صدرت مؤخرا الطبعة الثالثة من كتاب “الصحافة والتاريخ” للطيب بياض، أستاذ التاريخ الاقتصادي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بمدينة الدار البيضاء، عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر.
وتميزت هذه الطبعة الحديثة بلوحة غلاف جديدة للفنانة فاطمة الحمومي، وتقديم جديد من توقيع جمال فزة، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة محمد الخامس بالرباط.
ويدرس الكتاب العلاقة “المتوترة” بين الصحافي الذي يحكمه الهاجس الآني من جهة، والمؤرخ المحكوم بالحس الزمني من جهة أخرى، ويُبين بياض أن الإنسان يبقى هما مشتركا بين الطرفين بآليات متفاوتة، ويتحدث عن ذلك في جزء أول يُعنى بإبستومولوجيا المعرفة التاريخية، ثم يعرض تجربته في زاوية المعالجة التطبيقية في الجزء الثاني.
وقال فزة، في تقديمه للطبعة الثالثة، إن بين كتابة التاريخ والكتابة عن التاريخ أو في التاريخ فرق شاسع هو الفرق نفسه الموجود بين التاريخ والمعرفة التاريخية.
وذكر فزة أنه “ليس من باب التخصص أن يهتم المؤرخ بالمعرفة التاريخية، بل إنه لا ينهم بها إلا إذا طال الشك الأسس التي تقوم عليها الصنعة التاريخية نفسها، فيصير لزاما عليه أن ينظر في شروط إمكان المعرفة التاريخية ومصادر مشروعيتها، وهذا كان موضوع كتاب الصحافة والتاريخ لصاحبه بياض الطيب”.
وأشار أستاذ علم الاجتماع إلى أن صاحب كتاب “الصحافة والتاريخ” يرجع بنا، مهتديا برواد مدرسة الحوليات، وفي طليعتهم مارك بلوك، إلى السؤال الأول: ما جدوى التاريخ؟
وقال الأستاذ الجامعي في تقديمه إن هناك “حاجة إلى مؤرخ بنفَس وروح مؤسس مدرسة الحوليات، ينقل التاريخ من معايير التضلع إلى شروط المدة الطويلة، حتى لا نتيه في زمن تشظي المعاني وتشتتها”.
وخلص فزة إلى أن “ممارسة التاريخ من أسفل لا يعني كتابة تاريخ مفتت إلى وحدات صغرى، بل تاريخ يستطيع أن يستنطق الأحداث المتفرقة ويُقَوِّل الوثيقة بفضل وصف مكثف لحياة الناس ولعوالمهم المعيشة”.
وفي نظر صاحب التقديم، تنضاف الملاحظة إلى الوثيقة ليشكلا معا عدة مؤرخ مقتنع قناعة مارك بلوك، الذي أخذها بدوره عن أستاذه بيرين (Pirenne) بأن الواجب الأول الذي يتعين على المؤرخ أن يضطلع به هو الاهتمام بالحياة، وأضاف أن “هذا ما حدا بمارك بلوك أن يستدرك وهو يحول موضوع التاريخ من دراسة الماضي إلى دراسة الإنسان بقوله: (لقد تعلمنا منذ زمن طويل على يد شيوخنا أمثال ميشلي وفوستيل دي كولانج أن موضوع التاريخ هو الإنسان {L’Homme} أو بالأحرى الناس {les hommes} في الزمن)”.
واعتبر فزة أن الطيب بياض أدرك في العمق الطابع الإشكالي للتجديد في حرفة المؤرخ، بل وقد عاش الإشكالية وهو يحتك بدور الصحافي ويزاول هذه الحرفة، وهو ما جعله يفاوض باستمرار معنى الأحداث من خلال بنينة الظرفيات (structurer les conjonctures)؛ فلا هو فرط في مادة الحدث، التي تسمه بميسم الفرادة، ولا هو فرط في صورة الحدث، التي تجعله قابلا للفهم والإدراك العقلي.
وفي رأي فزة، فإن “المؤرخ المجدد هو الذي ينتبه إلى عبارات تبدو في منطق الحياة اليومية تافهة لا قيمة لها، بينما هي في الواقع تكثف في صيغتها ومضمونها قاعدة تفسيرية عامة”.
ورصد أستاذ علم الاجتماع أن أول تجديد يدعو إليه الطيب بياض هو التحقيب بحسب الإشكالية، فالحقبة لا تنحل إلى مجموعة من الأحداث المتشابهة والمتجانسة، بل إلى مشكلة عامة وأسلوب استدلال في التعاطي مع الأشياء ميز مرحلة زمنية ما.
وبهذا المعنى، حسب فزة، يتحول التاريخ من وعاء يشتمل على أشياء إلى بناء يحتمل معان ويحمل دلالات. الوثيقة في المعنى الأول للتاريخ تَقول وفي المعنى الثاني للتاريخ تُقَول.
وتساءل مقدم الكتاب: “هل آن الأوان، بعد كتاب الصحافة والتاريخ، لإعلان ميلاد تاريخ تأويلي ينشغل فيه المؤرخ بالمعنى ولا يقتصر على التحقيق؟ وهل ستكون مناسبة أخرى لحوار جديد ومجدد بين المؤرخ والإثنولوجي، بعدما نجح بياض الطيب في استخلاص ما ينبغي استخلاصه من حوار المؤرخ والصحافي؟”.