مع دخول مشروع القانون الإطار رقم 06.22 المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية مراحله الأخيرة ضمن مسطرة المصادقة التشريعية عليه من طرف لجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية بمجلس المستشارين، بدأت تبرز ملامح ومعالم هذا الإطار القانوني الذي تعلّق عليه الحكومة كما باقي الفاعلين في المنظومة الصحية الوطنية آمالاً كبيرة لتحسين الأوضاع الحالية وتجويد الخدمات الصحية.
وقبل الشروع في مسطرة التصويت على المشروع، تقدمت الفرق والمجموعات البرلمانية بمجلس المستشارين بأبرز التعديلات العاكسة لرؤيتها قصد تدبير أمثل للمنظومة الصحية، وضمنها كان لافتا بشكل كبير مطالبة فريق الاتحاد العام لمقاولات المغرب بمجموعة من التعديلات، بلغ عددها ثمانية، على مشروع القانون، خاصة ما ورد منها ضمن نص المادة 22 من القانون الإطار سالف الذكر من “إمكانية تفويت الدولة لتدبير المرافق الصحية العمومية إلى القطاع الخاص عبر آلية التدبير المفوض”.
وفي تبريره للتعديل المقترح، أورد فريق الـ”CGEM” بمجلس المستشارين أن “هذا الإجراء يهدف إلى تيسير تعميم ولوج المواطنين إلى الرعاية الصحية، كما يأتي لتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والاستفادة من الخبرة التي يوفرها القطاع الخاص”، بعدما كانت المادة في النص الأصلي تنص على ما يلي: “يمكن للمؤسسات الصحية التابعة للقطاع العام أن تستعين كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وفق الشروط والكيفيات المحددة بنص تنظيمي، بخدمات المهنيين بالقطاع الخاص لإنجاز مهام محددة”.
في سياق متصل، طالبت تعديلات الاتحاد العام لمقاولات المغرب بـ”تحسين الوضعية المادية للأطباء”، من خلال التحيين الدوري للتعريفة الوطنية المتعلقة بأجورهم، وتعزيز التكامل بين القطاعين العام والخاص من خلال تيسير الإمكانية للأطر الطبية وشبه الطبية ممن يرغبون في الاشتغال في القطاع الخاص، وكذا تيسير الانتقال الترابي للأطباء في القطاع الخاص، من خلال التنصيص، وفق شروط يحددها نص تنظيمي، على إمكانية انتقالهم للاشتغال خارج موطنهم الأصلي”.
شراكة عادلة ومتوازنة
تفاعلا مع مقترح إمكانية استعانة الدولة بالقطاع الخاص قصد تدبير المرافق الصحية العمومية، قال البروفيسور سعيد عفيف، رئيس الفدرالية الوطنية للصحة بالمغرب، إن الدستور المغربي في فصله الـ31 يعتبر “الصحة حقا للجميع”، مشددا على أن “الدولة لا يمكنها التملص من مسؤولياتها الأساسية في تقديم وضمان خدمات صحية ذات جودة، وفي جميع ربوع المغرب من طنجة إلى لكَويرة”.
وأضاف الدكتور عفيف، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “القطاع الصحي العمومي ومرافقه وإمكانياته تظل هي الأصل ويلزم تقويتها وتدعيمها، بينما تتمثل مهمة القطاع الخاص في كونه تكميليا لتجويد الأداء والخدمات والمرافق”، مبرزا أن الإطار الأمثل للشراكة بين القطاعين يجب أن يضمن “توازنا عادلا للعلاقات وتوزيع الأدوار والمهام”.
كما لفت المتحدث إلى ضرورة “إعادة النظر في هذه الشراكة التي تبدو مختلة خلال السنوات الأخيرة لفائدة القطاع الخاص، على حساب جودة الخدمات العمومية في قطاع يُفترض أن تنهض فيه الدولة بمسؤوليتها الكاملة لتأهيله وتقويته، دون إغفال تشجيع المؤسسات الصحية الخاصة”.
