قدّم الناقد السينمائي المغربي محمد بنعزيز نقدا حول فيلم “مفقود أركتيك” 2022، الذي أخرجه الدانماركي بيتر فيلنت، حيث أشار، في مقال له، إلى أن نقد الفيلم جرى وفق منهج دراسة حالة، لكي يكون النص ناشئا بعد مشاهدة الفيلم وليس خطابا سابقا لها.
وحاول بنعزيز، في مقال له بعنوان “فيلم ‘في مواجهة الجليد’ جدل لا متناهي الكبر ولا متناهي الصغر على الشاشة”، الإجابة عن أسئلة “أين؟ متى؟ من؟ لماذا؟ كيف؟ من أجل تقريب مضمون الفيلم من القارئ، موضحا أن الموضوع يهمّ رجليْن في مواجهة الثلج يتركان أثرا مكتوبا بين الحجارة لكي تعثر البعثات الاستكشافية اللاحقة على بصمتيهما وأثرهما إن ماتا…
وهذا نص المقال:
يستخدم هذا المقال الأسئلة الخمسة لنقد فيلم “مفقود أركتيك” 2022، من إخراج الدانماركي بيتر فيلنت، وفق منهج دراسة حالة، وذلك لكي يكون النص التالي ناشئا بعد مشاهدة الفيلم وليس خطابا سابقا لها.
أين تجري الأحداث؟ على عتبة القطب الشمالي، متى؟ في لحظة تحول مذهلة، لوضع المتفرج في سِياقها دراميا لا لفظيا.. قدم الميكانيكي طلبا للعمل في سفينة تيتانيك ورفض طبله فحزن، وحين علم أن السفينة كسرها الآيسبيرغ فرِح لأنه نجا من الموت. مساعد غريب عن مهنة الاستكشاف، لكن له مهارة ذات مستقبل؛ كان ميكانيكيا مطلع القرن العشرين. زُرعت الأحداث في مطلع القرن حين اخترعت آلات جديدة صارت اليوم مملة… كان الاستماع إلى أغنية على غراموفون حدثا وكان التقاط صورة عيدا.
من؟
مستكشف واثق من نفسه ومن نبل مهمته، واثق حتى في أشد الطروف صعوبة… يتم القذف به في اختبارات خطرة في منطقة نائية.
لماذا؟
لحكي مهام بعثة جديدة تتعقب آثار بعثة سابقة اختفت في الثلج. هنا تلتقي الشخصية والمكان في الحكاية. هذه حكاية مستكشف بارع لا يستسلم.. للرحلة الاستكشافية هدف مزدوج، علمي وسياسي…مستكشف يبحث عن مخطوط يثبت ملكية بلد ويحقق سبقا… بينما هو يبحث يكتب ملاحظات، من يكتب يترك أثرا، يَخلد… اليد التي لا تكتب رجْل.
تم العثور على المخطوط… كان دليلا جغرافيا على الوحدة الترابية للدانمارك… دون تلك الوثائق ستحتل أمريكا المنطقة… يسخر المستكشف الدانماركي من كون الأمريكيين يزرعون علما في كل أرض حلوا بها… يريدون السيطرة على كل القطب الشمالي… هكذا تلتقي الحكاية المحلية بالحكاية الكونية.
من؟ أين؟ متى؟ ولماذا؟ هذا هو الموضوع: رجلان في مواجهة الثلج يتركان أثرا مكتوبا بين الحجارة لكي تعثر البعثات الاستكشافية اللاحقة على بصمتيهما وأثرهما إن ماتا…
كيف؟ هذا هو الأسلوب: فيافي ثلج في لقطات عامة. لقطة فم يرتعش عليه رذاذ ثلج.. كاميرا في مواجهة اللامتناهي الكبر واللامتناهي الصغر… يجمعهما مونتاج جدلي تتوالى فيه اللقطات بالتناوب بين متناهي الكبر ومتناهي الصغر… تكشف الكاميرا صغر حجم الإنسان مقابل عظمة الطبيعة… لكن للإنسان سلاحا أقوى يحميه من الفناء: البوصلة والكتابة.
يوفر الأسلوب زاوية مقاربة للفيلم لأنه من الصعب الكتابة عن فيلم فيه صفر أسلوب، صفر تفكير في الشكل الذي يعرض به موضوعه، وصفر وعي بالتقنية التي يسرد بها قصته…حتى موضوع الفيلم يمجد الكتابة وهي مَلِكة الأسلبة.
