قناعة مفادها أن مجتمعاتنا تعيش “وضعية بينية”. وهي وضعية تاريخية مشوهة تتميز بورود حداثة وافدة من خارج لا تعطي أية مردودية بعدما تم تشغيلها في الداخل، حيث أفضى بناء الدولة إلى “اصطناع مشروعيات جديدة يقوم أغلبها على أيديولوجيات تحديثية أو قومية أو وطنية ملقحة بهذا القدر أو ذاك بقسط من التراث الديني للأمة”. فكانت نتيجة ذلك أن “اختلط الحابل بالنابل، فلم تعد مجتمعاتنا مرساة على أساس البنيات والعلاقات والقيم التقليدية، ولم تنخرط بعد كليا في ركب الحداثة” (مدارات الحداثة، ص:192).
هذا وصف تقريري لحالنا وأحوالنا، ولكن ماذا لو وصل الوصف إلى مستوى الحكم؟
قد يكون طرح مثل هذا السؤال هو المسؤول عن الشعور بالأسى والحسرة الذي عبر عنه الأستاذ سبيلا في غير ما موضع من المقول الذي أُثِر عنه، ومن المكتوب الذي خلّفه بعد رحيله.