كان الاعتقاد السائد أن الحروب بدأت تنحسر وتضعف، لكنها انبثقت في أشكال جديدة، فأصبحنا نجد في ميدان الحرب الجيوش النظامية جنبا إلى جنب مع قوى حربية مختلفة كالثائر والمرتزق والروبوت والمحارب السيبراني.
اتسمت سنة 2014 بإحياء ذكرى الحرب العالمية الأولى التي شكلت حدثا على قدر كبير من الأهمية في مطلع القرن العشرين، القرن الذي شهد ظهور حروب يمكن نعتها بـ”الشاملة”.
وهذا النوع من المواجهات بين جيشين نظاميين خاضعين لدولتين وأيضا لمجتمعين قبلا الانخراط في الحرب، انحسر تدريجيا؛ وقد أظهرت الإحصائيات منذ 1989 أن عدد النزاعات المسلحة ما بين الدول قد تقلص، على العكس من النزاعات المسلحة بين الدولة وكيانات داخلها تتمتع ببعض الاستقلالية، أو النزاعات الداخلية المنظمة (في هذا النوع الأخير تكون المواجهة بين الحكومة والثوار أو بين مجموعات في الدولة نفسها مع تدخل فاعلين أو دول أجنبية).
وعلى الرغم من أن المعطيات الكمية التي تم تجميعها من طرف مختلف المعاهد المختصة تتفق على أن عدد ضحايا المعارك قد انخفض كما هو الشأن بالنسبة للنزاعات المسلحة باختلاف طبيعتها، فانخفاض الحروب فيما بين الدول يطرح السؤال حول المفهوم الحديث للحرب، التي يعرفها الفيلسوف جون جاك روسو على أساس أنها علاقة بين دولة ودولة وليس بين شخص وآخر. فالحرب لا ترتبط كما يرى ريمون آرون بقانون الجنوح إلى “خفض القوة المستعملة”.
تقليص دور الدولة في الحرب
إننا نشهد في حقيقة الأمر بروز ظاهرتين اثنتين. تتجلى الأولى في الاتجاه إلى تقليص دور الدولة في الحرب، الأمر الذي يؤدي إلى تغير أسباب القتال وأساليبه. وبتعبير آخر، فالفعل الحربي لم يعد لصيقا بالفعل العسكري الذي تحتكره الدولة.
أما الظاهرة الثانية فتتجلى في بروز أساليب جديدة ماكرة للحرب بين الدول. وما يميز الوضع الاستراتيجي المعاصر هو المزاوجة بين هذين التوجهين. “الدولة تصنع الحرب والحرب تصنع الدولة”، هذه العبارة الشهيرة لعالم الاجتماع شارل تيلي، تُبرِزُ العلاقة الوطيدة بين إنشاء البنيات الدولية واللجوء إلى قوة السلاح ضد القوى الأجنبية في تاريخ أوروبا؛ فقد لعبت الحرب دورا في بناء الدول، خاصة عن طريق التجنيد الإجباري الذي يساهم في تنشئة المواطنين على قيم الولاء.
أما اليوم فقد عرف تصور الحرب والقيام بها تحولا؛ أولا فالعديد من الدول تتخلى عن الجيش المؤلف من المجندين لصالح الامتهان بل والخوصصة، ما يشكل عودة إلى نظام الارتزاق. وعلى سبيل المثال، فقد انتقلت نسبة المُتعهدين العسكريين في جهاز الدفاع الأمريكي من جندي لكل مائة جندي خلال حرب الخليج الأولى إلى جندي لكل جندي خلال حرب العراق سنة 2003. وفيما يخص أوروبا، ففي أغلب الدول الأعضاء لا يمثل الجيش أكثر من 0,5% من عدد السكان الإجمالي، وتؤدي هذه النزعة إلى ضعف المشاركة الشعبية في العمليات الحربية.
ثانيا، الحروب الداخلية تبرز أيضا الظهور القوي لفاعلين جدد؛ إذ إن أمراء الحرب لا يقومون بإنشاء جيوش نظامية، بل يحركون جماعات تتخذ من التهريب بشتى أنواعه مصدرا لتمويل أعمالها، الأمر الذي يجعلها أقرب ما تكون إلى تنظيمات إجرامية. وفي إفريقيا جنوب الصحراء بشكل خاص، يعمل أمراء الحرب على تجنيد الأطفال نظرا لانخفاض تكلفتهم وسهولة التحكم فيهم.