محورية قطاع الصحة
“من الناحية المبدئية، من المهم جدا وجود مقترحات تذهب في اتجاه تطوير وتجويد منظومتنا الصحية والاستشفائية الوطنية، كما أنه من المشجع أن تكون مقترحات ذات رؤى جديدة من أجل تدبير جديد يستجيب لحاجيات التطور في القطاع الصحي”؛ هكذا استهل الدكتور الطيب حمضي، طبيب عام باحث في السياسات والنظم الصحية بالمغرب، حديثه لهسبريس، قبل أن يشدد على “وجوب تعزيز قطاع الصحة؛ لأنها هي التي تحمي باقي القطاعات الاقتصادية والمجتمعات”.
وأكد حمضي أن النقاش العام يجب أن يُؤطَّر بفكرة عامة مفادها أن “الصحة ليس لها ثمن ولكن لديها كلفة”. وزاد: “الصحة موضوع لا يجب أن يكون تدبيره مبنيا فقط على الكلفة التي يجب أن تكون بطريقة عقلانية، بل هي عماد تنمية وصمام أمن استراتيجي للبلاد”.
في السياق ذاته، سجل حمضي أن “القطاع العام في الصحة له دور محوري وأساسي ومهم. ورأينا كيف أن دولا ليبرالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية صرفت أموالا طائلة من أجل حماية جميع مواطنيها قصد محاربة أزمة كوفيد-19 للحفاظ على توازن واستقرار وسلامة المجتمع”.
“الأزمات كاشفة”
الفاعل المهني الباحث في منظومة الصحة المغربية ذاته لفت الانتباه إلى أن “الأزمات الصحية وتوابعها، مثل تلك التي شهدها العالم إبان فترة كوفيد-19، أبانت بشكل جلي عن الدور المحوري للقطاع الصحي العام”، مردفا أن “القطاع العام بمثابة قاطرة تجر منظومة الصحة، دون إغفال تشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي فيه الذي فتح المغرب الباب أمام رؤوس أمواله، وهو ما لا يتعارض بأي حال من الأحوال كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل هو في الواقع علاقة تكامُل، يجب أن تضمن للقطاع الصحي العمومي نوعا من الجاذبية”.
وتابع حمضي بأن الحديث عن “شراكة قطاع عام-قطاع خاص” في شق الخدمات الصحية ومرافقها، “يجب أن تضمن الاستفادة المتبادلة والعادلة من الإمكانيات المادية والبشرية والتكنولوجية واللوجستية من أجل تقديم خدمة عمومية ذات جودة”.
تأهيل الصحة العمومية
الفاعل الطبي عينه، الذي يشغل أيضا مهام في هيئات صحية مغربية مختلفة، دعا إلى “الاعتناء والنهوض وتطوير واقع المستشفيات العمومية الحالية وزيادة الاستثمار فيها، بالموازاة مع تشجيع رؤوس الأموال الخاصة، سواء الوطنية أو الأجنبية”، في أفق معالجة “إشكالية الخصاص الكبير في المرافق كما في الأطر والبشرية”.
وخلص حمضي إلى أن مقترح تدبير مفوض لبعض المرافق الصحية العمومية بالمغرب يجب أن يضع هدفاً له “الترشيد والعقلنة والحكامة”؛ هذه الأخيرة التي “تظل المستشفيات العمومية في حاجة ماسة إليها، من خلال التفكير في آليات مراقبة قبلية وبعدية، مثلا، وإمكانية الاستعانة بمنطق التسيير المقاولاتي (الخصوصي) داخل البنيات الصحية العمومية بأطر طبية عمومية”.
واعتبر الفاعل الصحي ذاته أن اعتماد آلية التدبير المفوض كما جاء في مقترح تعديل القانون الإطار، “يجب أن تسبقه عملية تأهيل واسعة وشاملة تضمن الرفع من نجاعة ومردودية وحكامة الصحة العمومية”.