لقد مات المستكشفون السابقون، وجار البحث عن أثرهم، أكيد كتبوا ملاحظاتهم التي تمثل سبقا… بعد جهد عثر على مخطوط يقوي الأمل ويحفز على متابعة المغامرة… يستمر المستكشف في معرفة الاتجاه بفضل البوصلة والحروف… يترك أثرا مكتوبا بين الحجارة لكي تعثر البعثات الاستكشافية اللاحقة على أثره إن مات في الصقيع… تنقرض الأجساد وتخلد الكتابة… الحروف أشد من الثلوج والجبال، للكتابة قيمة كبيرة، الكتابة أخطر من الطبيعة… لذلك يكتب المستكشف طيلة الوقت. تربط الكتابة اليد والعقل. ما دخل العقل عن طريق اليد لن ينسى.
بفضل الأثر المكتوب تتعقب بعثة جديدة آثار بعثة مفقودة في فضاء عدواني، يغذي البؤس والعزلة التخيلات والأوهام… يتظاهر البشر في الأزمات بأن كل شيء بخير… يتظاهرون، لكن في دواخل أنفسهم غليان… هنا تصبح الكتابة تسلية وعلاجا… في هذه البيئة الصقيعية يصير الأمل عملة نادرة.
رجلان في الخلاء، يقدم المستكشف لمساعده دروسا في إدارة قطيع الكلاب… في هذه العزلة تطفو ذكريات النساء… حينها يغلب الوهم على الحقيقة لتعزية النفس… بعد مكابرة يعترفان بأنهما يفتقدان صحبة النساء، يفتقدان ضحكة وعطر وصحبة الأنوثة… في هذا الصقيع.
لقد عرضت منصة نيتفليكس مسلسلات كثيرة عن حياة شعوب شمال أوروبا البارد. حين تتجمد الأقدام يجب قطع أصبع القدم لكي يتدفق الدم من جديد… هذا فضاء عدواني علّم سكانه أن لحظة برد هي أقسى من سبع سنوات دفء.
بينما يتابع المشاهد الفيلم آمنا جالسا على أريكة في غرفة مكيفة يعيده الفيلم إلى حقيقة عاشها البشر طيلة ملايين السنين، وهي احتمال أن يموتوا من البرد والجوع… وحقيقة أن عليهم أن يسافروا خفافا لأنهم يحملون حاجياتهم على ظهورهم.
تتنقل الكاميرا بين متناهي الكبر ومتناهي الصغر… متناهي الكبر طبيعي… جبل وصخر وثلج…واللامتناهي الصغر هو الكائن البشري… تتناوب هذه اللقطات… في هكذا أفلام شخصيات قليلة لأنه لا يتم عصر الشخصيات في الأفلام حيث تزدحم الشخصيات في الكادر. هنا تم عصر الشخصيتين بعزلهما في فضاء عدواني… في العزلة تعود الذكريات… تدقق الأسئلة فتخرج العدوانية الكامنة في كل فرد عن السيطرة وتقع مطاردة في الثلج كما في فيلم “بريق” 1980 ستانلي كوبريك. من فرط التشابه نظر الممثل إلى الكاميرا في اللقطة لأنه كان يفكر في المشهد الأصلي أكثر من تفكيره في استنساخه.
يتسكع المغامر في فضاءات لا نهائية، يعيش رحلة استكشاف مزدوجة، يجري اكتشاف الرفيق واكتشاف النفس، نرى شخصا وحيدا على سطح أبيض لا متناه… ينظر في كل الجهات ولا أحد على مرمى البصر الذي لا يحده إلا الأفق… يتقدم باتجاه العدم، يحدوه أمل مهول… سلاحه بوصلة ومخطوط… لكن نهاية الرحلة تثبت قدرة الإنسان على ترويض الطبيعة وإخضاعها لتحقيق أهدافه… بينما يمضي المغامر في رحلته في القفار تطارده الكاميرا من مسافات متباينة… مع أفق مفتوح لا يحده جبل أو عمارة.
في هذه الفضاءات الواسعة يجد المخرجون طبوغرافيا ملائمة للعب بالمنظور بين لامتناهي الصغر الذي يصير لا متناهي الكبر حين يصوّر في لقطات كلوز آب… يمكن تعميم دراسة هذه الحالة على أفلام مشابهة كأفلام الويستيرن. وكان آخر استخدام لهذا الأسلوب في فيلم “قوة الكلب” الذي منح جين كامبيون أوسكار الإخراج لعام 2022.