أخيرا، فتقليص دور الدولة في الحرب فضلا عن كونه يؤثر في تحديد نوعية المحاربين، يفسر تنامي الحروب الداخلية في الدول الهشة والمفلسة التي أضحت عاجزة عن استقطاب المواطنين بسبب عدم قدرتها على ممارسة صلاحياتها كقوة عمومية في الحفاظ على الأمن الداخلي أو الدفاع العسكري، إضافة إلى عدم قدرتها على تلبية الحاجيات التي تعبر عنها الجماهير (الولوج إلى الصحة، التمدرس…)، وهكذا تدفع تلك الدول كل الأفراد الذين لا يحسون بالاندماج في المجتمع إلى الارتماء في أحضان العنف، وخير مثال على ذلك الصومال وسيراليون وشمال مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى التي تشكل نموذجا لتقليص دور الدولة في الحرب. ومما يزيد الأمور استفحالا أن هشاشة هذه الدول تجعلها أكثر عرضة لتأثيرات العوامل المناخية التي تفاقم مشكلة الاضطراب وانعدام الاستقرار.
الحرب تتخَفَّى
بموازاة ما سبق ذكره، فإن الحرب بدأت تختفي من الخطاب العام؛ حيث إن الدول لم تعد تلجأ إلى إعلان الحرب (الأمر الذي يعني الرقابة البرلمانية القبلية في معظم الأنظمة الديمقراطية).
ومن جهة أخرى، فإن المصطلحات قد بدأت تضمحل؛ إذ إن الحكام يفضلون الحديث عن “تدخلات إنسانية” تمليها ضرورة حماية حقوق الإنسان، أو “عمليات لإرساء الاستقرار” أو “لاستتباب السلام” في إطار يتسم بالتنافر (الدول ضد الثوار).
وكما يقول بيير هاسنر، فإن “الحرب لم تعد قادرة على الإفصاح عن اسمها”، لكن لا يجب أن يخدعنا انحسار الكلمة: من جهة، فالقوى المنخرطة في القتال واعية بأنها في حالة حرب من الناحية الاستراتيجية (لأن الهدف الحقيقي هو إخضاع العدو). ومن ناحية ثانية، فإن الأشكال التي تتخذها المواجهة بين الدول تتغير، ويتجلى ذلك من خلال استعمال الروبوت والسلاح السيبراني.
إن استخدام الروبوت في المجال العسكري هو نتيجة لثلاثة عوامل، تشكل التكنولوجيا أولها، ونعني بذلك المكننة المضطردة لمهام المحارب والتطورات التكنولوجية الأخيرة في مجال الملاحة والاتصال.
أما العامل الثاني فذو طبيعة مجتمعية ويتمثل في توجس المجتمعات الغربية من الأخطار والموت، والعامل الثالث والأخير الذي يكتسي أهمية قصوى بالمقارنة بالعاملين السابقين، يرتبط بالضرورات الاستراتيجية: فقدرة تحمل الطائرة المسيَّرة تؤمن استمرارية المهمة والتباعد الجسدي (أي توسيع المدى)، ولهذه الخاصية الأخيرة نتيجتان استراتيجيتان على قدر كبير من الأهمية، تتمثل الأولى في تقليص مسار القرار؛ حيث إن الحدود الفاصلة بين المستوى الاستراتيجي والمستوى التكتيكي تتلاشى لأنه بإمكان القيادة الوصول في الزمن الحقيقي إلى مسرح العمليات.
أما النتيجة الثانية فتتمثل في اتساع رقعة المواجهة؛ إذ صار بالإمكان الوصول إلى أي مكان بفضل السرعة الفائقة للطائرة المسيَّرة وقدرتها على التَّخَفِّي. وتجدر الإشارة إلى أن استعمال الطائرة المسيرة قد خلق جدلا أخلاقيا واسعا بين المعارضين الذين يرون أنه يؤدي تدريجيا إلى اختفاء الطابع الإنساني في العلاقة مع الحرب، وبين المؤيدين الذين يجدون على النقيض من ذلك أن هذا الاستعمال يحترم مبادئ أخلاقية عديدة.
ويؤدي استخدام الهجوم السيبراني بدوره إلى تغيير قواعد المواجهات الاستراتيجية، لذلك فالجيوش تتزود بوحدات متخصصة في هذا المجال وتخصص ميزانيات مهمة تعرف ارتفاعا مضطردا لهذا الغرض. فخلال الحرب يمكن أن يساهم قصف قوات العدو ببرمجيات خبيثة في إضعافه، وخير مثال على ذلك الحرب بين روسيا وجورجيا عام 2008.
