ثلاثية للحب والفن خطها عميد الأغنية المغربية عبد الوهاب الدكالي، صدر جزؤها الأول عن منشورات التوحيدي بعنوان “شيء من حياتي”.
تقدم هذه المذكرات لمحات من مسيرة الموسيقار والملحن البارز منذ لحظات البداية وشق طريق تعلم العود، وصولا إلى الإبداع به والصيت الواسع في عاصمة الفن العربي، مصر.
وفي مطلع هذه المذكرات، كتب عبد الوهاب الدكالي أنها مهداة “لكل من يحب… لكل عاشق… لكل من يعيش للحب والأمل”؛ فلهم، يضيف الفنان: “جمعتُ هذه الكلمات… أضفت بعض الجمل… استرجعت بعض الذكريات… فتحت تلك النافذة… نافذة شيء من حياتي”.
وبعد صدور الجزء الأول، من المرتقب صدور الجزء الثاني، عن دار النشر نفسها، في شتنبر القادم، بينما سيصدر الجزء الثالث في يناير من سنة 2023 القادمة. كما من المرتقب أن تصدر طبعة مصرية لهذه المذكرات.
وفي مقدمة المؤلّف، وعد الدكالي قُراءَه بعدم الاقتصار على “مجرد عودةٍ إلى الماضي وسرده”، بل بـ”إبراز حقائق جمعتها أشتاتا من ذاكرتي”، بروح “الواجب المفروض” الواعي بأن هذه المذكرات “قبل أن تكون نقلا لمراحل حياة فنان” هي “تسجيل صحيح لناحية من نواحي تاريخ الفن في بلادي العزيزة”.
ويضم هذا الجزء الأول، إضافة إلى ما خطّه الدكالي، لوحات رسمها، وصورا من طفولته وشبابه، وصورا لعائلته، وأولى محطات إبداعه الفني، ولقاءه مع محمد عبد الوهاب، الذي يعتبره معلّمه الأول ولو بِتَتَلْمُذٍ غير مباشر في البداية.
ومن زمن الطفولة، وما قبلها! يضم هذا الجزء الأول حكايات عن أسرة عبد الوهاب الدكالي، التي كان عاشر أبنائها، وعن محيطه بفاس، وتدوين أبيه تاريخ ولادة كل طفل من أطفاله على سارية الدار بقلم لم يجد الزمن لمحوه سبيلا.
وفي زمن الاحتلال الأجنبي، يتذكر الدكالي دعم الاستعمار حروب الأطفال بين أحياء فاس، ودراسته في الكُتّاب القرآني، فالمدارس الحرة “مدارس الوطنية والمقاومة”.
ويتذكّر الدكالي صوت رصاص طائرة حربية وهو طفل، وتأثير هذا الحدث فيه، واعتقال أخيه الذي كان ينقل منشورات وأسلحَةً بطلب من الوطنيين، كما يتحدث عن مشاركته طفلا في مظاهرات المغاربة ضد الاستعمار، وترديد شعارات على صوت الرصاص، يتذكّر منها “مغربنا وطننا روحي فداه… بن يوسف إلى عرشه والاستعمار إلى قبره”.
ويشهد الدكالي على وضع الفنون والمعتنين به وبآلاته في فاس، ويتذكر رقابة الاحتلال الفرنسي على مسرحية بإيحاءات وطنية شارك فيها، بعد ضرب المعمرين مخرجها وأخَ الدكالي ذا الإعاقة، والتمسك بالترميز للأمل في عودة محمد الخامس، الذي نفاه الاستعمار، في مسرحية أخرى.
ويحكي الدكالي عن “أيام الصبا” وشدوه بعبد الوهاب دون تطلعات لغيرِ الغناء للأصدقاء، كما يحكي عن أذنه التي دربتها ألحان هذا العلَم، وفريد الأطرش وأحمد البيضاوي وهو ببيت والديه، دون أن يغفل عن سرد علاقته بالعود، وسر دربة أنامله صديقةِ الأوتار.
ويحكي الدكالي عن ظلم لحقه طفلا من شرطي أجنبي، وتأثير ذلك فيه طيلة حياته، حتى كره اسم “البوليس” ورؤية بذلتهم في كل مكان.
ويتحدث الدكالي عن البدايات، التي كانت مع المسرح، وأخته فتيحة التي كانت أول فتاة مغربية عرف أنها قد أتيحت لها ظروف اعتلاء خشبة المسرح. أخت الدكالي فتيحة جرح غائر طبع شبابه ومساره بعد رحيل اضطراري مفاجئ عن دنيا الناس.
أخت عبد الوهاب الدكالي هي التي جعلته مطربا بعدما دفعته دفعا للمشاركة في حفل فتح للجمهور، كان يسيره الممثل البارز حمادي عمور، وعاش فيه الخوف والهلع وهيبة الجمهور، قبل أن يسجل عقبه أولى أغانيه، بالرباط، ليلتحق بعد ذلك بجوق المُنَوعات في الإذاعة الوطنية، ثم الجوق الوطني، ليحلق حرا “غير موظف” بعد هذه المحطات.
ومن بين ما يرد في هذه المذكرات “قفشات” يحكيها الدكالي، مثل تطويله أغنية “النهر الخالد” اعتبارا لثمن الدقائق.
ويتذكر الفنان نصح حمادي عمور له بالتسلح بالصبر في عالم الإذاعة “فأنت مقبل على عالم مملوء بالمتناقضات والأوضاع غير الطبيعية والمكائد والخداع والنفاق”؛ مكائد وعوائق وغيرة يحكي الموسيقار ما تيسر من نماذجها.
تحضر في الجزء الأول من هذه المذكرات حكايات تفسر انقطاع الدكالي عن المسرح، بسبب الغناء وجمهوره الذي لا يريد قبوله دون عود في يده. وكما تحضر مقاطع الهزل والصفاء، يحضر ألم الحياة والفقد ولوعة الحب وقسوة الالتزامات الإنسانية.
وتحضر في هذا الجزء أيضا حكايات من الجزائر، التي شهد استقلالها واحتفل به كما احتفل بأخوة الشعبين، وقصص من فنلندا، والطريق إليها، يتذكر معها تجارب وجدانية طبعت رؤيته للحياة. كما تحضر مصر التي كانت حجّه الفني، الذي لا اكتمال للمبدع آنذاك بدونه.
ولا تخلو المذكرات من ملاحظات لعبد الوهاب الدكالي عن الاهتمام باللغة المغربية، وفنون البلاد، التي لم يُوَرِّث حِرفيّونَ اتقانَها، وعن الحاجة للاهتمام بمعالم مغربية لحقها النسيان، دون أن تخلو السطور من حسرة على ضياع تسجيلات بالمغرب لحفلات أعلامِ فن مثل أم كلثوم.