لكن الإشكال الكبير الذي يطرحه هذا السلاح يتمثل في صعوبة تحديد مصدر الهجمات السيبرانية، وعلى الرغم من ذلك فبعض المحللين لا يترددون في استعمال مصطلح الحرب السيبرانية، عكس آخرين، مثل توماس ريد، الذين يظلون متحفظين وحجتهم في ذلك أن استحالة عَزْو الهجمات إلى جهة معينة لا يتوافق مع مفهوم الجدلية الاستراتيجية كما عرَّفها خبير الحرب الألماني كارل فون كلاوزفيتز، وعليه فغياب عنصر الإماتة في الوسائل والأهداف يضعف أيضا مفهوم الحرب السيبرانية. وحسب توماس ريد، فالعمليات في الفضاء السيبراني أقل عنفا من العمليات في الحرب الحقيقية التي يستخدم فيها السلاح (من ثم لا يجوز إضفاء صفة عمل حربي على أعمال التخريب والتجسس السيبراني). لكن بعيدا عن هذا النقاش الدائر بشأن التوصيفات، فإن الدول تبذل الجهد لامتلاك السلاح السيبراني باعتباره رهانا استراتيجيا، ولا غرابة أن الولايات المتحدة الأمريكية احتفظت لنفسها بحق الرد بالقوات التقليدية على الهجمات السيبرانية.
ويبرز نموذج السلاح السيبراني أن الدول لا تلجأ إلى المواجهة بشكل مباشر بواسطة الجيوش بل بطريقة مُقَنَّعَة، ومرد ذلك إلى أن الهدف لا يتجسد في احتلال أراض جديدة (وهو المنطق الذي كان سائدا في تاريخ الاستراتيجية الحربية) بل في الوصول إلى فضاءات ليست في ملكية أحد لكن يمكن للجميع ارتيادها: وهي أعالي البحار (المياه الإقليمية)، والجو (الفضاء الجوي الدولي)، والفضاء الخارجي، وبطبيعة الحال الفضاء السيبراني.
وتسعى الدول إلى السيطرة على هذه الفضاءات لأنها ضرورية لتقدم قوات الجيش (فلا يمكن القيام بحملات عسكرية بدون الأقمار الاصطناعية للاتصالات وبدون الموارد الرقمية والقوات البحرية).
ومن جهة، أخرى تُعَدُّ هذه الفضاءات شرطا ضروريا لاستمرارية الحياة الاقتصادية وازدهارها نظرا لأن أهم المبادلات التجارية تتم عبرها، بل إن بعض القوى تلجأ إلى البلقنة، أي فرض رقابة شديدة على حركة العبور في هذه الفضاءات.
وعلى سبيل المثال، فالصين تعمل على الرفع من قدراتها البحرية وتحاول توسيع دائرة نفوذها البحري إلى ما وراء مياهها الإقليمية، كما تقوم بفرض رقابة شديدة على الأنترنت، لذلك فهي لم تتورع عام 2007 عن تفجير أحد أقمارها الاصطناعية الثابتة (لأن الشظايا المترتبة عن التحطيم ستحول دون تثبيت أقمار اصطناعية أجنبية هدفها مراقبة الفضاء الصيني، علما أن من شأن الشظايا التي تتجاوز 10 سم تدمير أي مركبة فضائية). والغاية من هذه الإجراءات هي تقييد بل ومنع الولايات المتحدة الأمريكية من الوصول إلى الفضاءات الدولية القريبة من محيط الصين.
الانتقال من عالم الحرب بين الدول إلى عالم في حالات حرب
أدى تقليص دور الدولة في الحرب، إضافة إلى تخفي هذه الأخيرة خلف الأقنعة، إلى تغيير في طبيعة الحرب؛ إذ يبدو أن الحرب ما بين الدول، أي المعارك بين الجيوش التي تديرها الدول، لم تعد كما كانت عليه في السابق، ويشكل هذا التغيير تطورا تاريخيا لم يتم إبرازه بالشكل المطلوب.
أما حالات الحرب التي تواجه فيها الدولة بعض المجموعات الداخلية فتشكل مصدر قلق على الخصوص، لأن إمكانية التوصل إلى حلول لتلك الصراعات تظل ضعيفة جدا. والأدهى من ذلك أن حالات الحرب تتسلل إلى فضاءات اجتماعية ظلت إلى وقت قريب بمنأى عن الصراع، كما هو الشأن بالنسبة للفضاء السيبراني والفضاءات المشتركة. وتؤكد هذه التحولات الفرضية التي لطالما دافع عنها كلاوزفيتز: الحرب حرباء تتغير ألوانها تبعا للظروف التاريخية.